المجتمع السوري على عتبة كارثة وطنية: معتز حيسو
القسم الأول
معتز حيسو
بات واضحاً أن الربيع السوري في سياق تحولاته الدامية، يتحول دراماتيكياً إلى صراع دولي يقود سورية دولة وشعباً إلى انهيار شامل وعميق، تُجهض في سيرورته إمكانية تحقيق التغيير الوطني الديمقراطي السلمي. وهذا بالضبط يهدد استقرار كافة السوريين مهما كانت انتماءاتهم السياسية والإثنية والعرقية والمذهبية، مما يجعل اهتمام غالبية الفئات الاجتماعية والفعاليات السياسية والمدنية والأهلية في الداخل يتمحور حول كيفية إيجاد آليات لإيقاف العنف، وحماية حياة المدنيين العزّل قبل الدخول في أي عملية انتقال سياسية، وهذه المهام يجب أن تكون من أولويات أطراف الصراع. إن حق الحياة وحماية المدنيين ليس منّة من أحد بل هو حقّ تكفله كافة الشرائع الإنسانية السماوية والأرضية.
أن تزايد حدة العنف لا يحمل في بنيته وتجلياته أي مخرج آمن، وبذات اللحظة يهدد كيانية الدولة بالتفتت والانهيار نتيجة للتعصب الأعمى الذي يحاول فرضه أطراف الصراع بالعنف المسلح المحمول على أدوات ومفاهيم وأبعاد مذهبية وجهادية (طائفية)، وأحادية سياسية(قهرية)، غايتها الأساس القبض على السلطة. إن هذه الآليات تهدد بتمزيق المجتمع السوري وكيانية الدولة عمودياً وأفقياً، وفي ذات السياق فإن الأطراف الجهادية المدعومة إقليمياً ودولياً،لا تعمل فقط في سياق اشتغالها لإسقاط النظام على تعزيز العنف التكفيري المعادي لأوسع الشرائح الاجتماعية، بل تحاول فرض دولة الخلافة الإسلامية القائمة على تطبيق الشريعة الإسلامية بأشد أشكالها تعصباً وتشدداً. وهذا المشروع يتناقض مع شكل وبنية التدين الشعبي الذي يرفض كافة أشكال العنف وتحديداً التكفيري. إن المتضرر الأكبر من مجريات هذا الصراع هو الشعب، الذي تتلطى خلف شعارات الدفاع عنه والإدعاء بتمثيله أطراف الصراع.
إن تصاعد حدة وشدة وأشكال تجليات الصراع، يهدد فعلياً بتحوّل الأزمة السورية إلى كارثة وطنية عامة شاملة ومركبة بات المجتمع السوري على عتباتها، وبات المواطن السوري يتلمس خطورتها وتجلياتها التي تنبئ بانفجار اجتماعي حددنا مقدماته منذ أكثر من عام في نص يحمل عنوان:( مقدمات الانفجار الاجتماعي). ويتحمّل مسؤولية هذا الانفجار كافة أطراف الصراع وإن بنسب متباينة، لكن المسؤولية الأكبر يتحملها من يمتلك القرار السيادي في سورية.هذا إضافة إلى جملة من الأسباب والعوامل الذاتية والداخلية التي تقاطعت في سياقاتها وسيرورتها مع سياسات دولية ترى بأن ضمان مصالحها في المنطقة يمر من بوابة ضبط آليات وأهداف الحراك السوري وتحويله عن أهدافه في التغيير الوطني الديمقراطي. ولعلّ أقربها إلى الذهن موقف الأمير القطري، الذي يشكّل الذراع الأساس للمشروع الأمريكي في المنطقة وتحديداً في سورية. كما أنه يتم الاشتغال على توظيف الحراك السوري لخدمة مشاريع وأجندات دولية وإقليمية متناقضة: قطر السعودية الأردن تركيا… تحت رعاية وإشراف الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية وتحديداً فرنسا وبريطانية (الناتو)، وفي المقابل روسيا الصين إيران حزب الله…(البريكس).
إن التناقض الجبهي بين هذين القطبين لا يحمل أيأً من ملامح التغيير الوطني الديمقراطي الذي انتفض من أجل تحقيقه السوريون. بل يتم الاشتغال على توظيف موجة الحراك الشعبي من منظور إعادة صياغة وتوضيب المنطقة العربية وشمال إفريقيا، وإعادة تقسيمها و رسم ملامحها الجيو سياسية بما يخدم مصالح الدول المتصارعة على إعادة تشكيل العالم بما يخدم حرية حركة رأس المال وتقاسم النفوذ والثروات. أي إعادة إنتاج الاستعمار من منظور المحافظة على حكومات المنطقة في كنف الرأسمالية والإمبريالية العالمية، لكن بعد إعادة توضيبها على أسس وأشكال جديدة، سمتها الأساسية هيمنة الفكر الديني والسلطة الدينية تحت مزاعم إرساء سلط ديمقراطية ( تنظر الحكومات الغربية لهذه الأشكال من الديمقراطية من منظور الأكثرية الدينية) لكن هذه السلط لن تستطيع إرساء أدنى معايير الديمقراطية شكلانيةً( ليس في هذا الحكم مصادرة لمستقبل الحركات الإسلامية، لكن تاريخ السلط السياسية الإسلامية عموماً يدلل على فشلها في تقديم نموذج ديمقراطي)لأن بنيتها الداخلية محملة بأسباب التناقض والصراع. وهذه العوامل لا تساهم فقط في جعل المنطقة ساحة للتدخلات والتناقضات الخارجية، بل تزيد من ارتهان وتبعية الأنظمة الجديدة للحكومات الغربية. ولأن الفكر الديني المحكوم بنص مقدس لا يحتمل أياً من أشكال الديمقراطية، فإنه سيكون عاجزاً عن قيادة المجتمع والدولة ديمقراطياً في حال سيطرته على السلطة السياسية. والأكثر خطورة هو أن هيمنة الدين وتحديداً (الجهادي التكفيري) على السلطة السياسية، سوف يعزز الأحادية التي تحوّل الحكّام إلى ظل الله في الأرض، وإلى ناطقين باسمه ومنفذين لإرادته ومشيئته. وهذا يعني استحالة مسائلة أياً من هؤلاء الحكام. وما يزيد من خطورة هذا التحول، هو أن مجتمعاتنا قائمة على التنوع ، وهيمنة سلطة دينية أحادية سوف يفتح الباب على تناقض مجتمعي يقود المنطقة إلى صراعات دينية ومذهبية وعرقية أولى نتائجها الانقسامات العمودية التي باتت تهدد جدياً شعوب المنطقة بالكامل.
لقد بات واضحاً أن الإتحاد الروسي، والولايات المتحدة يمثلان مشروعاً إمبريالياً هدفه الأساس إعادة تقاسم الحصص والثروات العالمية وفي مقدمتها مصادر الطاقة( النفط والغاز) كونها عصب الصناعة،والشرق الأوسط ينام على بحار منها.لكن هذا يجب ألا ينسينا أن شركات الأسلحة لها الدور الأساس في افتعال الحروب وإزكائها.
إذاً، إن سعي الغرب الإمبريالي للسيطرة على مصادر الطاقة، وتسريع وتيرة إنتاج وبيع السلاح لإخراج اقتصادها من أزمته البنيوية يحتاج لبؤر دائمة التوتر، وهذا ما نشهد تجلياته في المنطقة العربية، لكنه يترسخ في اللحظة الراهنة على قاعدة إعادة رسم ملامح العالم المتعدد القطبية، أدواته ووقوده الشعوب الفقيرة. ويقود هذا التحوّل عملاقي رأس المال العالمي الإمبريالي:(الإتحاد الروسي)الذي يقود تحالف البريكس و بعض الدول الطرفية،و(الولايات المتحدة) قائدة وضابطة إيقاع سياسات الناتو والحلف الأطلسي وبعض الدول الطرفية.
