المجد غير المؤكد: الهند وتناقضاتها
عرض: إبراهيم غرايبة
يجادل المؤلفان جين ديريز وأمارتيا سن حول أهمية النجاح الاقتصادي والتقني الذي حققته الهند في العقدين الأخيرين، ويؤكدان أنه تقدم اقتصادي لم يساهم في تحسين حياة معظم الهنود (1150 مليون نسمة)، وأنه برغم النمو الاقتصادي السريع في الهند على مدى عقدين من الزمان فإن الهند ما زالت تعاني من الفساد وعدم الفاعلية المستشريين مثل الطاعون في القطاع العام، وما زالت قطاعات الخدمات الأساسية والعامة مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية في حالة مزرية، إضافة إلى مشكلات الهند التاريخية، مثل الطبقية وحالة اليأس والخضوع المهيمنة على نسبة كبيرة من الهنود ما يعرضهم للاستغلال والإذلال، والفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين والطبقات وبين الرجال والنساء.
يعمل أمارتيا سن أستاذًا للفلسفة والاقتصاد في جامعة هارفارد، وقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998، وحصل أيضًا على أكثر من مائة شهادة تقديرية ودرجة فخرية، ويعمل جون ديريز أستاذًا للاقتصاد في لندن والهند.
ومن اللافت أن أمارتيا سن اعتمد على تجربته العملية في الهند في تطوير دراساته وأفكاره عن العدالة والحريات باعتبارهما أساسًا للتنمية، ثم يعود إلى الهند في كتابه هذا ليعيد تقييم المشهد والتجربة الاقتصادية الأخيرة فيها على أساس كتابيه (ربما) “فكرة العدالة” و”التنمية حرية”.
التقدم والفشل معًا
هكذا تبدو الحال وكأنه يوجد “هندان” إحداهما تتقدم اقتصاديًا وتستمتع بمستوى جيد من التعليم والصحة والفرص والرعاية ومستوى المعيشة، وأخرى غارقة في الحرمان والفقر والتهميش، ولكن عند النظر إلى المؤشرات العامة والاجتماعية الكلية للهند فإنها تبدو في كثير من المؤشرات والمجالات المهمة أقل من دول مجاورة وشبيهة بها، مثل الصين وبنغلاديش وإندونيسيا وسري لانكا.
وبالنظر إلى تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية والذي صار يعد المرجع والمؤشر الأساسي والأكثر أهمية للتقدم والفشل، يمكن ملاحظة أن “الصين تخصص 2.7% من ناتجها الإجمالي للإنفاق على الرعاية الصحية بينما تخصص الهند 1.2% فقط. وفي المقابل فإن الهند تبدو أيضًا في حالة مدهشة، فهي تدرب مليون مهندس سنويًا، مقابل مائة ألف مهندس في أوروبا وأميركا، وهي ثالث بلد في العالم في القدرات التقنية والعلمية بعد الولايات المتحدة واليابان، وارتفع عدد قنوات التليفزيون الفضائية إلى 500 قناة عام 2007، وبلغ عدد المليارديرات الهنود في قائمة فوربس 55 مليارديرًا” (حاتم محسن http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm)
ثمة ديمقراطية وتعددية حزبية وثقافة عريقة في الهند، ولكنها كما يقول سن وديريز صورة الاقتصاد الاستهلاكي الأنيق! فمؤشرات التقدم ليست برأيهما أكثر من “أدوات بلاغية” للجدل، وأرقام وإحصاءات تغطي حقيقة المعاناة والفقر والفجوة الهائلة بين الناس، فلم يكن ذلك كله كافيًا لتحسين الحياة، وتقدم في مواجهة هذه الحقيقة (انخفاض مؤشر التنمية البشرية والاجتماعية) تفسيرات نمطية، من قبيل التقاليد الدينية المحافظة، والتركة الاستعمارية، ولكن ذلك كله موجود في جنوب آسيا؛ حيث حققت دولها مثل بنغلاديش وسري لانكا والمالديف تقدمًا في تحسين الحياة والصحة بخلاف الهند الراكدة!
