القاصّة أليس مونرو الفائزة بـ”نوبل” الآداب 2013: أحبّ الكتابة بطريقة تخيف الناس قليلاً
يرى البعض أن القصة القصيرة دخلت مجدداً عصراً ذهبياً، بنيل الكندية أليس مونرو جائزة “نوبل” للآداب. ولعل تعقيب مونرو المباشر على نيلها الجائزة يعزز هذا الافتراض: “أرجو أن يتطلع الناس، بفعل هذا الفوز، إلى القصة القصيرة كفن مهم، وليس مجرد عمل تشتغل عليه إلى أن تحصل على رواية”. قالت هذا بعد أن عبرت عن ردة فعلها المغتبطة تجاه فوزها: “يبدو هذا أقرب إلى المستحيل. هذا أمر رائع الحدوث. لا يمكنني وصفه، أمر يفوق قدرتي على الوصف”.
واقعاً عملت مونرو على تثوير هندسة القصة القصيرة، بادئة بالحدث في مكان غير متوقع، لتتحرك من ثم إما إلى الوراء أو إلى الأمام على صعيد الزمن، مستكشفة العلاقات المتشابكة بين الرجال والنساء، ضمن بلدات أو مدن صغيرة ومعرضة شخصياتها إلى سقطات الذاكرة. أسلوبها وحيوات شخصياتها قرباها من عالم تشيخوف حتى غدت برأي سلمان رشدي “سيدة حقيقية لشكل القصة القصيرة وفنها”. وهي حسب السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية المانحة للجائزة “تقدم تصويراً فانتازياً لشخصياتها البشرية”.
حوار قصير مع سكرتير الأكاديمية السويدية
كان ثمة أكثر من مئة صحافي ينتظرون إعلان الفائز، بينهم العديد من اليابانيين الذين توقّعوا فوز هاروكي موراكامي، الروائي الياباني، بالجائزة. بعد الإعلان عن اسم أليس مونرو تتالت الأسئلة من الصحافيين على السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية بيتر إنغلند. فيما يلي إيجاز للأسئلة والأجوبة بين الصحافيين وإنغلاند:
[ لماذا فازت أليس مونرو؟
ـ منحناها جائزة نوبل للآداب لأنها واحدة من أسياد القصة القصيرة.
[ بأي من كتبها تبدأ؟
ـ إحدى الصفات المذهلة عندها أنه ليس من أعمال ضعيفة في مجمل أعمالها. لقد بذلت على الدوام أفضل ما تستطيعه. اشتغلت دائماً على تشذيب القصة القصيرة لتبلغ ضفة الكمال، ولم تكتب مرة عملاً ضعيفاً أو سيئاً… “أقمار جوبيتر” شكّل العمل الأول الذي قرأته لها، ويمكنكم تبين كل من مواضيعها المختلفة في ذلك الكتاب وكذلك أسلوبه السردي الخاص. هي تروي قصصها كما لم يفعل غيرها إلى حد بعيد. تتميز بلغة اقتصادية وأسلوب ضئيل التنوع، يمكن الوقوع على ذلك في “أقمار جوبيتر”. مجموعتها الأخيرة “أيتها الحياة العزيزة” التي تحوي عدداً من اسكتشات سيرة ذاتية تعطي في نهايتها مثالاً عن سطوة أليس مونرو السردية.
[ كيف أُعلِمتْ بفوزها؟
ـ ت حسناً، تركت لها رسالة على مجيبها الآلي. لم يتسن لي إبلاغها شخصياً، كان الوقت باكراً جداً عندها. لكن سيصار لاحقاً إلى إعلامها…
[ ما نوع الرسالة التي تركتها لها؟
ـ تهانئي، بالتحديد! لقد فزتِ بجائزة نوبل للآداب.
[ ما أهمية فوز إمرأة بالجائزة؟
ـ لا تسألوني على هذا النحو. اخترناها لتميزها، وليس لأي سبب آخر. بالطبع الأمر يؤثر بحدود ما حين تبدأ بالتقييم لكنها ليست ممثلة للجندر. لقد حازت هذه الجائزة بسبب ما أنجزته. ليس لأي سبب آخر.
