اللامعقول في السياسة يعني الحرب
سمير كرم
تفاقم التناقض في الواقع السياسي الى حد يعجز معه المحلل السياسي العربي عن فهم النتائج التي يمكن ان تصل اليها التطورات.
ما أعرفه أن إجراء أي قياس عن طريق طرح المقدمات من الواقع للوصول الى نتائج منطقية لم يعد ممكناً. ربما يكون من الممكن البدء من مقدمات مأخوذة من الواقع. فإذا لم تسفر هذه المقدمات عن نتائج عقلانية او معقولة، عندئذ يضطر المحلل السياسي ان يستعين بمقدمات مختلفة، لعلها تصل به الى نتائج منطقية. لكنه لا يلبث ان يرتطم بأن هذه المقدمات بدورها لا تصل الى نتائج تتفق مع المنطق والمعقول.
على سبيل المثال، يمكن البدء بشأن الاحداث الجارية في الشرق الاوسط من مقدمات تفيد ان اسرائيل لا بد بالضرورة ان تكون وراء الاحداث اللاعقلانية التي تجري، لأن اسرائيل هي الطرف الأوحد الذي يمكن ان يخرج بفوائد من هذه الأوضاع والتطورات. الا ان هناك ما ينفي هذه المقدمة ويلغيها، لان اسرائيل لم تعد في وضع تضمن فيه نتائج الحرب بأي درجة من اليقين. ولان اسرائيل بذلت جهودا قصوى لكي تصل بالامور الى نقطة إرباك الاطراف العربية، الا ان الطرف الاوحد غير العربي ـ وهو ايران ـ اصبح يشكل بالنسبة لإسرائيل التحدي الاول والاخطر الذي لا تستطيع ان تغامر بحرب يكون فيها طرفاً ضدها.
وعلى سبيل المثال، يمكن البدء من مقدمات لهذه الاحداث الجارية تفيد، ان الولايات المتحدة تمارس لعبة السياسة في المنطقة للبرهنة على ازدياد حاجة بلدانها الى الدور الاميركي، يساند هذه الاطراف ويعارض تلك. ولكن هنا ايضا – ولان الولايات المتحدة قامت بالدور الاساسي في الوصول بالاحداث والتطورات الى ما وصلت اليه – فإن الاستنتاج برغبة اميركية في الاستفادة من هذه التطورات يبدو حماقة اميركية قصوى، لانها لم تعد تناسبها ولم تعد تناسب اسرائيل.
كذلك فإن من الممكن البدء من مقدمات تفيد ان التنسيق كامل ودقيق بين الولايات المتحدة واسرائيل فيما يتعلق بتطورات الشرق الاوسط، ولكن هناك مقدمات اخرى ـ خاصة في الفترة الاخيرة ـ تفيد ان الاختلاف بدأ يظهر بين مواقف اسرائيل السياسية وحتى الإستراتيجية في هذه المنطقة على نحو يؤكد اختلاف الاتجاهات والتقديرات بين الاستراتيجيين والسياسيين الاميركيين والاسرائيليين. وهنا ايضاً تبدو هذه الاختلافات او الخلافات ناشئة عن التحدي الايراني للقوتين اللتين اعتادتا ان تكون لهما السيطرة في المنطقة.
واذا ما افترضنا ان ايادي اسرائيلية لعبت دوراً خفياً في انتاج وعرض الفيلم السينمائي الذي أساء بصورة بالغة الى رسول الاسلام وبالتالي أساء الى كل مسلم في العالم، فإن اسرائيل تكون بذلك قد غفلت عن ردود الافعال الحادة ضد الولايات المتحدة التي فيها انتج الفيلم وفيها تم عرضه، بل إنها ارادت عامدة متعمدة ان تحدث هذه الموجة من الاعتراضات ضد اميركا وأن تقف اسرائيل جانباً وكأن لا دور لها على الاطلاق. لكن تبقى نقطة واحدة بسيطة، هي ان المسؤولين الاميركيين لن يظنوا ابداً، مهما بانت الأدلة الدامغة، أن إسرائيل لعبت دوراً في الخفاء في إنتاج هذا الفيلم وأنها تغاضت تماماً عن الأذى الذي يمكن ان يلحق بأميركا من ورائه. فلا يمكن للرأسماليين الاميركيين ان يصدقوا ان اسرائيل يمكن ان تقع في خطأ كهذا، فضلا عن أن تقصده.