ما المشكلة إذن؟
يقول المؤلفان: إن الكتاب يهدف إلى “وضع الفقر والفقراء في مركز النقاش العام حول مستقبل البلاد (الهند). إنه عمل سياسي ضروري وعاطفي أيضًا؛ ذلك أن الهند لا يمكن أن تتقدم من غير استثمار كبير -شأن كل البلاد الصناعية المتقدمة- في التعليم والصحة والمدارس والعيادات والمرافق والخدمات العامة الأساسية؛ والضرورية لأجل الرفاه وحرية الإنسان، وبغير ذلك فإن أغلبية الهنود يعيشون محرومين على نحو لا يُرى في الدول التي تحترم نفسها وتحاول أن تتقدم في العالم”.
ويبدأ سن وديريز كتابهما بإعادة مراجعة رواية الهند وتقدمها الاقتصادي الذي أحرزته، ولكنها في الوقت نفسه تحتل مكانة متأخرة عن جاراتها في جنوب آسيا -دعك من أوروبا وأميركا- في مؤشرات التنمية البشرية، الجهل ونسبة عدم معرفة القراءة والكتابة، وسوء التغذية لدى الأطفال، ونقص الخدمات الأساسية في البيوت والمرافق العامة، وفي المدارس والتعليم فإن عددًا كبيرًا من التلاميذ لا يحسنون كتابة جملة بسيطة أو إجراء عملية حسابية أساسية، ولا يغير من ذلك حقيقة أن الهند أمة المهندسين اللامعين.
ويحذر ديريز وسن من الخطر المحيط بالصحة العامة في الهند، ومن اللافت -كما يقول المؤلفان- أن الهند لم تتلق مساعدات دولية لتحصين الأطفال ضد الأمراض، في الوقت الذي تحاول طالبان في باكستان منع تنفيذ حملات تطعيم الأطفال التي تديرها وتمولها منظمات دولية، ولكن الهند يتدنى فيها تطعيم الأطفال من غير طالبان!
المشكلة -برأي سن وديريز- في تغييب الفقراء وهم أغلب الناس ويشكّلون أغلبية الناخبين عن السياسة العامة والنقاش العام حولها، أي أن الأغلبية لا يُسمع صوتها، وغير قادرة على التأثير في السياسة والتخطيط والإنفاق العام، وفي الوقت نفسه فإن ما يمكن تحقيقه من تقدم يعتمد اعتمادًا كبيرًا على القضايا الممكن تحريكها نتيجة المشاركة العامة، وهذا ما يجعل كتاب “المجد غير المؤكد” يوجه النقد مباشرة إلى الخطاب الإعلامي الاحتفالي في معالجة الأحداث والأفكار والتعامل معها؛ فقد انتشرت وسائل الإعلام والفضائيات التي يهيمن عليها القيل والقال والإشاعات والفضائح والتي تلهث وراء لاعبي الكريكت والمليارديرات ونجوم بوليود، وصراعات النخب السياسية. صحيح أن وسائل الإعلام الهندية ليست فريدة في اتجاهها وطبيعتها في العالم، ولكن مخاطرها في الهند تكون أكبر وبخاصة أنها تفرض على المجتمعات والحكومات الأولويات والأجندات، وفي بلد مثل الهند حيث يعيش أكبر عدد في العالم من الفقراء والجوعى والمرضى والمصابين بسوء التغذية.
ولأجل إثبات وجهة نظرهما (سن وديريز) فقد شاركا في كتاب “لماذا مسائل النمو؟” بالمشاركة مع اقتصاديين كبار في الهند في مواجهة أبطال تحرير السوق الذين يعتقدون أن الإنفاق على برامج الرعاية الصحية والاجتماعية يعرقل النمو الاقتصادي.
من الخطأ أن يُقرأ الكتاب (المجد غير المؤكد) باعتباره مرافعة ضد الليبرالية؛ فالكتاب أكبر من ذلك كما يقول جوتيوثوتام المحرر السابق لشؤون جنوب آسيا في مجلة التايم، ولكنه كما يصفه دعوة مخلصة من القلب لإعادة التفكير ومحاولة الإجابة على السؤال: ما هو التقدم في بلد فقير؟
ما الفرق الذي يمكن أن يحدثه نظريًا انتشال الملايين من خط الفقر إذا كانت هذه الملايين لا تزال تفتقر إلى سياسات الحياة الكريمة؟ يتساءل المؤلفان، ويؤكدان أنها مفارقة لافتة، الموت والفقر في الأحياء الفقيرة في مومباي والواقعة وراء المؤسسات والمجمعات الجميلة المليئة بالحياة والأمل في المدينة نفسها، وماذا تعني لهؤلاء الفقراء الأرقام والمؤشرات عن النمو والتقدم؟!
