القاهرة والأزمة السورية: معالجة كلاسيكية أو مبادرة موعودة
حسن أبو طالب *
بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، وطوال عام ونصف العام، اتسمت مصر بالانكماش على الذات. القوى السياسية كافة، قديمها وجديدها، انكفأت على شأنها الذاتي باسم الثورة وإعادة ترتيب الأمور في الداخل. منها من سعى إلى حصد الغنائم ومراكمتها في الشارع والتظاهرات الأسبوعية، ثم في البرلمان وأخيراً في قصر الرئاسة. ومنها من اكتفى بصولات البرامج الحوارية في الفضائيات المصرية والعربية معاً. الانكفاء على الذات يخالف السمت المصري المهتم تقليدياً وتاريخياً بأمور إقليمه العربي، والساعي دوماً إلى التفاعل الإيجابي مع الشؤون العربية بمعناها العام، سواء تحت مظلة التفاعلات الثنائية أو الجماعية في ظل الجامعة العربية ودروبها العتيدة.
لكن العام ونصف العام من الثورة المصرية لم يكن ساكناً في الجوار العربي، ففي كل منطقة فرعية كانت هناك بؤرة اهتمام عربي ودولي مثيرة بتطوراتها وتحدياتها، إلا أن مصر الثورة آثرت أن تكون معالجتها لمثل هذه البؤر العربية المتفجرة نوعاً من المتابعة تحت ضغط الضرورة إن وجدت، والمتابعة من بُعد غالباً. وفي أفضل الأحوال مسايرة ما يجري في الجامعة العربية والمشاركة ذات الطابع البروتوكولي وإعادة التأكيد على عدد من الثوابت ذات الطابع المعتاد، مثل رفض التدخل الخارجي والتمسك بالحلول السياسية وتأييد رغبات الشعوب العربية ورفض الحلول العسكرية.
وإن وجدت مبادرات عربية فعالة في أزمة ما، كما حدث بالفعل في الأزمة اليمنية حين طرحت المبادرة الخليجية لنقل السلطة، كان الموقف المصري دائماً في صف المؤيدين للمبادرة الخليجية، والمباركين لها ولكن لم يكن من المشاركين فيها. وفي الحالة الليبية ونظراً للجوار الجغرافي والتداخل الاجتماعي، كان أسلوب تأمين الذات والحدود والحفاظ على حقوق العمالة المصرية العاملة في ليبيا وإشارات عامة بتأييد إرادة الشعب الليبي من حيث المبدأ، هو الأساس، ثم جاء التأييد التلقائي لقرار الجامعة العربية الذي وفر مظلة عربية للتدخل العسكري بواسطة الناتو من أجل حماية المدنيين الليبيين. وباقي القصة معروف.
لم تكن مصر المهمومة بشأنها الثوري الخاص، والمعركة حامية الوطيس التي قادتها القوى السياسية المصرية كافة تقريباً مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يدير المرحلة الانتقالية بفعل الأمر الواقع، قادرة على أن تكون طرفاً مبادراً أو صاحب رؤية أو طرح خاص أو جهد مصري خالص في شأن عربي ملتهب، كما كان يحدث في المرحلة السابقة رغم كل التحفظات التي يمكن أن تُقال حول الدوافع والمبررات والنتائج. والسؤال هل حدث تغير مع رئاسة مدنية منتخبة ممثلة في الرئيس محمد مرسي؟ ليست هناك مساحة زمنية كافية للحكم في مدى التغير من حيث حدوثه أولاً واتجاهه ثانياً، فشهر واحد لا يسعف في مثل هذه الأمور، وأقل كثيراً من أن يكون مؤشراً قوياً إلى توجه بعينه. بيد أن الأحداث والتطورات الساخنة لا تعرف الكلل أو الملل أو التوقف من أجل الراحة والتقاط الأنفاس. والحالة السورية خير دليل، فتطوراتها متسارعة وليلها غير نهارها وأحداثها تزداد سخونة مع مرور الدقائق والساعات، فما بالك بالأيام، وفي كل لحظة هناك جديد على الساحة السورية، وتوازن القوى المحلي يتغير دائماً.