مع ذلك فلا بد من الإقرار، قبل طرح اية مقدمات، بأن هذه الخطوة الخطيرة المتمثلة في الفيلم المسيء الى رسول الاسلام، انما جاءت بعد وضع مرّكب وبالغ التعقيد في المنطقة نتج عما اسمي بثورات الربيع العربي التي اتت بنظم حاكمة في عدد من البلدان العربية تربطها بالولايات المتحدة الأميركية اوثق العلاقات. علاقات تجاوزت كثيراً في هذا الارتباط ما كان قائماً بين هذه النظم الحاكمة والنظام الاميركي الحاكم. وهذا وضع يبدو اكثر طمأنة لإسرائيل من اي وضع سابق، بما في ذلك الوضع في مصر الذي انتقل من نظام اعتبر علاقته باسرائيل علاقة تعاهدية جديرة بالاستمرار والرعاية تحت إشراف الولايات المتحدة، الى نظام شكله تنظيم «الاخوان المسلمين» على اساس التعهد لأميركا واسرائيل معاً بالالتزام بسلام كامل مع اسرائيل لا يغير ما كان يسير عليه النظام المصري قبل ثورة 25 يناير 2011.
لقد انتجت «ثورات الربيع العربي» اوضاعاً متناقضة وأبسط ما يمكن وصفها به أنها أوضاع غير مستقرة، تتسم بالتناقض والتضارب سواء بين القوى السياسية التي انتجتها هذه «الثورات» وتلك التي كان لها وجود ولها حسابات طبقية وسياسية منذ زمن الانظمة القديمة. حدث هذا في مصر وحدث بالمثل في ليبيا وقبلها في تونس. لقد انتجت هذه الثورات اوضاعا تسودها صراعات عقائدية وسياسية واقتصادية. وما يحدث الآن في سوريا من حرب مسلحة بين النظام الحاكم والتنظيمات المتطرفة التي تريد ان تتولى الحكم، على نحو ما جرى في ليبيا مهما كانت النتائج، تحول الى مثل تريد كل من مصر وتونس وحتى ليبيا ان لا يتكرر فيها ولكنها لا تملك ضمانات بذلك. لم تأت هذه الثورات بأي مستوى مقبول من السلام او الاستقرار. ولكنها اتت بنفوذ اميركي وطيد لا شك فيه في العلاقة بين النظم الحاكمة والنظام الحاكم في اميركا. غير ان هذا النفوذ الاميركي لا يرتكز على اساس ثابت في اي حال. إن احداث مصر والدرجة العالية من عدم الاستقرار التي نتجت عن صعود «الاخوان السلمين» الى السلطة والتناقض الحاد بين اهداف هذا التنظيم في الحكم وأهداف الغالبية الحقيقية من الشعب المصري، تشكل معضلة أمام الادارة الاميركية لم تلبث ان تحولت الى معركة وسط معارك انتخابات الرئاسة الاميركية.
زاد من تأثير تلك التغيرات، التي يبدو انها فاجأت اميركا بالقدر نفسه الذي ساهمت اميركا في خلقها، وقوع الاحداث التي اعقبت الفيلم المسيء للرسول العظيم في اطار زمني واحد مع ذكرى حدث الحادي عشر من ايلول /سبتمبر 2001. هل اختير هذا التوقيت عمداً ام صنعته الصدفة؟ ربما لا يهم بقدر ما يهم ان هذا التوافق الزمني كانت له آثار مضاعفة على الجمهور الاميركي الذي فوجئ بحدة رد الفعل على الفيلم الكارثة في مقتل السفير الاميركي في بنغازي وثلاثة آخرين من الموظفين الاميركيين نتيجة لهجوم لم يتوقعه احد على مبنى السفارة. كما كانت لهذا التوافق الزمني آثار مضاعفة على الجمهور الاميركي نتيجة للهجوم الجماهيري على مقر السفارة الاميركية في القاهرة. وهو هجوم ادى في تصدي الشرطة له الى مقتل اثنين من المتظاهرين المصريين، ولم يؤد الى اي ضحايا من الطرف الاميركي.