[ إذن عملية الموازنة بين الجنسين لا تؤخذ في الاعتبار؟
ـ ليس لدينا هذا النوع من الكوتا، الحمد لله… ليس لدينا أي كوتات. يمكننا، إذا أردنا، منح هذه الجائزة أربع مرات متتالية إلى مؤلف كتب للأطفال يعمل في الولايات المتحدة. هذا إذا شئنا ذلك. يمكننا فعل ما يرضينا. ليس علينا تخصيص كوتات في أي اتجاه. جُل ما نفعله أننا نمنح الجائزة إلى كتّاب يظهرون التمتع بميزة أدبية غير عادية. واحدة من هؤلاء هي السيدة أليس مونرو.
أسلوب مونرو
يتصف أسلوب مونرو، التي صرحت بعد الفوز أن خسارة القصة القصيرة لنسبة كبيرة من جمهورها هو بسبب موت المجلات الشهيرة التي اعتادت احتضانها، يتصف أسلوبها حسبما قالته الكندية مرغريت آتوود “بالانغماس في الأمور غير المحببة بل السيئة من الحياة وحتى الجوانب المخفية المنطوية على الحقد من الطبيعة البشرية، كما وتنهمك في إخبار الأسرار الإيروتيكية، والحنين إلى المآسي المتلاشية، فضلاً عن الغبطة بامتلاء الحياة وتنوعها، وكل ذلك يجري تحريكه سوية ودفعة واحدة”. وفي حين تعمل قصصها غالباً على الإسهاب في تقديم كندا مهذبة ومحترمة، إلا أن الكاتبة بنت سمعتها على وصف اليأس والاستغلال، والغربة الإنسانية، مركّزة بشكل ما على الخيانة بين الرجال والنساء.
تتموضع قصص مونرو بشكل أساسي في منطقة أونتاريو الكندية حيث ترعرعت، لتقوم بتوثيق الآلام والورطات المتنامية للشابات، ضمن بيئات ريفية محدودة، وبالأخص علاقتهن بالرجال.
أما بخصوص مقارنتها بتشيخوف، فالحبكة لديها كما لديه تعتبر ثانوية “حيث القليل يحدث”. وكما لدى تشيخوف، حسب غاران هولكومب، “كل شيء يعتمد على اللحظة الظهورية، التنوير المفاجئ، على التفصيل الكاشف الموجز اللماح”. يتعامل عمل مونرو مع الحب والعمل، وفشل الإثنين. إنها تشارك تشيخوف هوسه بالوقت وبعدم مقدرتنا على تأخير أو منع حركته التي لا تلين صوب الأمام”.
لعل أحد المواضيع المتكررة في عملها والذي أكثر ما يبان في قصصها المبكرة هو معضلة الفتاة التي تكبر ومن ثم تصالحها مع عائلتها ومع البلدة التي ترعرعت فيها. إلا أن مونرو حولت اهتمامها لاحقاً مع عمل مثل “الهارب” (2004) إلى ترحال العمر الوسط، لنساء وحيدات ولنساء متقدمات في العمر أيضاً. جزء من أسلوبها قيام الشخصيات بممارسة الكشف الذي يضيء الحادثة ويعطيها معنى ما.
يكشف نثر مونرو التباسات الحياة، التهكمية منها والجدية، كما المعرفة الخاصة التي لا نفع لها، والذوق السيئ، وقساوة القلب، والاستمتاع بها. يضع أسلوبها ما هو فنتازي قرب العادي مع تقاطع واحدهما مع الآخر بطرق بسيطة وبلا تعب بهدف حفر خشبة الحياة.
قال العديد من النقاد أن قصص مونرو لها العمق العاطفي والأدبي للرواية، ومن هنا لطالما طرح السؤال هل هي تكتب قصصاً طويلة أم روايات قصيرة!