من البداهة بمكان أن رأس المال يحتاج إلى مناخات مستقرة، لذا فإنه لن يستثمر ولن يتوطن في مناطق التوتر، ولأنه جبان، فإنه سيهرب عندما يشعر بأدنى درجات الخطورة. وهذا يدلل على أن الصراع في البلدان التي تمتلك مصادر الطاقة يجب أن يتوقف، لأنها بالضبط تمثل مناطق جذب للاستثمار والنهب، لكن بعد أن يتم تهديم مفهوم الدولة الاجتماعية، وكيانية الدولة القومية ذات الدور والبعد الإقليمي والدولي، أي بعد تحويل هذه الدول إلى كانتونات طائفية وإثنية وعرقية ضعيفة، وهذا في الدرجة الأولى يحقق التفوق للمشروع الإسرائيلي، ويسهّل السيطرة على هذه الكيانات المستحدثة. لذا فإن شدة الصراع ومدته تتوقف على قدرة الدول الكبرى في حسم صراعاتها البينية التي تتعلق بإعادة تقاسم ثروات شعوب المنطقة، وكيفية السيطرة على مصادر الطاقة، وإيجاد حلول سياسية لجملة من الملفات العالقة: الملف الأسلحة النووية في إيران و الشرق الأوسط، أنابيب الغاز، وملف الدرع الصاروخي( الأمريكي الأطلسي)، القضية الفلسطينية، إضافة إلى ملف الحركات الإسلامية الجهادية، خشية انتقال تأثير هذه الحركات إلى الدول الغربية،في حال تم التوصل لآليات تنسيق وتواصل وتعاون بين الحركات الجهادية الفاعلة في مناطق الصراع، والأطراف السلفية الأصولية الموجودة في تلك البلدان وكمثال على ذلك ما يتموضع منها في بعض الجمهوريات الروسية( القوقاز، الفولغا الشيشان …) بريطانيا فرنسا … إضافة إلى خوف حكومات هذه الدول من عودة الجهاديين إلى بلادهم.
إن التوصّل لحل هذه الملفات لا يعني أبداً الانتقال إلى الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكنه سيزيد من حدة النهب والاستغلال، ويؤسس لإعادة تشكيل مجتمعاتنا ورسم ملامحها الجيو سياسية على أسس المكونات الأولية، وبما يتلاءم مع مصالح الدول الكبرى. وهذا يستدعي من كافة الفئات الاجتماعية والقوى السياسية العمل على فضح هذه السياسات والوقوف ضدها،ووضع آليات سياسية تحمي مجتمعاتنا من الانهيار والوقوع في براثن الاستعمار الجديد الذي يدّعي حماية حقوق الإنسان . إن حكومات دول الغرب الرأسمالي التي يحركها ويسيطر عليها نزوع رأس المال للسيطرة على مصادر الطاقة والأسواق وتحقيق أعلى معدلات الربح والتحرر من كافة القيود والضوابط والقوانين….. هي من ينتهك حقوق الإنسان، وترتكب أبشع الجرائم بحق الإنسانية، في ظل اشتغال رأس المال على تحويل الإنسان إلى سلعة.
إن جملة القضايا التي تناولناها، تشكل الهاجس الأساس للدول الكبرى التي تشتغل ليس فقط من أجل القبض على ناصية النهوض الشعبي، بل ومن أجل توظيفه واستغلاله في سياق ادعائها تحرير الشعوب من الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية، مع أنها تعلم بأن استبدال أنظمة التسلط والقهر بأنظمة إسلامية أصولية وسلفية، يعيد إنتاج الاستبداد بأشد أشكاله تخلفاً وقمعاً، ولا نخفي سراً إذا قلنا بأن بعض الأطراف الدولية تعمل على إيصال الأزمة السورية إلى طريق مسدود، لأن استمرار الصراع في سورية يخدم بالضبط مصالح هذه الأطراف ويؤمن التفوق الإسرائيلي. لذا فإننا نرى بأن استمرار الصراع سيبقى مفتوحاً طالما يخدم مصالح الدول الداعمة للصراع، ولا يهدد أمن إسرائيل. وقد اشتغلت الأطراف الدولية المتناقضة على التحكم بأطراف الصراع، مستفيدة من تشظّي وتناقض قوى المعارضة السياسية المدنية الديمقراطية، موظّفة من أجل مصالحها العنف والعنف المضاد، مستغلة النهوض الإسلامي بقيادة الأطراف الإخوانية، وداعمة للتنظيمات الجهادية التي كانت حتى عهد قريب أحد أعدائها. ويعلم الجميع بأن صناعة الحركات الجهادية كان يتم في المطابخ الدولية لخدمة مصالح الدول الكبرى كون هذه الحركات كانت تشكّل أحد أدواتها في كثير من مناطق الصراع. لكننا نعلم أيضاً بأن الإرهاب ليس فقط من صناعة الغرب الرأسمالي وتسلط ونهب واستغلال رأس المال،لكنه أيضاً نتاجاً للفقر والاستبداد والظلم والقمع والتخلف الذي كان للحكومات العربية المتحالفة مع الغرب الرأسمالي بحلّته النيو ليبرالية، اليد الطولى في انتشاره وتعميقه. هذا إضافة إلى أن الدول الرأسمالية ما زالت تشتغل على تحويل شكل الصراع من صراع يقوم على التناقض الطبقي، إلى صراع ( حضاري/ ديني) يتقاطع مع فلسفة فوكوياما وهنتغتون التي ترى بأن تطور التاريخ سيقف عند حدود الرأسمالية ( نهاية التاريخ، صراع الحضارات) وأن شكل الصراع العالمي هو صراع حضاري وليس تناقضاً اجتماعياً طبقياً. وهذا يستند موضوعياً على تعميق الانقسامات العمودية في المجتمعات وتحديداً المتخلفة منها والتي تنطوي على التنوع العرقي والمذهبي، مما يجعلها دائمة التوتر، وهذا يعيق ويحدّ من أي تطور اجتماعي واقتصادي تنموي.
في المقابل فإن الآليات التي اتبعها النظام في التعامل مع الحراك منذ الأيام الأولى، كانت من الأسباب التي قادت إلى المآلات الراهنة، والتي تنذر بمستقبل أشد قهراً وعنفاً وتخلفا ً في حال استمرار الصراع. كذلك فإن سيطرة الإخوان المسلمين على ( الائتلاف الوطني …)و تنامي دور الحركات الجهادية ميدانياً، والتمسّك بالخيار العسكري بديلاً عن إيجاد حلول سياسية وطنية تضمن وحدة الأرض والشعب، من الممكن أن تقود إلى تنفيذ المشاريع الخارجية وتعميق وتدويل الصراع.
إن استخدام السلطة للعنف المركب ضد الحراك السلمي، كان من أحد أهدافه دفع الحراك الثوري لاستخدام السلاح، لأنه يبرر للسلطة لا حقاً قمع وإجهاض حركة التغيير الديمقراطي، وها هي تنجح في كبح حركة التغيير السلمي،في سياق معركتها ضد الفصائل المسلحة. لكن هذا يجب ألا ينسينا المسؤولية التي تتحملها أطرافاً من المعارضة كانت ترى بأن تحقيق أهداف الثورة يستوجب العسكرة، وخطورة هذا الميل يتعين فعلياً في ارتهان هذه الأطراف لتحالفات دولية وإقليمية هدفها الأساس تدمير مقومات الدولة القومية وبناها التحتية والأساسية والسيادية. ويتقاطع هذا دخول الأطراف الجهادية على خط الصراع. مما بات يهدد بكارثة وطنية حقيقية تطال المجتمع السوري بكافة مكوناته الاجتماعية والسياسية العلمانية القومية منها واليسارية، ويهدد في حال نجاح هذه الأطراف في السيطرة على الحراك السياسي الديمقراطي بإعادة المجتمع السوري إلى أحط مراحله. إن هيمنة الإخوان المسلمين على القرار السياسي، وتقدّم الجهاديين صفوف المعارضة المسلحة يهدد بإجهاض أي مشروع ديمقراطي، و ينذر بمستقبل أشد قمعاً وعنفاً واستبداداً، وهذا التحوّل يهدد بدخول المجتمع السوري في صراع الكل ضد الكل.أي مزيداً من الرعب والعنف والتصفيات الطائفية والعرقية والمذهبية التي لم يكن يتوقّعها أو يفكّر بها أياً من السوريين. مما يستوجب بداهة تحمّل جميع الأطراف مسؤولياتهم في البحث عن حل سياسي يضمن إيقاف العنف وضمان حياة السوريين.