وهناك احتمال يفرض نفسه للحظة أو ليوم، وآخر ينزوي بعض الوقت، ثم يعاود الظهور في حلة جديدة، وكأننا أمام بندول الساعة لا يهدأ عن الميل يميناً أو يساراً. الحالة السورية تمثل أزمة إقليمية دولية بامتياز، إنها نموذج تقليدي للأزمة كما توصف في أمهات كتب العلاقات الدولية، حيث تتابع وتتسارع الأحداث بشكل سريع، وبما يجعل الحالة محل الدراسة خاضعة لعملية انتقال دائم وتحول كيفي بشكل يخرج عن السيطرة من قبل أطرافها المباشرين، فما بال الأطراف غير المباشرة أو البعيدة عن التأثير.
رؤية مصرية لسورية
على صعيد الموقف المصري تجاه الأزمة السورية يمكن أن نشير إلى أربعة عناصر تحدد الإدراك الرسمي المصري سواء في ظل إدارة المجلس العسكري أو في الشهر الأول من رئاسة الرئيس محمد مرسي. أولها أن ما يجري في سورية هو ثورة شعبية تعكس تطلعات الشعب السوري في الحرية والديموقراطية، وكان الأولى أن تُقابل هذه المطالب بإصلاحات سياسية وليس بحلول أمنية. وثانيها أن تحركات مصر مرتبطة أساساً بما يتم التوصل إليه من قرارات جماعية في الجامعة العربية، ولذا كانت القاهرة مع المبادرة العربية الخاصة بوقف العنف والحوار بين الحكومة السورية والمعارضة، ومع إرسال مراقبين عرب إلى الداخل السوري، ومع دمج المبادرة العربية في جهد دولي برئاسة كوفي أنان تحت مظلة مجلس الأمن، وأخيراً مع قرارات وزراء الخارجية العرب في الدوحة الصادرة في 22 تموز (يوليو) الماضي الخاصة بدعوة الرئيس بشار الأسد إلى التنحي الطوعي وتشكيل حكومة انتقالية تشارك فيها المعارضة واللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن سد الفيتو الروسي والصيني المشترك أبواب الفعل الناجز من مجلس الأمن وفقاً للفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة كما رغب بعض العرب. وثالثها التمسك بوحدة الأراضي السورية، ورابعها رفض أي تدخل عسكري تحت أي ذريعة. والعنصر الأخير تحديداً شدد عليه المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية في 27 تموز الماضي باعتباره يعكس رؤية الرئيس مرسي جنباً إلى جنب تأييد تطلعات الشعب السوري، من دون أن يزيد شيئاً آخر.
العناصر الأربعة للإدراك المصري الرسمي تعكس بشكل أو آخر المحددات الرئيسية للحركة المصرية في إطار التحرك العربي المشترك، والمعنى أن التحرك المصري المأمون هو التحرك الذي تشترك فيه مصر مع الأطراف العربية الفاعلة من دون نقص أو زيادة. ثمة إيجابية هنا وهي الفعل العربي الجماعي القابل للتحرك والتطور وفقاً لتطور الأحداث على الأرض السورية، ووفقاً لميزان القوى في مجلس الأمن. أما السلبية فهي فقدان المبادرة المصرية الذاتية والفعل الخلاق. وهذه تحديداً يمكن أن تتعرض لاختبار حاد إذا ما انزلقت الأزمة السورية إلى احتمالات تتجاوز ما هو تحت السيطرة حتى الآن، فكيف سيكون التحرك المصري؟
المشاهد السورية
فالناظر إلى ما يحدث على الأرض السورية مصحوباً بتحركات دولية وإقليمية مختلفة المشارب يمكن أن يرصد أربعة مشاهد محتملة:
– المشهد الأول: استمرار المواجهة العنيفة بين الجيش النظامي الذي يتمكن من الحفاظ على قوة أساسية بداخله على ولاء كامل للرئيس بشار، في مواجهة «الجيش السوري الحر» والأهالي الذين يضطر بعضهم إلى الانغماس في الأعمال العسكرية. تلك بدورها مقدمة لحرب أهلية قابلة لأن تدوم سنين طويلة، وأن تجذب معها تدخلات خارجية متعددة المشارب والمرامي. وجزء كبير مما يحدث حالياً يرجح مثل هذا المشهد بقوة.
– مشهد تقسيم سورية إلى ثلاث دويلات، والحديث عن هذا المشهد ترجحه الاستراتيجية العسكرية التي يطبقها الجيش السوري النظامي، وهي إخلاء مناطق في شمال وشرق البلاد من ساكنيها السنة، وإنشاء منطقة فاصلة بين دويلة علوية محتملة في الشرق عاصمتها اللاذقية، ودويلة في الشمال للأكراد وما يتبقى يكون للسنة والمسيحيين وباقي التنويعات العرقية والدينية.