لقد ادى هذا التوافق الزمني بين ذكرى 11 ايلول/سبتمبر 2001 الى تنبه الرأي العام الاميركي الى حقيقة لم يكن قد تنبه لها من قبل، وهي ان «ثورات الربيع العربي» التي اتت بنظم جاءت بها القوة العسكرية الاميركية، كما في حالة ليبيا، او جاءت بها – على الاقل في التقدير الاميركي – قوة النفوذ السياسي الاميركي كما في حالة مصر. فهل سيؤدي هذا الى التغيير المتوقع في سلوك الادارة الاميركية، الواقعة في الوقت ذاته تحت تأثير الحملة الانتخابية الرئاسية، تجاه مصر وليبيا وبالمثل تجاه اليمن؟ ان من المؤكد ان الادارة الاميركية ستحاول ان تقيس غياب رد الفعل ازاء هذه الإساءة الى الإسلام ورسوله عن موطن الرسول العظيم، اي عن السعودية، وبالمثل عن بلدان قريبة في الخليج مثل قطر والامارات العربية المتحدة، وذلك لتعرف اذا كان غياب رد الفعل في هذه البلدان سيستمر ام انه سينفجر في وجه الكبت الرسمي؟
الأمر المؤكد ان الإدارة الاميركية تفضل ان لا تفاجأ. ولهذا طيّرت أنباء، خلال ساعات من الحدث الذي قتل فيه السفير الاميركي في بني غازي، تفيد ان اميركا تستعد عسكرياً لحماية مصالحها في العالم الاسلامي. إذ اعلن ليون بانيتا وزير الدفاع الاميركي ـ في 15 /9/2012- ان الولايات المتحدة تجري لقواتها المسلحة تمركزا يمكنها من الاستجابة لاضطرابات ربما تندلع في 17 او 18 موقعاً. وقال الوزير الاميركي «إن علينا ان نستعد لاحتمال خروج التظاهرات عن السيطرة … إن تنظيم القاعدة بات له حضور قوي في اليمن والصومال وليبيا». ولم يكن مثيراً للدهشة ان يتجنب الوزير بانيتا حقيقة ان تنظيم القاعدة مشارك في القتال ضد النظام في سوريا وبتأييد بالسلاح والمال من الولايات المتحدة.
هل يدرك الرأي العام الاميركي هذا التناقض الصارخ في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وبالتحديد في منطقة الشرق الاوسط؟
لقد ترددت احتمالات معاقبة مصر بقطع المعونات الاميركية عنها. وجاء هذا التهديد في وقت تمر فيه مصر بأسوأ الأوضاع الاقتصادية. وعلت الاصوات في الجانب الجمهوري من حملة الانتخابات الرئاسية الاميركية مطالبة بقطع المعونات الاميركية عن مصر. ولكن وزير الدفاع المصري الفريق اول عبد الفتاح السيسي ادلى بصوته في هذه المعركة تحديداً وكان ما قاله ان مصر ترفض العنف بأشكاله كافة وأنها ملتزمة بكل وضوح «بحماية البعثة الديبلوماسية الاميركية وتوفير القوات الامنية اللازمة الكافية لتأمين مقر البعثة بشكل كامل». وشدد وزير الدفاع المصري على «الحرص الكامل على تدعيم وتنمية العلاقات العسكرية والاستراتيجية بين البلدين وتنميتها».
التناقض واضح، بل حاد وصارخ في كل اتجاه. من الصعب اخذ التصريحات الاميركية او المصرية كمقدمات لفهم ما يمكن ان يحدث في الايام والاسابيع والشهور القادمة. وأي طرف سيمسك بزمام المبادرة؟ هل تقدم الولايات المتحدة على حرب يكون الطرف الآخر فيها مديناً بوجوده في السلطة ـ وإن بدرجة ما ـ للولايات المتحدة؟ هل يتكرر ما حدث في مصر وليبيا واليمن ازاء البعثات الديبلوماسية الاميركية في الرياض او غيرها؟ وماذا يكون رد الفعل الداخلي ثم الأميركي؟
العلاقات الاميركية العربية لم تكن مشكلة في اي وقت مضى كما هي اليوم. وتجد الولايات المتحدة نفسها في صف الذين يحاربون النظام في سوريا وتجد نفسها في صف النظام الحاكم في مصر وليبيا. ولكنها لا تعرف ولا توجد وسيلة لكي تعرف اين توجه ضرباتها العسكرية القادمة. ذلك ان التناقض الذي يتميز به الوضع يصل الى حدود اللامعقول. وهو تناقض لا يقتصر على طرف من دون غيره، بل إنه يشمل الاطراف كلها ويشمل علاقاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة.
لعل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن توخى الصدق والموضوعية عندما قال، في تقريره السنوي الاخير: إن الصورة قاتمة لما يمكن ان تسفر عنه الملفات المتفجرة في الشرق الاوسط… التراجع محتمل في دور مصر الإقليمي. والاحتمال لا يزال قائماً لحرب بين إيران وإسرائيل. ان مستقبل توازن القوى في المنطقة في غاية الحساسية… ان دول الخليج تقرأ الاحداث بمعايير طائفية وتتخذ مواقفها تبعاً لذلك… إن مستقبل الصراع الدائر في سوريا ستكون له عواقب وخيمة على المنطقة.
كاد المعهد ان يستخدم تعبير اللامعقول، وهو تعبير في السياسة يعني الحرب.
كاتب سياسي ـ مصر
السفير