المستوى الاقتصادي: كثيرة هي الجوانب والتجليات التي تنبئ بأن الاقتصاد السوري دخل طور العطالة، إن لم نقل أنه دخل مرحلة الانهيار. فمن البداهة بمكان أن يكون القطاع الإنتاجي(الصناعي،الصغير والمتوسط والكبير، والزراعي) الحجر الأساس للاقتصاد، وهو الذي يحدّد طبيعته وبنيته ومستوى تطوره. وبنظرة سريعة على واقع الاقتصاد السوري في اللحظة الراهنة، نرى بأن القطاعات الإنتاجية التابعة للدولة بالأساس كانت تعاني من أزمة بحكم بنيتها وتركيبتها الإدارية، وضعف قدرتها الإنتاجية وتدني مستوى الجودة وبالتالي ضعف قدرتها التنافسية أمام السلع المستوردة، وفي الأسواق الخارجية، وذلك نتيجة لجملة من الأسباب الإدارية والمالية وطبيعة وتركيبة وشكل الإدارة التي تحكمت بسياق الخطط التنموية، وإشكالية علاقة هذه القطاعات مع الجهات الحكومية (البنك المركزي، خزانة الدولة..) التي كانت تؤول إليها عوائد الإنتاج دون النظر لضرورة إعادة هيكلة هذه القطاعات وتطويرها ..، وحتى أنه تم إطفاء حوالي (52مليار ليرة سورية) من مستحقات العمال في مؤسسة التأمينات الاجتماعية لصالح الخزانة العامة. أما الآن ونتيجة للوضع الراهن فإن هذه التجليات تضاعفت لدرجة أن كثيراً من هذه القطاعات توقف عن الإنتاج، أو أنها تعمل بطاقتها الدنيا. وما زاد من حجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هو تفكيك وتهريب أكثر من ألف وخمسمائة مصنع إلى تركيا، وما يزيد قناعتنا بأننا أمام كارثة اقتصادية وبشرية هو تصريح رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية ورئيس غرفة صناعة حلب المهندس فارس الشهابي على صفحات جريدة الثورة في الثلاثاء 23-4-2013 بأن ((الإرهاب)) (ساهم في تخريب113 ألف منشأة.. حصة حلب 35 ألفاً…) . لكن هذا لا يعني تجاهل سياسات تحرير الاقتصاد التي شكلت تهديداً مباشراً للاقتصاد السوري، والتي تجلت في إتباع سياسية تحرير التجارة الخارجية والداخلية كونها شكلت تهديداً مباشر للإنتاج الوطني، وفي ذات السياق، فإن فتح الأسواق المحلية للمستوردات، أوقف إنتاج آلاف الورش والمنشآت الصغيرة والمتوسطة نتيجة لانخفاض قدرتها التنافسية أمام غزو سلعي خارجي يتميز بكثافة تكنولوجية عالية تكسبه قدرة تنافسية عالية، إضافة إلى انعدام وجود ضوابط وآليات تحمي الصناعة المحلية وتشتغل على تمكينها وتطويرها، هذا إضافة إلى أن أحداث العنف ساهمت في إغلاق الباقي من هذه القطاعات، وكما هو معلوم فإن غالبية هذه الورش والمصانع متواجدة في الأرياف، والأرياف تشكّل الساحات الرئيسة للمعارك، والأخطر هو امتداد الصراع إلى المدن الرئيسية مما يشكل ليس فقط تهديداً للقطاعات الإنتاجية، بل ينذر بتدمير كيانية الدولة وبنيتها التحتية من مصارف ومؤسسات إنتاجية وخدمية …. ومما يساهم في انهيار ما تبقى من قطاعات إنتاجية هو توقف حركة التصدير والاستيراد( التبادل التجاري)، ونعلم بأن جلّ الصناعات المحلية يعتمد على مواد أولية مستوردة، وهذا يشكّل أحد أهم أسباب إغلاق العديد من المصانع التي وإن استمرت بما تيسّر من طاقة إنتاجية فإنها لا تستطيع تصدير إنتاجها، وهذا يهددها بالكساد والإفلاس ويحد من متابعة العملية الإنتاجية، وتحديداً في لحظة يتقاطع فيها الكساد والإفلاس مع الركود والانكماش وانخفاض قيمة الليرة وارتفاع سعر الدولار وارتفاع معدلات التضخم….، وقد وصل معدل الانكماش إلى 50%، إضافة إلى ذلك فإن تنفيذ قرار تعويم الليرة السورية سوف يزيد من انخفاض قيمة الليرة وهذا يهدد بارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 50%. ومما يزيد من تجليات الأزمة تراجع إن لم نقل انعدام إمكانية نقل السلع والبضائع داخلياً نتيجة خطورة الأوضاع الأمنية السائدة، وجراء النهب والسرقة والتشليح .. والتي تشكّل أحد تجليات أزمة الصراع البارزة التي تحتاج لعلاج سريع، باعتبار أن حركة النقل تشكّل أحد أهم وسائل تبادل وتداول السلع الإنتاجية. ولا ننسى بأن ارتفاع أسعار المحرقات وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل … يهدد مستوى الإنتاج و يهدد بشكل دائم بارتفاع الأسعار التي تنعكس على مستوى الاستهلاك الذي يتراجع بشكل مستمر، حتى بات ينحصر في تأمين المواد الغذائية نتيجة لارتفاع معدلات الفقر التي تصل إلى حد المجاعة في العديد من المناطق نتيجة تقلص فرص العمل وانخفاض قيمة الليرة السورية التي فقدت أكثر من نصف قيمتها الشرائية، وهذا ينعكس سلباً على العملية الإنتاجية، وتشير الدراسات أن حولي 7،4 مليون شخص كانوا يصنفون قبل الأزمة بين خطي الفقر الأعلى والأدنى أي بنسبة تتجاوز 35،7% أما في اللحظة الراهنة فإن المؤشرات تدلل على ارتفاع مرعب في معدلات الفقر الذي تجاوز عتبة 70% من المجتمع السوري، وأيضاً معدلات البطالة التي تجاوزت تقديرياً وبشكل أولي عتبة 55% من القوى العاملة الحيّة. وهذا ينعكس بالضرورة وبشكل إتوماتيكي ودراماتيكي علي معدلات الاستهلاك وعلى شدة الإنتاج المتباطئ والمتراجع نتيجة للعديد من الأسباب والعوامل والتي ذكرنا بعضاً منها، وهذا يتجلى بشكّل واضح من خلال مراقبة حركة التداول في الأسواق التي باتت تتسم بالركود. ووفقاً لبعض التقارير (( فقد تراجعت النفقات الحكومية العامة على الاستهلاك النهائي إلى 10.1 % عام 2011 مقارنة بـ12.4 % عام 2000. وبلغت نسبة الحرمان 37.5 %، والسكان المعرضون لخطر الفقر 7.1 %، والذين يعيشون في فقر مدقع 0،5 %، وبلغت نسبة الحرمان إلى الفقر العام في مجال التعليم 45.4% والصحة 42.7% ومستوى المعيشة 11.8%، وذلك وفقا لبيانات عام 2006.وفيما يتعلق بالتحكم بالموارد، بين التقرير أن الناتج المحلي الإجمالي بلغ 2011 بمعادل القوة الشرائية لعام 2005 نحو 96.9 مليار دولار، وبلغ نصيب الفرد منه 4741 دولاراً، وتكوين رأس المال الثابت الإجمالي 18.8%، وتراجعت خدمة الدين من 2.5% عام 2000 إلى 1.1% عام 2009. وبلغت بطالة الشباب (من عمر 15 إلى 24 سنة) 40.2% خلال الفترة 2005-2011، وتشغيل الأطفال 4% في الفترة 2001 -2010))( ثامر قرقوط) .