يقال أن خمس مجموعات نالت جوائز مهدت الدرب أمام مونرو لنيل نوبل للآداب هي: “رقصة الظلال السعيدة”، “حيوات الفتيات والنساء”، “من تظن نفسك”، “حب إمرأة طيبة” و”أيتها الحياة العزيزة”.
مقابلة: الأدب الذاكرة والضرب بالحزام
في عددها الأخير أجرت فصلية “فيرجينيا كوارتلري” مقابلة مطولة مع الأديبة مونرو، نورد فيما يلي أهم مفاصلها، وذلك كما أجرتها معها ليزا ديكلر آوانو.
[ ما هي آلية عمل كتابتك؟
ـ أعمل ببطء. الأمر دائماً صعب بل تقريباً هو دائماً صعب… نسق عملي الآن هو النهوض صباحاً، تناول القهوة، ثم البدء بالكتابة. بعدها بقليل، قد آخذ فترة راحة قصيرة لتناول الطعام ومن ثم أعود للكتابة. الكتابة الجدية تحدث في الصباح. قد أكتب حوالي ثلاث ساعات. أعيد الكتابة كثيراً، قد أ فكر أن العمل أنجز لكني حتى بعد أن أرسله قد أود إجراء إعادة كتابة لتغيير عدد من الكلمات أراها مهمة جداً ولذا أسترد الكتاب لأُدخِلها… بسبب أشغالي المنزلية وتربية الأولاد إنتهيتُ إلى اعتماد القصة القصيرة، الدويلة. استطعت قول ما أريده ضمن ذلك الحيز… لم أعد أهتم الآن إذا كان ما أكتبه مجرد قصة قصيرة، لتصنيفه كقصة. المهم أنه قطعة سردية، هذا كل ما في الأمر.
[ أنت كاتبة ليريكية (الشعر الغنائي) جداً. هل ما زلتِ تكتبين الشعر؟
ـ آه، القليل بين الحين والآخر. أحب فكرة الشعر، لكن عليك الانتباه حين كتابة النثر ألا يأتي متراصاً بل موجزاً كما الشعر. يجب أن يتحلى بقدر من الحدة، أحب الكتابة الآن بطريقة، لا أدري، من النوع الذي قد يخيف الناس قليلاً؟
[ يبدو أنكِ مهتمة جداً بالفولكلور (خصوصاً المرويات الشفوية)؟
ـ لا يدرك المرء بما سيكون مهتماً به مسبقاً. فجأة تدرك أن “هذا” ما تريد الكتابة عنه. قد لا أكون قد فكرت بذلك قبلاً، لكني أصغي إلى العديد من القصص التي يخبرها الناس وأتفهّم إيقاعها ومن ثم أحاول الكتابة. أسأل نفسي لماذا هذه القصة بذاتها مهمة جداً للناس. تسمع الكثير من القصص التي يخبرها الناس والتي قد توضح بعض غرابة الحياة. أتناول هذه القصص لأرى ما قد تقوله لي، أو كيفية رغبتي في التعامل معها.
[ قرأت في مكان ما أن الفولكلور هو الشكل التواصلي الذي تعتمده النساء لإخبار قصة.
ـ أعتقد هذا صحيح، أن النساء اللواتي لم يؤخذن بجدية سابقاً، حتى بعد أن تعلمن القراءة والكتابة، وصار بمقدورهن الكتابة، ثابرن كما في السابق على إخبار أو تلاوة الحكايات. تنفق النساء الكثير من الوقت مع بعضهن البعض، أو هكذا إعتدنّ كان الرجال يعملون في الحقول وحين يعودون كما أتذكر من طفولتي كنا نخدمهم بوجبة كبيرة. كانت النساء يشعرن بالفخر بمدى كبر ولذة الوجبة فيتحدثن لاحقاً إلى بعضهن بهذا الخصوص. لكن هذا ذهب مع الحياة الريفية، ولا أدري إذا كانت النساء لم تزلن تتحدثن إلى بعضهن. لكن ما أن تجتمع النساء مع بعضهن، أعتقد ثمة حافز أو رغبة لديهن لإخبار القصص وطرح الأسئلة بخصوص سبب حدوث ما حصل معهن. لدى المرأة كما أعتقد ميل لتفسير الحياة كلامياً فيما ليس لدى العديد من الرجال الذين عرفتُ هذه الرغبة. يفضلون متابعة ما يفعلونه من دون التساؤل كثيراً حوله.