– حرب إقليمية إما بمبادرة من النظام السوري في اتجاه إسرائيل على طريقة الهروب للأمام أو نتيجة هجوم إسرائيلي بحجة منع «حزب الله» اللبناني من الحصول على الأسلحة الكيماوية السورية. أو نتيجة هجوم أميركي إسرائيلي مشترك على المواقع النووية الإيرانية، تستدعي ردة فعل من قبل «حزب الله» اللبناني، وربما تدخلاً سورياً كرد فعل يربك المشهد الإقليمي والدولي كله.
– مشهد الفوضى التامة، فحين ينهار النظام من دون الاتفاق على نظام بديل من قبل المعارضة السورية بتوافق دولي وعربي، وما يتبعه ذلك من سيطرة قوى محلية مختلفة على المناطق المختلفة والدخول في صراعات من أجل الاستحواذ على ما يمكن الاستحواذ عليه من مصادر القوة العسكرية والمنشآت الحيوية والبنية التحتية.
المشاهد الأربعة على النحو السابق تتفق على أمرين؛ الأول أن كلاً منها سيؤدي إلى نزوح جماعي في اتجاه دول الجوار، وذلك سيؤدي إلى مشكلات كبرى، لاسيما في الأردن ولبنان، والثاني أن سورية كدولة واحدة موحدة ستكون في مهب الريح ومصدر قلق وتهديداً إقليمياً للعديد من الدول بما في ذلك مصر البعيدة جغرافياً.
الأفضل من كل تلك المشاهد أن تتم عملية تنحي وانتقال للسلطة برعاية دولية وإقليمية وعربية متجانسة تحافظ على سورية موحدة، وتقلل من فرص الثارات العرقية أو السياسية أو المناطقية، وتلعب فيها الجامعة العربية دوراً رئيسياً في إعادة بناء النظام السياسي السوري الجديد بتوافق شبه تام مع الشعب السوري وقواه ورموزه الفاعلة. غير أن هذا الأفضل ليس ميسراً بعد، ولا يوجد من يقدر على تطبيقه. وبالتالي تظل المشاهد الأولى هي الأجدر بالبحث والتأمل. ففي كل واحد منها جملة من المشكلات والتحديات الأمنية والاستراتيجية. وفي علم المستقبل يفضل دائماً انتظار الأسوأ وتوقع نتائجه والاستعداد بخطوات مضادة. مشكلة التحرك المصري هنا هي جزء من مشكلة عربية، إذ غالباً لا يوجد استعداد مسبق للسيناريو الأسوأ. وحين يحدث يكون الارتباك سيد الموقف والخسارة تكون غالباً مؤكدة.
التاريخ المشترك
وإذا تأملنا من زاوية الخصوصية الأمنية في التاريخ المشترك بين مصر وسورية، سنجد عبارة شهيرة لمحمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة مطلع القرن التاسع عشر، تقول «إن سورية لازمة لمصر» كمبرر وراء حملته الشهيرة التي قادها نجله إبراهيم للشام بين 1831 وحتى 1840. وكانت العبارة وقتها وما زالت تعني إدراكاً بحقيقة وحتمية الترابط بين أمن مصر وأمن سورية، وهو ما ثبته التاريخ لاحقاً، سواء في الوحدة بين البلدين 1958 أو مواجهة التهديدات الإسرائيلية منتصف الستينات أو أثناء وبعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وفي إدارة أزمة الحرب الأهلية اللبنانية. والسؤال هل سورية ما زالت «لازمة» بالنسبة لمصر في عهدها الجديد وتحت قيادة رئيس ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، في الوقت الذي يُشار فيه إلى أن الفرع السوري من الجماعة العامل في الداخل السوري يحضر نفسه لكي يكون رقماً مهماً في النظام الجديد بعد إسقاط الأسد وحكومته؟
وأياً كانت الطريقة التي سيسقط بها الأسد فإن بروز «الإخوان» في سورية الجديدة من شأنه أن يسعد الجماعة الأم في القاهرة. وعندها ستكون سورية ذات وضع خاص بالنسبة لاستراتيجية مصر في ظل رئاسة محمد مرسي، وإن لم يتطور الأمر على النحو المرغوب، فالمرجح أن حجم اللزوم السوري لمصر سيكون أقل والمعالجة الكلاسيكية ستظل على حالها.
* كاتب مصري
الحياة