و((بحسب مدير إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في «اسكوا» عبد الله الدردري… فمنذ اندلاع الأحداث، تراجع الناتج المحلي في سوريا بنسبة 40% وازداد عدد العاطلين من العمل إلى 2.5 مليون شخص، ودمّر 40% من الأصول الرأسمالية المنتجة. ووفق تقديرات «اسكوا»، فإن استمرار القتال في سوريا يزيد في حدّة انخفاض الناتج المحلي هناك بنسبة 58%…… وأن الاقتصاد السوري انكمش بالفعل بما يتراوح بين 35 و40 % وسيتهاوى 60 % عن مستواه في بداية الانتفاضة اذا استمر القتال…. ورغم ذلك قال الدردري إن سورية تواجه تحديات لا يمكن تخيلها حتى وإن توقف القتال غدا وقدر التكلفة الاقتصادية بما يتراوح بين 70 مليارا دولار و80 مليارا من بينها 28 مليار دولار لإعادة بناء 1.2 مليون منزل وإمدادها بالبنية التحتية اللازمة….إن بلاده ستحتاج إلى 30 مليون طن من الأسمنت سنويا أي ما يزيد ثلاثة مرات عن احتياجاتها قبل الأزمة لترميم المنازل المتضررة وتلبية الاحتياجات اللازمة لبناء الوحدات السكنية الجديدة….وأضاف “تتطلب 30 مليون طن من الأسمنت ما يزيد على مليار متر مكعب من المياه…..)) ( جريدتي الأخبار والحياة 10 /5/2013)
أما القطاع الزراعي فإن أزمته لا تقل خطورة عن أزمة القطاع الصناعي، نتيجة لتحوّل الأرياف إلى ساحات صراع أعمى يدفع بالمزارعين لهجرة أراضيهم. ومن بقي متمسكاً بأرضه لا يستطيع ممارسة العملية الزراعية مما ساهم في تراجع إنتاجية القطاع الزراعي، وليس الصراع الدائر هو السبب الوحيد لتراجع الإنتاج الزراعي أو لهجرة اليد العاملة من الأرياف، بل اقترنه قبل الأزمة بتحرير الأسعار وتراجع الإنفاق الحكومي على القطاع الزراعي والجفاف وارتفاع أسعار المحروقات، مما يدلل على أن القطاع الزراعي بالأساس كمثيلة الصناعي عانى ويعاني جملة من العوائق سببها السياسات المالية والاقتصادية التي افتقدت للتخطيط الإستراتيجي. ومما ساهم أيضاً في تسريع انهيار القطاع الإنتاجي اعتماد التجارة كبديل وقاطرة للتنمية، وقد شكلت هذه السياسات أحد أهم العوامل المهددة للتنمية الاقتصادية والبشرية، هذا إضافة إلى أن اعتماد التجارة كقاطرة للنمو وليس التنمية القائمة على الإنتاج، أسّس لزيادة معدلات الاحتكار وعدم انعكاس آثار هذه النمو على مستوى دخل ومعيشة السوريين، حيث وصل معدل الاحتكار إلى أن 7% يمتلكون حولي 75% من الناتج القومي الإجمالي ، بينما 75% من المجتمع السوري يملكون أقل من 25%. ومن المعلوم بأن النمو الرقمي لا يمثل إطلاقاً واقع حال التنمية التي لم تتجاوز نسبتها الحقيقية من الإنتاج السلعي 3%. إن جملة هذه العوامل شكلت أسباباً حقيقية لارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع قطاعي الإنتاج الزراعي والصناعي وتحديداً الصغير منها والمتوسط، هذا إضافة إلى أزمة قطاع الدولة الذي تعرض للنهب والتخسير ومن ثم للخصخصة والبيع بأبخس الأثمان، مما حتّم حصول كارثة وطنية على المستوى الاقتصادي الإستراتيجي.
إن تراجع إمكانية نقل السلع الإنتاجية الصناعية والزراعية جراء المخاطر المتفاقمة على كافة الطرق تهدد بانحصار التسويق في مناطق الإنتاج، وبالتأكيد فإن هذا يهدد بتخلع ليس فقط الأسواق السورية الذي يتسبب في حرمان المواطن السوري من السلع الضرورة، بل وبمضاعفة تخلع القطاعات الإنتاجية التي يشكّل فيها التكامل أحد أسباب التطور. ويجب التنويه بأن تجليات الأزمة تنعكس على بقاء واستمرار حياة المواطن جراء إقفال الكثير من مصانع الأدوية و تدمير العشرات منها مترافقاً مع تدمير عشرات المشافي، إضافة إلى صعوبة إيصال الأدوية والمواد الطبية إلى كافة المناطق السورية.
وتشير العديد من الدراسات إلى أن حجم التصدير في العام ( 2012) قد تراجع مقارنة بالعام ( 2011) بنسبة 97% ، ولا نملك أرقام دقيقة لحركة التصدير وحجمه في العام الحالي، لكنها بالتأكيد تجاوزت هذا المعدل، مما يعني بأن حجم الصادرات من الممكن أن يكون قد وصل للصفر، إضافة إلى أنه من أسباب تراجع حجم الصادرات إضافة للصراع، هو العقوبات التي فرضتها العديد من الدول العربية والغربية.
ويجب أن لا ننسى بأن توقف الصادرات النفطية رغم أن إجمالي إنتاج سورية وفق مصادر حكومية رسمية انخفض في السنوات الأخيرة من 470 إلى 330 ألف برميل يومياً.لكنه كان يؤمّن حولي 50% من الاستهلاك المحلي، وكان مصدراً لتأمين القطع الأجنبي، كل هذا لم يعد موجوداً، ليس هذا فحسب، بل أن القطّاع النفطي من آبار ومصافٍ ومواقع تكرير وتخزين وتسويق تتعرض وبشكل دائم للنهب والتخريب والتهريب من قبل أطراف غير حكومية مما يحرم الخزينة والشعب من ثروته الوطنية… وفي غياب كامل لسلطة الدولة، تم إشعال تسع آبار على الأقل في المنطقة الشرقية، فيما تُنهب آبار أخرى في المنطقة ذاتها وتباع في الأسواق التركية، التي باتت سوقاً لتصريف المسروقات السورية، بدءا بالمعامل التي فككت ونقلت بالكامل لتباع بالجملة والمفرق، إلى مخزون الحبوب الذي أفرغ من صوامع التخزين الاستراتيجي، وصولا إلى محاصيل القطن، والآن النفط الخام.
وحول الآثار الاقتصادية الراهنة، أوضح السيد سليمان العباس وزير النفط لصحيفة الثورة في عددها الصادر بـ 3/4/ 2013: أن تحديد الخسارة يخضع للتقديرات أكثر منه لمعلومات دقيقة بسبب غياب إمكانية التدقيق الميداني، إلا أنه يشير إلى رقم كارثي يتمثل «بخسارة أولية حتى تاريخه بحوالي 750 ألف برميل، وذلك اعتماداً على الاختبارات القديمة قبل حصول الاعتداءات، وبناءً على بعض الفرضيات المتعلقة بالتقارير الواردة من عمليات الحقول»، وأكد على أن إنتاج النفط تراجع من 380ألف برميل يومياً إلى 70 ألف برميل. وكانت وزارة النفط السورية قد تحدثت عن خسائر في القطاع النفطي تفوق 3 مليارات دولار في العامين الماضيين، رغم أن التقديرات المستقلة تشير إلى 4 مليارات دولار، خصوصا مع اضطرار سوريا للاستيراد من السوق السوداء بسبب حظر الاستيراد الأوروبي، وعدم قدرتها على التصدير، إضافة إلى خروج آبار عديدة من الخدمة ونهب أخرى.ومما يزيد من أزمة القطاع النفطي هو موافقة الإتحاد الأوربي على شراء النفط الخام من بعض الأطراف المعارضة التي تسيطر على بعض الآبار النفطية. ونذكّر بأن موارد سورية من القطع الأجنبي كانت تأتي من السياحة وعوائد الصادرات والاستثمارات والتحويلات من الخارج و الصادرات النفطية … و جميع هذه المصادر توقفت بشكل شبه كامل.
