المثقف النقدي وأسئلة الإسلام الأكثر راهنية/ سوسن جميل حسن
لعلّ ظاهرة الإسلاموفوبيا هي الآن الأكثر شيوعاً، خصوصاً في المجتمعات الغربية، بعد الهجمات المتكرّرة التي تعرّض لها أكثر من بلد من تنظيمات أصولية متشدّدة، وهذا هو الرئيس المنتخب لأقوى دولة في العالم، دونالد ترامب، يلوّح ببرنامجه تجاه المسلمين بشكل صريح، مع الضخ الإعلامي الغزير بشأن هذه التنظيمات وإيديولوجياتها وأهدافها الرامية إلى أسلمة العالم بالقوة، كما أن الحركات الأصولية والتنظيمات السلفية الجهادية صارت علامةً تسم الإسلام لدى الشعوب، مثلما هي، في المقابل، دافع كبير يرمي النخب التي تطالب نفسها بدور فاعل في الوعي الجمعي إلى براثن التشاؤم، بسبب شعورها بالشلل أمام أزمةٍ اجتماعيةٍ ضاربة في العمق، أزمة فكرية وأخلاقية تواكب راهناً يقوم على الانهيارات بكل أشكالها، انهيارات القيم والهويات والمجتمعات والأوطان في منطقتنا العربية بشكل خاص، التي انتفضت شعوبها بعد حصار دام عقوداً، فرضته الأنظمة المستبدة عليها.
هل سيبقى الإسلام التاريخي الحضاري يدفع ضريبة الإسلام السياسي، بوصف الأخير عاملاً مولّداً للكوارث ومنتجاً للتطرّف؟ كيف نحوّل الإسلام إلى شريك قادر على صياغة القيم المتعلقة بالمصير الإنساني؟ وهل ستتحول صورة الشرق الأوسط، إذا ما استمر واقع الحال، كما هو عليه من تزايد سيطرة الجماعات المتطرفة العنفية على مجاله العام، إلى صورة الانتحاري الذي يفجّر نفسه ليقتل الآخرين، حيث لن يكون هناك مهرب من السقوط المتزايد في درك الكراهية والحقد؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الباحث التونسي الطاهر أمين في كتابه “الإسلام النقدي” الصادر عن دار الحوار، انطلاقاً من السؤال الكبير، سؤال الدين، وباحثاً في واقع الثقافة ومسؤولية المثقف في تطوير التداول النقدي للقضايا التي تتعلق بالدين، وأن يكون هناك مشروع عربي إسلامي يبدّد الغربة التي يعيشها العرب والمسلمون عن الحداثة السياسية والعلمية والثقافية، معتبراً أن الثقافة العربية الإسلامية لم تعد تملك سوى خيار وحيد أمام هذا المد الأصولي الإسلامي: “إعادة صياغة أسئلة النقد التي جرى تأجيلها، بعد فشل مشروع النهضة الذي طرح في مطلع القرن التاسع عشر”.
كان محمد أركون قد طرح، في كتاباته، أنه “ينبغي تغيير برامج التدريس في الثانويات
“كيف يتم إنقاذ رمزية الإسلام وعمق روحيته من التوظيف الإيديولوجي؟” والجامعات العربية، لكي تولّد أجيالاً تفكّر عن طريق العقل، لا عن طريق التكرار والنقل”. ربما هذه الخطة هي ركيزة بناء أجيال تمتلك القدرة الإبداعية التي شرطها الأساسي الحرية، لكن الحرية والقدرة على التفكير ما زالتا غائبتين، نتيجة عقودٍ من الاستبداد السياسي الذي تحالف مع الديني، وكرّس أنظمته الشمولية، فكانت نتيجة الانتفاضات التي قامت بها شعوب هذه المنطقة فيما سمي الربيع العربي، انهيارات مجتمعية مدوية، وبروز التيارات الدينية بكل درجاتها التي تعتبر أن الخلاص من الظلم والتهميش والبؤس لا يكون إلا بالرجوع إلى الدين، ومحاكاة السلف، واستدعاء النصوص معزولة عن تاريخيتها. متكئين على مبادئ أساسية، تقول بختم النبوة التي تلخص “روح الثقافة الإسلامية” من جهة، وتجسّد مبدأ الاستخلاف بوصفه إثباتاً لفعالية الإنسان من جهة أخرى، وهذا يشلّ المسلم المعاصر عن فهم (وتقبل) فكرة أساسية: ألاّ يكون الوحي مقصوراً على الحدث الإسلامي، بل هو ظاهرة إنسانية كونية، كما جاء في كتاب الطاهر أمين.
