الليبرالية العربية: سؤال الذاكرة والمستقبل
د. السيد ولد أباه
فاجأت «الثورات العربية» الأخيرة الباحثين في الاجتماعيات والعلوم السياسية، لا من منظور كون الأوضاع لم تكن متأزمة وقابلة للتفجر في البلدان التي عرفت حركية التغيير، ولكن لأن أفق التاريخية الفاعلة كان يبدو مسدوداً مغلقاً.
وكما فاجأت الانتفاضات الشعبية التي أطاحت بأنظمة الحكم الباحثين، فإن مآلاتها حملت مفاجآت لا تقل أهمية. فلم يكن أحد يتوقع أن «الربيع» العربي سيتقلص زخمه بهذه السرعة، وإن الحراك سيفضي إلى الواقع الحالي الذي يبدو في غالب الأحيان متأرجحاً بين مشهد «الاستبداديات الانتخابية»، والفوضى والفتنة الأهلية.
المأزق الأكبر عانى منه على الخصوص التيار الليبرالي الذي راهن على الحركية الشعبية في تكريس منظومة القيم المستمدة من مثال الحرية الفردية، فإذا بالديمقراطيات الوليدة منفصمة عن المعين النظري والأيديولوجي للفكر الليبرالي الحديث.
الليبرالية تعني في عمقها مفهومين أساسيين مترابطين: الإيمان بقدرة الفرد من حيث هو ذات ووعي وإرادة حرة على ضبط مساره وصناعة تاريخه، من دون استناد لمطلق مفارق أو هوية اجتماعية قبلية، والإيمان بالفاعلية الغائية الناجعة للتاريخ، بما هو زمن مستمر موجه بمثال التقدم الإنساني المطرد.
من الواضح أن المفهومين يعانيان من أزمات نظرية وإيديولوجية، باعتبار أن الذاتية الفردية أو “غير المتعينة “- حسب عبارة الفيلسوف الكندي “تشارلز تايلور”- وإنْ كانت المبدأ المحدد للنظرية الليبرالية، فإنها أصبحت عرضة لإشكالات لا انفكاك منها في مقدمتها العلاقة المعقدة بين الهويات الفردية ومحدداتها المجتمعية والثقافية في سياقات لا يمكن في غالب الأحيان حل إشكالات المواطنة فيها من منظور الشرعية الإجرائية الدستورية، (كما هو حال البلدان التي لا تتماهى فيها المجموعة السياسية مع المجموعة الثقافية العضوية، مثل البلدان ذات التنوع القومي والديني). ويبدو هذا المشكل مطروحاً بقوة في البلدان العربية، التي تغلب فيها الهويات الجماعية مبدأ حرية الوعي الفردي، مما يشكل سبباً رئيسياً من أسباب الفتنة الأهلية المندلعة راهناً في عدة دول عربية.
أما المبدأ الثاني، الذي هو مفهوم التاريخية الفاعلة، فقد انحسر وتبدد معه مثال «التقدم» المتساوق معه. وكما يقول المؤرخ الفرنسي «فرانسوا هارتوغ»: لقد دخلت المجتمعات المعاصرة مرحلة ما دعاه بالحاضرية presentisme ، أي الانغلاق في الحاضر الذي حل محل الأفق المستقبلي المتمحور حول بعد الزمن القابل. فبعد الانشداد للماضي لدى المجتمعات الوسيطة والاتجاه نحو المستقبل، لدى المجتمعات الحديثة، أصبح الحاضر أي اللحظة الآنية هو أفق المجتمعات الراهنة.