أيضاً يجب عدم إغفال الانعكاسات السلبية لانخفاض رصيد البنك المركزي من العملة الأجنبية، والذي تراجع وفقاً للعديد من الدراسات إلى أكثر من النصف، إذ كان حجم القطع الأجنبي قبل الأزمة يتراوح بين 18 و 20 مليار دولار، أما الآن فإنه لا يتجاوز 9 مليار دولار وفق بعض التقارير، وقد صرح حاكم المصرف المركز السيد أديب ميالة بأن التقارير التي تشير إلى أن احتياطي الدولار في البنك المركزي انخفض إلى ( 4 مليار دولار ) غير صحيحة. إن انخفاض احتياطي الدولار في البنك المركزي، يرتبط بشكل مباشر ليس فقط في تراجع دعم الإنفاق العام وتمويل القطاعات الإنتاجية، بل وفي تمويل حركة الاستيراد التي تحتاج لقطع أجنبي. ومما ضاعف من أزمة القطع الأجنبي انتعاش ظاهرة المضاربة والتجارة المالية من قبل التجار ورجال المال، هذا إضافة إلى تهريبهم لممتلكاتهم من القطع الأجنبي نتيجة خوفهم من الصراع الدائر، وهذا يدلل على أن رأس المال جبان ولا يشتغل إلا في ظروف الاستقرار التي تضمن تحقيق أعلى معدل من الربح والقيمة المضافة، وتوفّر إمكانية توسيع الإنتاج… ( رغم أن شكل الاستثمار في سورية ينحصر في التجارة وصناعات اللمسة الأخيرة والاستثمار في القطاع العقاري والسياحي…). ويجب ألا ننسى أن قطاع السياحة الذي كان يحقق أكثر من 8 مليار دولار سنوياً قد توقف بشكل نهائي. إن توقف حركة السياحة، ينعكس كارثياً ليس فقط على خزانة الدولة، بل وعلى العاملين والمستثمرين في هذا القطاع، و بالتالي على المواطن السوري الذي كان يحلم من العام إلى العام في رحلة داخلية لا تتجاوز الأسبوع في أفضل الأحوال ….
وأخيراً يجب أن نذكّر بأن ارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 57%، وانخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار إلى أكثر من 150% ، وتراجع قيمتها الشرائية في الأسواق المحلية إلى أكثر من 100%، وارتفاع الأسعار وتحديداً السلع الأساسية والغذائية بشكل خاص إلى حوالي 150%،ثبات الأجور، وعجز السياسات المالية عن مواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ساهم بالتساوق مع ارتفاع معدلات الجريمة والنهب والفساد إلى وقوف السوريين على عتبة الانهيار.وقد أشار المصرفي فادي الجليلاتي في صحيفة الوطن:(إن التضخم أدى إلى ارتفاع التكاليف المباشرة وغير المباشرة بالقطاع المصرفي في ظل انخفاض سعر الصرف لليرة وزاد من الأعباء التي تتحملها المصارف مقابل التراجع في جانب الإيرادات جراء الأزمة».وأضاف:أن التضخم أثر سلباً على عملية الإقراض أيضاً لترافق زيادة الطلب على رؤوس الأموال لتمويل المشروعات بزيادة أسعار الفائدة على القروض من خلال إضافة ما يسمى«علاوة تضخم» التي تضاف إلى سعر الفائدة الحقيقي مما يؤدي بالمحصلة إلى إحجام المستثمرين عن الاقتراض نظراً لارتفاع كلفة القرض وبالتالي تراجع نمو الاقتصاد الوطني».ولفت الجليلاتي أنه يتم عادة في حالات التضخم رفع سعر الفائدة على القروض التي كانت تصل إلى معدلات 13-14% إلى مستوى 20 أو 22% وفق سعر الفائدة على الودائع، بهدف امتصاص السيولة وكأداة في وجه المضاربة على العملة ويستجيب رفع الفوائد على القروض مع ارتفاع الكلف لديها وبقاء هامش من الربح وأشار الجليلاتي أنه بالمقابل فإن رفع سعر الفائدة يكون سلبياً وعقبة في وجه الاستثمار الجديد لدى مقارنة نسبته المرتفعة من قبل المستثمرين مع ربحية المشروع وبالتالي يقلل من الاستثمار.).
القسم الثاني
المستوى الإنساني : من الصعوبة بمكان استعراض كافة تجليات الأزمة الإنسانية التي يعاني منها المواطن السوري، وليس هذا من باب المزاودات الكلامية. إذ إن تقارير الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تشير إلى أن سبعة ملايين سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، مما يعني بأن حوالي 30% من سكان سورية بحاجة لهذه المساعدات. وفي حال استمرار الصراع فإن عدد اللاجئين وفقاً لتقرير الأمم المتحدة الأخير، سيصل في نهاية العام الجاري إلى ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف، أما النازحين فإن عددهم سيصل إلى ستة ملايين وخمسمائة ألف مواطن.وأيضاً تشير تقديرات الأمم المتحدة بأن ربع السكان تحولوا إلى نازحين ولاجئين ويحتاجون للمساعدات الإنسانية. و ذكر الخبير والباحث في الشؤون العقارية عمار يوسف:( إلى أن عدد المنازل المهدمة بشكل كامل قد بلغ( 535000) ألف وهذا يعني بأن (700ألف ) أسرة تحتاج إلى سكن، وإذا كان معدل أفراد الأسرة (4 أفراد ) فهذا يعني بأن( 2800000) مليونان وثمانيين ألف مواطن يحتاجون إلى سكن. وأيضاً فإن التقديرات الميدانية تشير إلى أن (475000) مسكن تتراوح أضرارها بين تحطيم الزجاج إلى حد انهيار جزء من المسكن مما يجعلها غير صالحة للسكن. ويعاني( 850000) إنسان في مناطق التوتر من صعوبة تأمين حاجاتهم الأساسية، وما يزيد معاناة النازحين داخل القطر هو ارتفاع الإيجارات حيث وصلت في دمشق إلى (50000ليرة سورية، وفي العشوائيات إلى 30000 ليرة سورية. وأجار منزل لا تتجاوز مساحته 60م2 بلغ 20000ليرة سورية)). فالإنسان في سورية لم يعد يدرك أي مستقبل ينتظره، ولم يعد يعي بماذا يفكر أو ماذا يعالج، أو عن ماذا يدافع في ظل صراع يغتال كل شيء: ما جناه بشق الأنفس، فلذّات كبده يتم اغتيالهم بأبشع أشكال العنف همجية، الصراع يشردهم في أصقاع الأرض بحثاً عن مأوى آمن، تأمين لقمة العيش أصبحت سبباً لضياعهم،أما النساء والأطفال فقد حولهم الصراع وفتاوى العهر إلى سلعة في أسواق النخاسة،والطامة الكبرى أن من يطلق هذه الفتاوى يدّعي التمسك بشرع الله الذي لا علاقة لهم به، وحتى لا رابط لهم ليس فقط بشرع الله وكتابه المقدّس، بل لا تربطهم حتى أية علاقة بمواثيق الأمم المتحدة وشرعتها التي أقرّت بضرورة حماية المدنيين وتحديداً الأطفال والنساء والشيوخ. ونؤكد على هذا لأنه في كل الثورات الإنسانية يوجد مدنيون لا يشاركون في الصراع، وحمايتهم تقع على عاتق كافة أطراف الصراع. فكيف بنا وبعض من أطراف الصراع يعملون على استغلال وانتهاك أقدس ما يمتلكه الإنسان، ألا وهو كرامته.ومأساة الإنسان السوري تكمن في أن كافة أطراف الصراع الداخلية منها والخارجية، المشاركة منها في الصراع بشكل مباشر، أو غير مباشر، تساهم في استغلال كرامة الإنسان، وخطفه من ذاته، لجعله صوتاً أو سلعة أو أداة…لخدمة أجندات وأيديولوجيات متطرفة تناقض مصالح الشعب السوري، وأيضاً يتم الاشتغال على إرغامه لممارسة مسلكيات لا يقبلها وليست من معالم منظومته القيمية والأخلاقية والثقافية ذات العمق التاريخي.