[ أتساءل إذا كان هذا قد يشكل تبصراً بالسبب الذي دعاك لاختيار شكل القصة القصيرة أم هل يمكن التساؤل عما إذا كانت هي التي اختارتك؟
ـ يمكن افتراض ذلك. أحب العمل مع الناس، التعامل مع محادثة الناس ومع المفاجآت التي تحدث لهم. هذا بالنسبة لي مهم جداً، أقصد الذي يحدث من دون أن تتوقعيه. في إحدى قصصي القصيرة، “الهارب” تقرر إحدى النساء التي تعاني من زواج صعب جداً ترك زوجها ويشجعها على ذلك إمرأة عقلانية جداً أكبر منها سناً. لكنها حين تحاول الهرب تاركة الزوج، تدرك عدم قدرتها على فعل ذلك، لكن ليس بمقدورها ذلك. لماذا؟ وهكذا هذا هو نوع الشيء الذي أكتبه. لأني لا أعلم “لماذا”. لكن عليّ الإصغاء إلى ذلك. نعم، ثمة أمر هنا يستحق إيلاءه الاهتمام.
[ تتردد المواضيع عبر أعمالك، رابطة قصصك مع بعضها البعض من خلال المجموعات. يمكن الاعتقاد أن “الهارب” كان يمكن أن تشكل عنواناً موازياً لبعض القصص في مجموعة “أيتها الحياة العزيزة”، مثل قصة “القطار”؟
ـ آه أجل، أجل. تلك القصة أثارت اهتمامي كثيراً لأني أعتقد أن الناس لا يريدون أحياناً ما عليهم فعله. أقصد أن ذاك الرجل جاكسون، بطل الرواية، كان عليه الابتعاد عن شراك حياته الشخصية. لم يكن يدري لماذا. لكن حينما دنتْ منه، استحق الأمر. ثمة عنصر جنسي في الموقف، لكنه ليس الشيء الوحيد، وباعتقادي يوجد أناس على هذه الشاكلة.
[ إعتقدت أن إحدى شخصياتك في “أيتها الحياة العزيزة” التي تحقق ما تحتاج إليه في الحياة، أقصد المرأة “بل”، موجودة أيضاً في “القطار”.
ـ أوه، أجل، أجل، أجل. أعتقد أنها كذلك. وأراني أحب الطريقة التي تغدو فيها أكثر فأكثر صريحة حيال الأمور مع تناولها أكثر فأكثر للحبوب. إني حقاً أحبها. لكنها عبارة عن إمرأة ناجية، بطريقة غريبة نوعاً ما، لأن الكثير من الأشياء كانت ضدها صعبة عليها. لكني أعتقد ثمة أناس مثلها في الحياة يأخذون ما يقع لهم ويحوّلونه إلى قصص أو حكايا الجن. بمعنى أنها لا ترى حياتها على أنها تنطوي على الحرمان بل تراها شيقة. مع أنها لا تعيش كما شخص من طبقتها، هي غير متزوجة، لكنها لا تكافح بنجاح فقط وإنما تحبك ذلك داخل نسيج حياة خاصة بها، وهي لطالما ستفعل ذلك. تعرفت إلى أناس مثلها، إلى أناس يتميّزون بأن لديهم هبة الاستمتاع بالحياة وبأن يكونوا سعداء إلى حد ما.
[ أناس مثلك؟
ـ أعتقد أني تقليدية كثيراً بالقياس إليهم.