لا يتعلق الحال بسردية «نهاية التاريخ»، التي لاكتها الألسن في العشرية الماضية، باعتبار أن تلك السردية ترجع في منطقها العميق لتاريخية المستقبل، لأن نهاية التاريخ بالمفهوم «الهيغلي»، الذي استخدمه «كوجيف» وأشاعه «فوكوياما»، هي لحظة تحقق المطلق التاريخي في دلالته الغنية الحاسمة. إن الحاضرية هي خروج من أفق التاريخ، وتصور آني للزمن بصفته أحداثاً متقطعة لا خيط ناظماً لها، ولا سبيل لاستكناهها، أو استباقها بالرصد والتحكم. ومن ثم فإن دور السياسة لا يتعدى الاستجابة الناجعة للحدث وتسييره في نتائجه اللحظية. وكما يقول الفيلسوف الألماني «بتر سلوتردايك»، تحولت السياسة من مثال النبوءة بما تعنيه من استنطاق للغيب ورسالة طموحة للبشر إلى مجرد رصد للأجواء وتعامل مع أوضاع مناخية متقلبة.
حتى الدين نفسه تحول إلى تجربة في الحاضر، فالحركات الدينية الجديدة تسعى لفرض الوعود المسيانية، (أي المستقبلية الأخروية المتوقعة في زمن غيبي غير معروف) في الحال من دون وسائط بشرية أو ثقافية.
والإشكال الكبير، الذي يترتب عن الحاضرية هو كيف يمكن الفصل بين ماضٍ منتهٍ ومستقبل موعود يحرر من سجن اللحظة الحالية، التي يتعين الاعتقاد بإمكان تجاوزها من أجل استكشاف آفاق احتمالية بديلة عن الوضع القائم. في الحاضرية يختفي الماضي أيضاً، ويتحول إلى آثار للذاكرة، فالبديل عن التاريخ، هو الذاكرة كما يتبين من خلال الاهتمام الواسع اليوم بما يسمى بحقوق الذاكرة وواجبات الذاكرة.
عندما تصبح الذاكرة، هي التصور الوحيد للزمن يضيع البعد المستقبلي، وتتحول السياسة إلى صراع ذاكرات، كما هو الحال اليوم في الحروب الطائفية والقبلية المشتعلة في عالمنا العربي.
النجاح السياسي في المرحلة الجديدة محسوم للقوى التي تنجح في تسيير الذاكرة واستثمارها، لا القوى التي تعد بالمستقبل وتراهن على حركة التاريخ. ما هو الخطاب الذي يمكن أن يقدمه التيار الليبرالي العربي خياراً بديلاً في مرحلة خصبة بالتحولات النوعية؟ هل يمكنه الخروج عن ثوابته الفكرية والأيديولوجية التي لخصناها في مبدئي الذاتية والتقدم؟
من المعروف أن الليبرالية ليست أيديولوجيا مغلقة، ولا لوناً واحداً، ولطالما طرح مفكروها وفلاسفتها موضوع تشكلاتها الثقافية والمجتمعية، التي لا يمكن أن تلغي مصادرتها المؤسسة التي هي أولوية الإرادة الذاتية الحرة على الهويات الجماعية العضوية.
صحيح أن الليبرالية عانت منذ نشأتها الحديثة من مصاعب استبدال التصورات الجوهرية للخير المشترك (السياسة بمفهومها الأخلاقي القوي كفضيلة مدنية) بالمنظور التعاقدي الإجرائي الذي يحيل القناعات الجوهرية إلى دائرة الاعتقاد الفردي الذاتي. ومن هنا تقلص المنظور القيمي لليبرالية إلى نظرية إجرائية محدودة للعدالة لخصها «جون رولز» في مبدأين محددين هما مبدأ المساواة الأصلية في الحقوق والحريات الرئيسية، ومبدأ التضامن لسد الاختلالات العرضية الناتجة عن المسار الاجتماعي. ورغم تأسيس هذه القاعدة المعيارية الدنيا على التوافقات الضرورية في ما وراء ما دعاه «رولز» بـ«قناع الجهل»، إلا أن المبدأين ينتميان في العمق للنسيج الثقافي الليبرالي وليسا خلفية مفسرة لنشأته.
إن ما نريد أن نخلص إليه هو أن الليبراليين العرب لابد أن يسعوا للعمل على الإطار المعياري والمجتمعي للنظم والقيم الليبرالية في المجتمعات العربية المعاصرة، مما يعني بالأساس القيام بجهد استثنائي لمصالحة الذاكرة العربية مع المستقبل والهويات الجماعية مع الفردية الذاتية الحرة والفاعلة.