وعندما ضاقت البلاد بمواطنيها بفعل العنف المنفلت من أية ضوابط ، هام الإنسان السوري على وجهه باحثاً عن ملجئ آمن، دون أن يدري أنه سيتحول إلى سلعة في أسواق السياسية الدولية التي لا تهتم بأبسط المعايير الإنسانية،حتى تحوّل السوريون (لسطل الشحادين) بفعل أطراف تستجدي المساعدات الإنسانية تحت ذريعة حماية اللاجئين وتأمين حاجاتهم الإنسانية، لكن هيهات، فغالبية هذه الأطراف تعمل لمصالحها الخاصة. أما الجهات الدولية والحكومية، فإنها تعمل على توظيف اللاجئين واستغلالهم كورقة ضغط واستثمار، من أجل تحقيق مكاسب متعددة الأبعاد والمستويات والأشكال، مستغلة الأزمة السورية التي تطحن البشر قبل الحجر. لكن هذه التجليات يجب ألا تنسينا الدور الإيجابي الذي تقوم به المنظمات الإنسانية من أجل توفير الخدمات الضرورية للاجئين والنازحين……
في ظل العنف الكارثي، الذي طالت آثاره وتداعياته الجميع ، ليس فقط بالقتل والتشريد، بل بهتك الأعراض والنهب وتوظيفهم كأدوات في ساحات المعارك. حتى بات (الإنسان) يعامل في ظل العنف الأعمى بأسوأ الأشكال وأبعدها عن المعايير الإنسانية، وليس بكونه إنسان أخلاقي واجتماعي وسياسي، فالعمر الحضاري للإنسان السوري يتجاوز الخمسة آلاف سنة. لكن يوميات الصراع الأعمى تؤكد أن كثيراً من السوريين ليس لهم علاقة بتراثهم الحضاري والإنساني، فقد تحولوا ليس فقط إلى بهائم الغاب، بل أصبحوا أضلُّ سبيلا.
ولكون الأطفال كما النساء يشكّلون الحلقة الأضعف في المجتمعات المتخلفة، فإن كافة أشكال الاستغلال والقمع والتمييز كانت تُمارس بحقهم في لحظات الاستقرار. فكيف سيكون وضعهم لحظة الأزمة التي تغيب فيها سلطة الأخلاق والقانون الذي على ما يبدو لم يتحول لثقافة عامة سائدة وراسخة عند المواطن، لأنه ما زال يقترن في ذهنه بأن القانون مرتبط بنيوياً وعضوياً بسلطة القوة. لذا فإن النساء والأطفال يتحولون في هذا السياق وتحت ضغط حق البقاء إلى ضحايا العنف الجنسي وانتهاكات حقوق الإنسان، وضحايا لتجّار الرقيق الأبيض. إن كل هذه الحالات تعتبرها الأمم المتحدة جرائم الحرب تستوجب محاكمة مرتكبيها أمام المحاكم الدولية، وأيضاً يسقطون ضحايا فتاوى الجهل وممن يدّعون العلم والشرع والأخلاق من (علماء مسلمين)، ليبرروا ويشرّعوا ليس العنف الجهادي التكفيري فقط، لكن ليشرّعوا ويحللوا تحويل النساء إلى بغايا وسبايا وجواري( جهاد المناكحة…)، في سياق طمس وتغييب الإنسان والإنساني في النساء.إن التركيز على المستويات الجنسية بأشكال ومسميات مخجلة ومقرفة تحط من قيمة المرأة، تدلل على عمق التخلف عند الفرد الذي لا يرى منها إلا الجنس ولا شيء آخر، وهذا يستدعي من وجهة نظر تلك الأطراف، حجب المرأة وإعادتها إلى أسرها التاريخي بوصفها أداتاً للمتعة، ولأنها مصدراً للإغراء والإغواء يجب حماية الرجل منها. وفي هذا ليس انتهاكاً لعقل المرأة وحقها في الحياة بحرية وكرامة، بل انتهاكاً أيضاً لعقل الرجل الذي يتم حصره في الجنس. ولأن واقع المرأة من هذا المنظور هكذا، فهي ليست إنساناً كامل الأهلية والعقل، لذا فإن حمايتها من مسؤولية الأطراف التي تدعي القوة والكمال، لكن هذه الأطراف تدّعي ما لا تملكه، لأنها تنطلق من منظور ذكوري متخلف وعفن يبرر كافة الممارسات التي من خلالها وعلى أساسها يتم انتهاك كرامة المرأة.
لقد أصبح قدر النساء تحديداً، والإنسان بشكل عام، أمام خيارين أحلاهما مر: إما الهرب خوفاً من عنف خرافي ومجنون يحوّل الإنسان لأشلاء تتقاذفها عواصف الجهل والتخلف والتعصب والتكفير والتخوين. أو الموت تحت سطوة العنف الذي تمارسه غالبية أطراف الصراع بأشكال ومستويات مختلفة، ونميز بين شكلين للموت:موت بيولوجي تحت ضربات العنف العاري وتحت مسميات سياسية وطائفية ودينية تكفيرية. موت إنساني( إطفاء الضوء الإنساني داخل الإنسان). فحين تسلب الأعراض وتنتهك الكرامة والحرية، فلا شيء يبقى للإنسان إلا الثأر لكرامته المهدور،أو انتظار الموت المؤجل، وفي هذا الانتظار تتجسد أعلى أشكال المعاناة الإنسانية، لأن حياة الإنسان حينها تصبح أشد ظلماً وقهراً وعسفاً واضطهاداً من حياة محكومة بشريعة الغاب.
لم تكن المرأة تدري بأن هجرتها هذه سوف تحولها إلى سلعة رخيصة في أيدي تجار الحروب والأزمات، وإلى سلعة جنسية يتهافت عليها نهشاً الجهلاء والطامعون والغاصبون لكرامة الإنسان تحت ذرائع ومسميات يحكمها الجهل والانتقام. ولم يشفع للاجئين السوريين الذي تجاوز عددهم مليون وثلاثمائة ألف، أو للنازحين الذي يقدر عددهم بأربعة ملايين كافة الشرائع السماوية والأرضية من ظلم الإنسان الذي انحدر في سلوكياته لأحط المستويات. فباتوا أوراقاً وأدوات وسلع للمقايضة في أسواق العهر السياسي الذي لا يرى في الإنسان اللاجئ سوى أدوات للاستغلال تحقيقاً لمكاسب سياسية ومالية. ويعلم الجميع بأن السوريين هم من فتحوا منازلهم لإخوتهم العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين …. فكانت طامتهم الكبرى عندما اشتدت عليهم الأزمات، وهُجّروا من منازلهم، بأن أخوتهم في العروبة والإسلام يعملون على تحويلهم لبغايا وسبايا بفعل فتاوى يدعي أصحابها أنهم يمثلون شرع الله. وإلى أوراق ضغط سياسية في أسواق السياسة الدولية العاهرة.