[ باعتقادي أن قصتك “ليس من حسنات” تقدم نفاذاً ما إلى نجاحك. أشعر حين تصفين “بل” أن نجاحها شبيه بنجاحك. واجهت كل تلك المصاعب، وعملتِ على تحويلها إلى فرص للكتابة.
ـ هذا صحيح، لكني وفقت أيضاً بالوفير من الحظ. لو أنني كنت فتاة مزارعة من جيل سابق، لما أتيحت لي الفرصة، لكن في الجيل الذي عشته كان ثمة منح دراسية. لم تتشجع الفتيات على الحصول عليها، لكن أنتِ تستطيعين فعل ذلك. كنت أتخيل منذ عمر مبكر أنني سأغدو كاتبة. وإنتبهي، لا شخص آخر فكر ذلك أو قد يفكر ضمن شروط كهذه التي عشت. لكن الأمر لم ينطو على نزوات لدي فقط. قمت بالعديد من المهام أو العمل الجسدي كفتاة صغيرة لأن والدتي لم تكن قادرة على ذلك، بيد أن هذا لم يكن كافياً لإبطائي. أفكر أني كنت بطريقة ما مخطوطة. لو أني ولدتُ لعائلة ذات ثقافة أو تعليم جد عال، لنقل عائلة من نيويورك، لأناس يعملون كل شيء عن الكتابة، لكان ذلك أثبط عزيمتي وقلت لنفسي “أوه، لا أستطيع فعل ذلك”. لكن كوني لم أعش مع أناس فكروا بالكتابة، امتلكت تالياً تلك المقدرة على القول، “حسناً يمكنني فعل ذلك”.
[ في قصة “عزيزتي الحياة” تعملين على استكشاف مفارقة علاقتك بوالديك.
ـ الأمر ينطوي على الحب والخوف والكره. إنها كل هذه الأشياء.
[ تواظبين في أعمالك الأخيرة على العودة في أعمالك الأخيرة على العودة إلى علاقتك بوالدك، الذي كان كاتباً حقق ذاته، وشخصاً حساساً، ومطالعاً طوال حياته. صورته في العديد من قصصك على أنه كاتب يافع في حالة تطوير الذات. لكن لاحقاً ثمة الحقيقة التي لا يمكن زحزحتها، ولم تستطيعي إبعادها، أنه كان يضربك بالحزام حين نشأتكِ.
ـ هذا صحيح. وبمقدوري القول، “حسناً”، هذا كان أمراً شائعاً في تلك الفترة معظم الذين أعرفهم تعرضوا للضرب بين الفترة والأخرى”. ضرب الولد لم يكن بأي حال مرفوضاً أو يستحق التوبيخ، بل وسيلة طبيعية لتقويم الولد أو البنت. والسبب أيضاً أنه بسبب الفقر، والحاجة إلى تقديم الإبن العمل إلى العائلة. كل ذلك بدا عملياً جداً، وكان ثمة حاجة لفعله. لكنه كان في المقابل مخيفاً، وربما كما قد يتراءى للكثيرين محطماً بل هداماً. لا يمكنني التفكير بتلك الطريقة… لم أزل أرفض ذلك وأشعر بالرعب حياله، وحيال سبب حصوله لم يكن هناك لا الوقت ولا المال لتربية الأولاد بطريقة تأخذ حاجاتهم في الاعتبار وسبب تصرفهم بطريقة معينة. ولم يكن ثمة وقت للسماح للأبناء لأن يردوا جواباً ويأخذوا راحتهم في وجه أهلهم. كان المهم إنتاج ما يكفي للعيش، على كل فرد أن يعمل ويكون مفيداً للعائلة. لكن لأني كنت إبنة متمردة جداً، على الأقل لدي أفكار أودّ التعبير عنها، كنت أُعتبر وقحة بردّي على أي شخص. كل هذا كان يبدو إنتاج العائلة.
[ وكانت لك أيضاً علاقة تناقصية أحياناً مع والدتك.