اتسمت العقود الأخيرة، منذ حركة طالبان، بظهور كياناتٍ هي نسخ مشوهة من العقيدة الدينية، وأسّست الولايات المتحدة للتطرف الإسلامي، ليكون شريكاً مريحاً لها خلال فترات مشروع الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، فهل يكفي القول إن الغرب، والولايات المتحدة تحديداً هي المسؤولة الوحيدة عن تلك الإيديولوجية المتحولة بأن شجعتها ودعمتها ونظمتها وأسّست لها؟ أم لا بدّ من نقد الذات، وإماطة اللثام عن المسؤولية المنوطة بنا؟ وهل يمكن الاستكانة إلى شعار “الإسلام هو الحلّ” وبناء الأمل بالخلاص عليه، مع أن الإسلام السياسي أثبت فشله في إدارة الحكم وفق نموذج ديموقراطي، وأثبت عجزه عن طرح نموذج نظري، ومشروع عملي يواكب روح العصر.
فما هو دور المثقف النقدي، وأين هو من طرح أسئلة الإسلام الأكثر راهنية؟ وإلى أين وصل الخطاب النقدي العربي في مشروع بناء سلطةٍ أخلاقيةٍ وفكريةٍ تقف سداً في وجه هذا الطوفان الأصولي الدموي الذي يكرّس ثقافة الموت خارج المعرفة الحقيقية بحدود الموت؟
يتساءل الطاهر أمين: ألم يحن الوقت لأن تنفتح المجتمعات العربية على رمزية حديثة في
“هل سيبقى الإسلام التاريخي الحضاري يدفع ضريبة الإسلام السياسي، بوصف الأخير عاملاً مولّداً للكوارث ومنتجاً للتطرّف؟” مجالاتٍ أخرى، تقع خارج الدين؟ في الوقت الذي تبدو جليةً ظاهرة اغتراب المثقفين التي لم تعد مجرد انعكاسٍ للعجز عن الانخراط في المجتمع، وفق الرؤية الدينية، وإنما لوضعهم الأقلّي معرفياً، ففي “سياق اجتماعي يعلن عن هيمنة الأيديولوجيا الإسلامية، يمثل ابتعاد المثقف عن الجماهير الشعبية، والحالة هذه، احتجاجاً على “إسلام جماهيري” يصادر الثورة الشعبية”. أليس من الملحّ في أزمتنا الحالية انشغال العقل بالفكر النقدي، بحسب ما أورد الكاتب على لسان هشام شرابي في كتابه “أزمة المثقفين العرب”؟ في وقت صارت معه الجماهير تلبي احتياجاتها الدينية من المفكرين السلفيين، وليس من المفكرين التقدميين، وأزمة الإسلام هي امتداد لأزمة المثقفين الذين “لا يشكلون، حتى الآن، تياراً تنويرياً قادراً على مواجهة التيار الأصولي، ذي القاعدة الشعبية العريضة. يضاف إلى ذلك أن المسائل الحساسة، مثل مسألة الوحي وتاريخية النصوص المقدسة، وتحرير الوعي من فتاوى الفقه القديم، أي فقه التحريم والتكفير، لم يتجرأ أحد، حتى الآن، الخوض فيها كما ينبغي”، بحسب ما جاء في كتاب “مدخل إلى التنوير الأوروبي”.
قد يقول بعضهم إن الوقت، في هذه اللحظة الدموية العاصفة، ليس لطرح قضايا إشكالية بهذه الحساسية. لكن، يبقى السؤال قائماً إلى متى التأجيل؟ أليست الحركات الأصولية العنفية تتبارى مع الأنظمة القمعية في استبدادها ومصادرتها الفكر والحريات والمجالات العامة، بكل أبعادها، مثلما تسعى إلى الوصول إلى الحكم بالقوة وفرض شريعتها؟ أليست هي الأكثر نشاطاً واشتغالاً على إفراغ الوجدان الجمعي، روحياً ومعرفياً، وحبسه في أقفاص الفضيلة ورعبها؟ ألم يحن الوقت لأن تُفتح أبواب الاجتهاد الفقهي المغلقة، ويُترك للإسلام فضاء الازدهار ومواكبة الحياة، بدلاً من احتكار الأصولية له، واستدعائه من الماضي معزولاً عن شرطه التاريخي، وفرضه تراثاً حياً؟ وكيف يتم إنقاذ رمزية الإسلام وعمق روحيته من التوظيف الإيديولوجي الذي يمارسه الإسلام السياسي اليوم؟
لا بد من الاعتراف بالحاجة إلى ثورةٍ ثقافية، وسيكون مصير هذه الثورة الإجهاض، كما ثورات الربيع العربي حتى اللحظة، إن لم يُفتح باب النقد الذاتي واسعاً مع الجرأة على مواجهة الفقه القديم، فقه التحريم والتكفير.
العربي الجديد