فماذا تبقى للإنسان الذي انُتهكت كرامته وهُدّم منزله وقُتل أطفاله وشُرد وقُتل و تقطعت به سبل العيش حتى تحوّل لمصدر يغتني من خلال التجارة بأعضائه مجرمي الحروب… أظن أن ما يحصده الإنسان السوري من ويلات وما سيحصده نتيجة للعنف الأعمى والمجنون لا يمكننا أن نتوقعه، أو حتى لا يمكننا تصور انعكاساته ونتائجه النفسية والعصبية التي تتجلى من خلال حالات الاكتئاب والانتحار بسبب الانتهاكات التي يتعرض لها نتيجة للعنف السياسي، وموجات العنف التكفيري والجهادي الذي يستمد مشروعيته من المقدس، الذي يتم تدنيسه في يوميات الجهاد (المقدس) وعلى أباب التسول السياسي. ونؤكد بأن استطالة العنف لا تعني إلا مزيداً من العنف، ومزيداً من القهر والحقد والكراهية والاستقطاب. ومن الضروري التأكيد على أن ما يطفو على السطح في ظل الأزمة السورية هو الأشد تخلفاً وتعصباً وكفراً وحقداً مما استنقع من تخلف في أذهان بعض المشاركين في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا يدلل على أن العقل والعقلانية، باتا هدفاً للعنف التكفيري الجهادي التخويني، الذي يقوّض أي أمل بتحقيق الحرية والكرامة والعدالة، ونتيجة لإقصاء الشعب السوري عن ساحة الفعل السياسي،وإدعاء تمثيله والدفاع عنه للهيمنة على المشهد السوري. فأي مستقبل ينتظر السوريين في حال دمار الدولة والمجتمع في ظل هوس وولع الإخوانيين والتكفيريين وبعض إن لم نقل غالبية أطراف المعارضة الخارجية إلى القبض بالنواجذ والأنياب على السلطة في سياق انتقامي ثأري إقصائي شخصاني مدمر، وبذات اللحظة أي مستقبل للسوريين في ظل سلطة قهرية مازالت ترى بأن القوة والعنف سبيلاّ وحيداً للقبض على السلطة التي تحوّلت وحوّلت رموزها إلى مفسدة مطلقة تبيح إذلال الإنسان ونهب الأوطان.
أما فيما يخص الأطفال( ذكور ــ إناث) فمأساتهم مضاعفة. حيث يتراوح عدد الشهداء منهم بين ( 15 ــ 18 ألف طفل)، وعدد النازحين تجاوز المليوني طفل، وعدد اللاجئين يقدر بمئات الآلاف. إن أبسط حقوق الطفل ألا وهي البقاء على قيد الحياة غير ممكنة، وحقهم في التعليم مفقود نتيجة لدمار وتضرر أكثر من ثلاثة آلاف مدرسة، وتحويل أكثر من آلفان وخمسمائة مدرسة لأماكن سكن للنازحين، وهذا ساهم في انخفاض عدد الدارسين بمعدل 60%. وحياتهم تحولت إلى جحيم، نتيجة القصف والدمار والتهجير والحرمان من كل مقومات الحياة التي تنص عليها كافة الشرائع السماوية والأرضية، حتى بات تشريدهم أمراً يفقأ العين. و((تقول الأرقام الرسمية في المفوضية العليا لشؤون النازحين إن نسبة الأطفال النازحين من عمر يوم إلى عمر 17 سنة، تبلغ نحو ستين في المئة من مجمل الموجودين في لبنان. وإذا كان الرقم المتداول حالياً يدور في فلك المليون ومئتي ألف نازح (ما بين ومسجل وغير مسجل)، يمكن القول إن في البلاد ستمئة وخمسين ألف طفل نازح سوري على الأقل. وتبلغ نسبة الذين يتراوح أعمارهم بين الأربع سنوات و17 سنة، نحو 45 في المئة من بينهم. أي أن هناك نحو ثلاثمئة ألف طفل في عمر الذهاب إلى المدرسة.)) (السفير 10 /5/2013/م).
ولا يسلم الأطفال من التحرش والعنف الجنسي في أماكن اللجوء والنزوح وأيضاً في مناطق الصراع، كما أنهم يعانون من التشغيل القسري في الدعارة كما النساء، وأيضاً يتم إجبارهم على القيام بأعمال مذلة يفتقد فيها الأطفال إلى أدنى المعايير الإنسانية. ونعلم بأن استخدام الأطفال وتحديداً ممن لم يتجاوز العاشرة من عمره في النزاعات المسلحة( مراسلات، القتال المباشر، دروع بشرية..) تحظره وتمنعه شرعة حقوق الإنسان، لكنه في سورية بات أمراً مفضوحاً ترصده وتوثقه الأمم المتحدة والجمعيات التي تعنى بحقوق الطفل. هذا إضافة إلى استغلالهم وتحويلهم إلى سلع في أسواق تجارة الأعضاء البشرية من قبل لصوص وتجّار ومجرمي الحروب.. إن ما يعانيه الأطفال في ظل سيادة العنف والقتل بأبشع صوره، والتشريد والجوع والحرمان .. لا تنحصر نتائجه فقط في اللحظة الراهنة، بل سيطال تأثيره مستقبل السوريين، فأي مستقبل لسورية عندما يُحمّل الأطفال تبعات الحرب الدائرة وآثارها السلبية من تشوهات وعاهات، وأي مستقبل لسورية عندما يعاني أطفالها من أمراض واضطرابات نفسية وعصبية وسلوكية جراء معايشتهم أشد مظاهر العنف قسوة وتخلفاً. ويعلم الجميع بأن الأطفال يشكّلون غالبية المجتمع السوري. وهذا يستدعي التأكيد على أن حمايتهم من تداعيات وانعكاسات العنف مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون قانونية أو سياسية، لأن تحطيم وتهشيم وتشويه الأطفال لن يعني في المستقبل إلا مجتمعاً مريضاً متداعياً، ولن نبالغ في القول، بأن طفلاً تفتحت مداركه على العنف والدم والقتل لن يكون إلا محملاً بلغة وثقافة العنف، لذا فمن الممكن أن يكون مستقبل سورية محكوماً بلغة وثقافة العنف والدم والسلاح في حال استمرار الصراع طويلاً. وإذا كان نزع السلاح بعد انتهاء الحرب فيه كثيراً من الصعوبة، فإننا نؤكد على أن تجاوز ونزع أو التخلص من ثقافة العنف والقتل أصعب بكثير، وتحديداً عندما تتأسس ثقافة العنف على مفهوم الطائفة والدين والعشيرة والجنس والعرق…، ومن المؤكد بأن هذه المظاهر والتجليات ستكون أكثر كارثية على المجتمع في حال انهيار الدولة وتفتت المجتمع، وهذا ما نرفض أن يصله المجتمع السوري. وواجب الجميع العمل لعدم الوصول إليه، لذا فإن الحفاظ على وحدة سورية والسوريين واجب وطني، وهذا الواجب يحتاج لفهم وإدراك وطني يتجاوز الطائفة والعرق والعشيرة والتحزب الأعمى و الفكر الأحادي. وبذات اللحظة يجب أن يتأسس الوعي الوطني على مفهوم المواطنة الذي لا سبيل لتحقيقه إلا بوعي ديمقراطي يحافظ على كيانية الدولة من الانهيار، ويحافظ بذات الوقت على كامل حقوق الأفراد في سياق الانتقال إلى نظام ديمقراطي يحفظ المجتمع من التشظي والتفتت، ويحمي الدولة والمجتمع من هيمنة عقائدية أحادية سياسية كانت أو دينية أو عرقية..، وهنا بالتحديد ندق ناقوس الخطر من خطورة الجهاد التكفيري الداعي لإقامة دولة إسلامية يتم في سياق العمل على بنائها ليس بناء الدولة والإنسان، بل تهديم الدولة والإنسان، وأيضاً نحذر من خطورة تمسك السلطة بخيار العنف السياسي ضد مجتمعاً جاهر بحقه في استرجاع حقوقه. ونؤكد على أن شعباً ثار على الظلم والاحتكار والقمع، لن يرضى بأقل من الحرية والديمقراطية والعدالة، وهذا ما تخالفه وتشتغل على مناهضته كافة أشكال النظم والأيديولوجيات العقائدية الشمولية وتحديداً تلك التي تتأسس على مفاهيم التخلف، والتي لن تكون إلا قمعية واستبدادية وظالمة وقاهرة لحقوق الإنسان وحتى لمفهوم الدولة وبالتالي للدولة الوطنية والقومية.
