المثقف إن وضع عمامته../ هشام أصلان
يصدق عدد معقول من المثقفين المصريين أن هناك أملًا
1
بعد ما خرجت المذيعة عن سياق الحلقة، وتطرقت إلى آراء المثقفين الجدلية في أمور الدنيا والآخرة، جلس الناقد الأدبي الكبير والمثقف التنويري المعروف أمامها يقنعها بأن الإسلام بريء من أفكار المتشددين الذين يجبرون المرأة على الحجاب ويهاجمون حرية الحياة والتعبير والإبداع، وأن القرآن الكريم لم يذكر في ما ذكر شيئًا عن فرضية الحجاب، قبل أن يسترسل في شرح التفسير اللغوي للآية القرآنية التي يعتمد عليها الشيوخ في تأكيد كونه فرضًا لا يستقيم الإيمان من دونه.
لم أفهم مما قاله الرجل سوى أنه يدافع عن فهمه الشخصي لما يقصده القرآن وما يتيحه الإسلام، وليس عن حرية العقيدة والفكر والحياة، سوى أنه يختلف مع المتشددين على مدى تشددهم، وليس على تدخلهم في حياة البشر. أنت أمام خطاب إنجرّ ليقف على أرض واحدة مع خصومه، يختلفان فقط على بعض التفاصيل ليس أكثر.
ليس هناك دهشة إذن من اهتمام عدد من الكتاب والصحافيين بنشر الصور القديمة لمن يرونه شيخًا متفتحًا وهو يجلس أو يقف بين نساء أسرته وهن من دون غطاء شعر، مصحوبة بتعليق يتحسر على زمن التدين الوسطي الجميل، آملًا، بحسرة أيضًا، في مؤسسة الأزهر. يتوسمون فيها حماية من التكفيريين، متناسين أنها نفسها تلك المؤسسة المرتبطة بالسلطة الحاكمة، والتي، وإن تدين مواجهة الفكر بالعنف، لا تتردد لحظة في مواجهته بجرجرة المفكرين والكتاب إلى ساحات المحاكم وسجنهم بتهمة ظاهرها ازدراء الأديان وباطنها التفكير.
2
نظر لي المُعد نظرة من اكتشف شيئًا أخبئه، وقال: “إنت شكلك ما حضّرتش ومابصّتش في الأسئلة اللي بعتها لك”. قلت إنني نظرت في الأسئلة “لكن ماحضّرتش طبعًا”. قال وهو يتنهد إن الأمر مرّ بسلام والحمد لله. وفكرت أنني نجحت في عدم الاستسلام للتفاوض على فكرتي الراديكالية.
الحكاية هي فيلم وثائقي عن رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ وما أثارته من جدل عام وعدائية عند الجماعات الإسلامية وصلت إلى المحاولة الشهيرة لقتل الكاتب. الفكرة كانت بحث الرأيين: “هل كان يقصد بشخوص روايته الله ورسائله السماوية أم لا؟ وما الحدود المسموح بها لرمزية الأدب؟”. طرح عقيم تسبب فيه عدد من المثقفين قبل غيرهم، أتصور. كيف ذهبوا في تلك المعركة البائسة إلى محاولات توضيح ما كان يقصده محفوظ والدفاع عنه. زاد الطين بلّة أن صدرت الرواية في 2006 بكلمة إجازة على الغلاف الخلفي لمحمد سليم العوا، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء الملمين وقتها، يقول فيها ما يعني أنه يجب علينا الأخذ بأفضل التصورات في تلك الأمور الجدلية، في إشارة إلى أن طرفي الصراع وجدا صيغة ملائمة للاتفاق، صيغة لم تقف أبدًا في وجه السلطة الدينية، ولم تحدّ من وقوفها في وجه حرية الفكر والإبداع.
والحكاية القديمة تقول إن محفوظ نفسه طلب ألا تصدر الرواية في مصر إلا بعد موافقة الأزهر. سنفهم بعد سنوات أن الرجل كان يفضل الاستمرار في الكتابة عن الصدام المجتمعي، وإن لم يمنع الجدل والاعتداء. لا ألوم الكاتب الكبير في ما يرى، خصوصًا وأنه نجح في سرد أكبر مشروع أدبي معروف في العالم العربي، ولكن أندهش من مثقف استراح لهذه الفكرة. غير أن الدهشة الأكبر لم تكن ممن قرر العمل على راحة المجتمع برقابته، ولكن من مثقفين استفاضوا في شرح أن “أولاد حارتنا” رواية حلال!
أمام الكاميرا سألني المُعدّ: هل ترى أن نجيب محفوظ استوحى روايته من الرسائل السماوية؟
ـ نعم.
قال: لكن الجبلاوي قُتل، والله حي لم يمُت.
ـ من حق الكاتب أن يتخيل ما يريد، ولو استوحى روايته من وقائع تاريخية أو غيرها. ومن حقك أن تقرأها كما تشاء.
3
يصدق عدد معقول من المثقفين المصريين أن هناك أملًا في تحقيق تجديد الخطاب الديني، ذلك المصطلح الذي انتشر في العامين الماضيين، يصدقون أن هذا من الممكن تحقيقه من دون خسائر يتجلى شيء منها في الاصطدام بثوابت المجتمع وليس المؤسسة الدينية فقط. يتحدثون عن حساسية علاقة المصريين بالأديان: “عليك بالتجديد من دون أن تثير حفيظة المواطن البسيط”. يذكرني كلام بعضهم بعبارة عادل إمام الشهيرة في فيلم حسن ومرقص: “هو الدين بيقول إيه؟”. ولا ينسون بالطبع لوم السلطة ومؤسستها الدينية على عدم وضعهم في اعتبارها وهي تجدد خطابها المزعوم. يداومون على نصحها بأن “إيد لوحدها ماتسقفش” وأن رجال الأزهر وحدهم لن يكونوا مفيدين، لا بد لهم من الاستعانة بالمفكرين والأكاديميين والمبدعين!
صار التنويريون يتعاركون على مساحة التسامح في الإسلام وصدق بعض الأحاديث النبوية من عدمه، بعدما كانت معركتنا الأساسية هي فصل الدين عن الدولة وعدم وضعه في مواجهة الفنون والعلوم حتى تتقدم الدنيا ولو خطوة.
التنوير لن يعوقه سوى أشخاص محسوبين عليه بينما هم مشغولون بتوضيح صحيح الدين لمن يروهم ظلاميين. لن يعوقه سوى مثقف يضبط عمامته قبل أن يتحدث.
المدن