الكيانات والحدائق الخلفية
سليمان تقي الدين
يطارد الجيش التركي “حزب العمال الكردستاني” في عمق الأراضي العراقية، إذ لا تعترف تركيا بحقوق الكرد القومية، وكذلك تفعل إيران وسوريا وسابقاً العراق . دول “الشرق الأوسط” مازالت تحمل “إثم” الحرب العالمية التي أنشأت كيانات لا تعكس رغبة جميع سكانها ولا إرادة شعوبها . ففي إيران وتركيا مجموعة من الأقليات القومية والإثنية من قبل أن تظهر المسألة الطائفية والمذهبية، وحقوق العرق القومية المهدورة هي الأبرز، من فلسطين إلى لواء الإسكندرون الذي ضُمَّ إلى تركيا، وإقليم عربستان الذي ضُمّ إلى إيران .
حدود الكيانات ظلّت مصدر نزاعات في شط العرب، وفي علاقة العراق بالكويت وبين سوريا والأردن ولبنان . الحدود الرخوة استخدمتها الدول في الضغوط المتبادلة، فلم تحسم هذه الأمور في الحوار والتفاوض والتفاهمات . لكل دولة في العالم مصالح مع جيرانها ومعظم حدود الدول نزاعية لكنها خضعت لاتفاقات ارتكزت على معطيات الأمر الواقع . اعترف النظام الدولي بالمدى الحيوي أو المصالح القومية أو الاستراتيجية أكثر من إيجاد حلول لمسائل الأقليات، فحق تقرير المصير لم يكن المبدأ السائد في ظل الحرب الباردة، واستخدمت دول “الشرق الأوسط” هذا المناخ أو هذه البيئة للتدخل في شؤون جيرانها إلى الحد الذي جعل من الدول الأضعف “حدائق خلفية” .
نشأت تقاليد لدى هذه الدول في التأثير في محيطها من خلال رعاية وحماية واستخدام جماعات معارضة لحكوماتها . استخدم العراق حزب “مجاهدي خلق” الإيراني المعارض وقدم له التسهيلات، كما استخدمت إيران المعارضة الشيعية . واستعملت سوريا ورقة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا قبل التفاهمات الأخيرة، واستخدم العرب جميعهم المنظمات الفلسطينية في لبنان طوال عقدين بعد الأردن فكانت لهم فصائل تابعة، ثم صارت الطوائف اللبنانية رعايا لدى هذه الدول . في الأوضاع الراهنة التي تعم فيها الفوضى، تصاعد التدخل باتجاه دفع المتغيرات لمصلحة الجماعات السياسية التي تحظى بالرعاية من الأقوياء، والظاهرة الجديدة هي في تبادل الضغوط وتبادل الرسائل عبر أشكال من التواصل مع الجماعات السياسية المعارضة إلى درجة الرعاية العلنية، كما يحصل مع تركيا تجاه المعارضة السورية، وكما كان يحصل بين سوريا وحلفائها في لبنان .
على المستوى الإقليمي تظهر ثلاث دول فاعلة: إيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية في محاولة تشكيل النظام السياسي الأمني للمنطقة . وخرجت سوريا من الموقع المؤثر بعد أن بدأت الأزمة في داخلها . وحده لبنان هو الحديقة الخلفية السورية التي مازالت قائمة . تراجع النفوذ السوري في العراق وفلسطين وفي الأردن منذ زمن بعيد . والصراع على سوريا هو عنوان المرحلة الراهنة بين مثلث، إيران، تركيا، السعودية . في هذا الصراع أصبح النفوذ الإيراني في العراق مكرّساً بالواقع وباعتراف الآخرين، وحتى هذه اللحظة تتقاطع المصلحة الإيرانية – التركية على محاصرة الكيان الكردي من أن يتحول إلى دولة قومية مستقلة . أما المصالح الاقتصادية والنفطية فهي محل تفاهم . في سوريا، وضمناً لبنان، لا يسلّم النظام الرسمي العربي ولا تركيا بمصالح ودور إيران أمنياً واقتصادياً وسياسياً، وما يتكرر عن مطلب فك الارتباط السوري – الإيراني هو جزء من تكوين النظام الإقليمي لتحجيم الدور الإيراني والدور السوري . عرض البعض مساعدات لسوريا مادية تعوّض المساعدات الإيرانية، وعرضت تركيا دوراً سياسياً مساعداً وماتزال من ضمن تصور لإنهاء الصراع العربي – “الإسرائيلي” . واعترف الجميع لسوريا بمصالحها الحيوية في لبنان، لكن النظام في سوريا مايزال يملك رؤية مختلفة تؤكد أن شرعيته مرهونة في الكثير من عناصرها بسياسته الحالية .
التفاهم الإيراني – الأمريكي في العراق والتفاهم الفلسطيني، نزع من يد سوريا أوراقاً مهمة، والمحكمة الدولية في لبنان والقرار 1701 كذلك . لم تستوعب سوريا هذه المتغيّرات حتى مع نقل المواجهة إلى داخلها لضرب هيبة نظامها الأمني، فهدّدت أنها ستلعب لعبة المواجهة وتعود إلى زمن الثمانينيات، فأطلقت إشارات عدّة من الجولان وجنوب لبنان والمسألة الكردية والعراق . في حصيلة هذه الإشارات لم تسمع أصداءً ولا استجابة، فما تملكه من رصيد لبناني، خاصة في دور حلفائها الثابتين، لا تستطيع التصرف به بمعزل عن المصالح الإيرانية .
فرصة سوريا اليوم لاختصار محنتها الوطنية هي في المراجعة السياسية الشاملة، وقراءة المتغيّر الإقليمي والدولي وقراءة المتغيّر الداخلي، إذ لا تقوم الدول على السياسات والتوازنات الخارجية . الدول التي ترتكز على وظائف وأدوار خارجية تنهار مع متغيّراتها، ولن تقوم دولة سورية قوية إلاّ على عقد وطني مع شعبها، هذا العقد يريده الشعب من مدخل الإصلاح والتغيير لمصلحة
جميع أطيافه . عقد وطني لا من أجل الولاء لسوريا وشعبها لأنه الأقوى ولاءً ودفاعاً عن وحدتها وهويتها الوطنية والقومية، بل من أجل إزالة سلبيات العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي قامت على أشكال من التمييز والتهميش والإقصاء، إذ لم تعد السياسة الخارجية لأي دولة هي العنصر المهم في شرعية نظامها ولا حتى في قوته .
هذه هي تجربة الإمبراطورية السوفييتية وتجربة آخرين، فكيف إذا كانت هذه القوة أكثر هشاشة وأقل فاعلية في أي نزاع إقليمي؟
الخليج