ـ وبطريقة ما، كان ذلك أكثر تعقيداً، لأني كنت بشكل أساسي من ناحية السلوك والتصرف أشبه بوالدي كثيراً، لكني لم أكن أشبه بوالدتي، وذلك مما سبب حزنها.
[ هل حزنتِ بسبب مرضها؟
ـ لا، ليس بسبب مرضها، واقعاً. لكان الأمر أكثر سوءاً من دون مرضها. لكنها أرادت أن ترى إبنة مطيعة، نشطة لكن مطيعة، تسمّع الدرس، ولا تطرح أسئلة بخصوص أي شيء.
[ ومع ذلك كانت متقدمة على زمانها في العديد من النواحي؟
ـ في العديد من النواحي، أجل. كانت إمرأة بديعة فيما خص حقوق النساء وما شابه. كانت بيوريتانية جداً، وهذا ما كانته العديد من النساء في زمانها.
[ في قصة “أيتها الحياة العزيزة”، من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، تستخدمين فكرة تجديد البيت من ضمن الاشتغال على أعمال الذاكرة. هل لكِ أن تصفي كيف تفكرين حول طبيعة الذاكرة؟
ـ أمر مثير للاهتمام ما يحصل مع تقدمك في العمر لأن ذاكرتك تغدو أكثر حيوية، لا سيما الذاكرة البعيدة. لكني لا أجري تجريبياً على الذاكرة، فهي موجودة أبداً طوال الوقت، ولا أدري إذا كنت أكتب عنها أكثر مما اعتدت. بالطبع القصص “الخاتمة” هي اشتغال واع على الذاكرة، ولم أفعل ذلك مرات عدة لأني أؤمن أنه في حال شئت الكتابة بجدية عن والديك، عن طفولتك، عليك التزام الصدق قدر ما تستطيع، عليك التفكير عما حدث بالفعل وليس بالقصة التي تقدمها لك ذاكرتك. ولكن لا يمكنك تحقيق ذلك بحذافيره لذلك تقول، “حسناً هذا جانبي في القصة هذا ما أتذكره”.
[ ذكرت سابقاً أننا نواظب على تكرار أشياء صعبة إلى أن نتمكن من النفاذ عبرها وتخطيها.
ـ أعتقد أن ذلك ينطبق بشكل خاص ربما على ذكريات الطفولة. ولطالما كان هناك بذل مجهود للنفاذ عبرها. لكن ما معنى “النفاذ عبرها”؟ أهو يعني أنها لا تعود تجرح أبداً؟ أنكِ فكرت بها وحللتها وتوصلت إلى ما تعتقدينه فكرة جيدة عما كان يحدث؟ لكنك قد لا تكتبين أبداً عن ذلك. لديك أبناء، حين يكتبون قصتهم عن طفولتهم الخاصة، فهي ستبقى مجرد قصتهم، “وأنتِ” داخلها ستكونين “أنتِ” التي قد لا تتعرفين عليها. ولهذا السبب عليك الاعتراف بأن القصة التي تبذل الجهد الأكثر نبالة لن تشتمل على الحقيقة التي لدى كل شخص. بيد أن محاولة ذلك أمر يستحق كل التعب.
إذا كنت كاتبة فإنك أقرب إلى أن تمضين حياتك وأنت تحاولين تبين أو تشخيص الأمور، لتضعي تصوراتك على الورق فيقرأها من ثم الآخرون. إنه أمر غريب جداً حقاً.
تفعلين ذلك طوال حياتك، رغم إدراكك أنك تفشلين. أنك لا تفشلين طبعاً على طول الدرب، ومن هنا رغم الفشل الأمر يستحق المحاولة أعتقد أن الأمر يستحق الاشتغال عليه. لكنه أشبه بالتمسك بأشياء يمكنك التعامل معها جزئياً.
قد يبدو هذا أبعد ما يكون عن الرجاء. إلا أنني لا أشعر أبداً باللاأمل.
ترجمة وإعداد فوزي محيدلي
المستقبل