المستوى الاجتماعي: إن مجمل التجليات التي عرضناها، تضع المجتمع السوري على عتبة الانفجار، وهذا الانفجار لن يكون له شكلاً واحداً أو مستوى محدَّد بعينه، بل سيكون من داخل البنية الاجتماعية وعليها، وبنفس الوقت سيكون تعبيراً عن مكوناتها الأولية، وبأشكال ومستويات يصعب تحديدها وبالتالي ضبطها أو تفاديها. إذ إن التفكك والتشظي والتحلل، وبالتالي الانهيار سيكون قاب قوسين، إذا لم تسارع القوى الدولية وكافة أطراف الصراع وكافة الفعاليات الاجتماعية المدنية والأهلية إلى إيقاف العنف، والدخول في حل سياسي يحفظ ما تبقى من الوحدة الوطنية والتعايش الاجتماعي، وما تبقى من مؤسسات الدولة والمجتمع، ويضمن حقوق الشعب السوري في الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية.
إن خطورة الانفجار الاجتماعي تنبع من التنوع الذي يتمتع به المجتمع السوري، والذي يتم العمل على توظيفه طائفياً وإثنياً ومذهبياً وفق أشكال وأبعاد سياسية عنفية هدامة للمجتمع والدولة، تهدد تداعياتها الجوار الإقليمي نتيجة لجملة من العوامل المتراكبة والمتداخلة. والأشد خطورة هو تحوّل شكل الأزمة وبنيتها إلى أشكال أشد تخلفاً، أي تحويلها إلى صراع ليس فقط على هوية الإنسان بل على هوية الدولة السورية والمجتمع السوري، الذي تعمل الأطراف الجهادية، وتحديداً جبهة النصرة ومن ينضوي تحت لواءها، على فرض الطابع الإسلامي الأكثر تخلفاً وجهلاً و وتكفيراً على المجتمع السوري، وكما يعلم الجميع بأن التنوع الاجتماعي والمذهبي والإثني والسياسي الذي يتمتع به الشعب السوري، بقدر ما يحصن المجتمع السوري من السقوط في هكذا مشروع، فإنه يتحوّل بفعل العنف السلطوي والتشدد الأصولي بأشكاله الأشد قمعية وعنفاً وتخلفاً إلى كارثة وطنية، وما يزيد من عمق هذه الكارثة هو تمسك أطراف الصراع بالقوة العنفية كوسيلة وحيدة لتحقيق أهداف سياسية، وفرضه على المجتمع كوسيلة دفاع وحيدة، وأيضاً لضمان الولاء السياسي. إن تحويل الهويات المجتمعية الأولية إلى أشكال من الانتماءات والولاءات السياسية تزيد من عمق الأزمة وتهدد بمزيد من التحلل. لذا نحذّر من خطورة تحويل الهويات المجتمعية الأوّلية والبدئية إلى أشكال وآليات سياسية، لأنها تنبئ بدولة تقوم على التناحر والتناقض المبني على سياسية المحاصصة الطائفية والعرقية والعشائرية، وحتى الأحزاب السياسية ستكون في هذه الحالة تعبيراتٍ عن وعي قََبلي متخلف، ولن يكون بالتالي هناك أي أمل بدولة تقوم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات السياسية والمدنية التي يطمح إليها السوريين،مما يعني تهديم أي مشروع سياسي وطني ديمقراطي. لذا فإننا نشدد على أن استمرار العنف المرتهن مالياً وسياسياً للخارج، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والتشتت والتفتت والتخلف .. وهذه الدلائل تشكّل مؤشرات لبداية الانهيار العام والكلي. لذا فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية والوطنية التي يجب أن يتحلى بها كافة السوريين، وتحديداً من يدّعي الدفاع عن مصالح الشعب السوري، تفترض فك الارتباط والارتهان بكافة الأطراف الدولية والإقليمية، التي تشتغل على فرض مشاريعها الخاصة. لأنه بات واضحاً أن المصالح والمشاريع الدولية لا تناقض مصالح الشعب السوري فقط ، بل تساهم في تهديم الدولة والمجتمع نتيجة دفعها السوريين إلى مزيد من العنف الهدّام. ولأننا نرفض بالأصل المال السياسي، فإن ما نشهده هو أن أوسخ أشكال المال السياسي هو ما يتم من خلاله تسليح الأطراف الأشد تخلفاً والأكثر تطرفاً وتكفيراً، وتحديداً المال الناتج عن المخدرات في أفغانستان. وكما حوّل هذا المال وبعض الأطراف الدولية والتخلف والتكفير .. أفغانستان والعراق .. إلى ساحات صراع أصولي تكفيري، فإن استمرار الصراع في سورية والذي بات يتخذ أشكال أصولية وسلفية تكفيرية وجهادية، وأيضاً أشكال طائفية،وحتى أهلية في بعض التجليات، يدلل على أن سورية والسوريين على عتبة انفجار اجتماعي، بأدوات ومفاعيل داخلية وخارجية تحوّل الشعب السوري إلى أدوات لتهديم ذاته. لذا فإن المجتمع الدولي ومن باب إنساني مطالب بالامتناع عن تصدير السلاح، والعمل الجاد لوقف فوري للعنف. ولعلمنا بعجز المجتمع الدولي وتناقض مصالحه التي تفرض مزيداً من العنف، وبالتالي مزيداً من القتل والدمار الذي يطال المدنيين بالدرجة الأولى، فإننا نشدد على أن المجتمع السوري وقواه السياسية والمدنية معنية بالدرجة الأولى بتجاوز مخاطر الانزلاق إلى الانهيار. وهذا يستدعي وقفة مع الذات وأمام الذات، والتفكير بعقلانية ورفض العنف لأنه لن ينتج إلا دماراً وخراباً مادياً وإنسانياً. ونتمنى أن تدرك جميع أطراف الصراع بأن بناء مجتمع ونظام ديمقراطي لن يكون إلا بوعي وثقافة وفكر ديمقراطي. إن العنف الذي بات يتخذ أشكالاً أشد تخلفاً وتكفيراً، لن يفضي إلى أياً من أشكال الديمقراطية، بل مآله الوحيد هو الاستبداد والتطرف والتحلل الكياني والمجتمعي. لذا فإن مسؤولية الجميع تتحدد في الوقوف على منصة أخلاقية وديمقراطية تكفل حماية المجتمع من الانهيار. ومن أجل بناء النموذج الديمقراطي الذي يتطلع إليه الشعب السوري، يجب العمل على تمكين وترسيخ الوعي الديمقراطي والممارسة الديمقراطية، في سياق مواجهة الاستبداد والتخلف والتطرف أياً كانت أشكاله والأيديولوجية التي يستند إليها. وهذا التحوّل يلزمه مراحل من التطور الاجتماعي الطبيعي والموضوعي.
المستوى السياسي: إن البحث في المستوى السياسي يمكّننا من اكتشاف كافة التناقضات التي يعاني منها المجتمع السوري، والتي كانت سبباً في انتفاضته السلمية. ولأننا ندرك بأن السياسية تكثيف للاقتصاد، أي أن جذر الأزمة السياسية هو اقتصادي، وهذا ما يحاول الكثيرين الابتعاد عنه أو طمس ملامحه لأسباب متعددة ومختلفة، في محاولة لإبعاد الصراع وأسباب النهوض الشعبي عن جذره الحقيقي الذي يتموضع في حقل التناقض الاجتماعي ذو الأبعاد الطبقية. وتتجلى هذه التحولات في سياق تحويل بنية وشكل الحراك الشعبي إلى أشكال طائفية وإثنية ومذهبية محمولة على إيديولوجيات جهادية تكفيرية تناقض أهداف الحراك الشعبي الهادف لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة. إن هذه الأهداف تناقض نظام القمع والنهب والفساد والتخلف والاحتكار السياسي والاقتصادي، مما يعني ضرورة الانتقال لنظام ديمقراطي يحقق العدالة والحريات السياسية والمدنية