ليس سهلاً أن يحسّن المال حياة سكان الأحياء الفقيرة والبائسة ولكنه يجعلهم أسرى النظام الذي يعمل ضدهم، ويأتي هذا الكتاب في وقت حاسم بينما يدعو ديريز وسن إلى الاستثمار في الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وهنا يمكن التذكير بأداء القطاع العام؛ ذلك أن الفساد وعدم الفاعلية يشكلان طاعونًا للقطاع العام في الهند، وتبدي الإحصاءات أن القطاع الخاص لم يساعد على تحسين مؤشرات التعليم والصحة؛ ما يجعل ثمة ضرورة للعلاج من مرض أيديولوجيا حرية السوق.
وكرس ديريز وسن مزيدًا من التفكير لجعل الرعاية الاجتماعية في الهند أكثر رسوخًا وتعمل في حالة أفضل، ويصفان النجاحات المتحققة في هذا المجال في عدد من الدول، ولكن ليس واضحًا كيف يمكن اقتباس هذا النجاح في الهند! وفي فصل التمييز ضد النساء يطالبان بمزيد من الالتزام وبخاصة أن تعليم البنات لم يمنحهن فرصًا أفضل في المساواة.
الهند الجديدة
حققت الهند في العقد الأخير نموًا اقتصاديًا كبيرًا وسريعًا، وتعد اليوم ثاني أسرع اقتصاد نموًا بعد الصين، ولكن المؤلفين يشككان في جدوى وأهمية هذا النمو السريع في ظل حالة عدم المساواة المجحفة بين المواطنين والطبقات في الهند والتي تحرم معظم الهنود من التمتع بمزايا النمو الاقتصادي؛ حيث ما زال نصف السكان يعيشون في بيوت بائسة غير مزودة بحمامات، نتحدث عن 600 مليون شخص ما زالوا يتغوطون في الفضاء، وتعصف بالقطاع العام كالطاعون مشكلات الفساد وعدم الفاعلية وغياب المحاسبة والمساءلة، وهناك أيضًا حالة عدم مساواة لافتة بين الرجال والنساء، فلم تستفد النساء من التعليم في الحصول على وظائف وفرص أفضل كما حدث في بنغلاديش على سبيل المثال.
النمو الاقتصادي المرتفع يحاكَم في المحصلة بتأثيره النهائي على حياة الناس وفرصهم، ويبدو أن العكس هو ما حدث؛ فقد أتاح هذا النمو الاقتصادي نشوء طبقة مترفة جديدة تتمتع بالخدمات والمزايا الاقتصادية والمعيشية في مقابل أغلبية محرومة تعيش حياة غير مستقرة لم تستفد إلا قليلاً من التغير الاقتصادي، والسؤال المطروح اليوم ليس فقط ما يمكن عمله للنساء في الهند بل ما يمكن للنساء أن يعملنه للهند! وإضافة الى العمل في قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية يجب التأكد من أن النمو الاقتصادي القائم يؤدي إلى تحسين الحياة.
والواقع أن بعض الولايات الهندية نجحت إلى حد كبير في تحسين حياة المواطنين وحققت تقدمًا اقتصاديًا وعامًا يؤثر إيجابيًا في حياة الناس والخدمات العامة والأساسية، مثل كيرالا وهياشال وبراديش وتاميل.
العدالة والحريات أساسان للتنمية
حتى يمكن فهم وتقييم الكتاب نحتاج أن نعرض رؤية أمارتيا سن للتنمية والتي قدمها في كتب أخرى مثل “التنمية حرية” و”فكرة العدالة”؛ ذلك أن سن وديريز يقدمان في الواقع نموذجًا تطبيقيًا على رؤية التنمية من خلال العدالة والحرية وليس الدخل، ويجتهدان في إثبات أن التقدم الاقتصادي في الهند لم يحقق تقدمًا ولا تنمية لأنه لم يحقق العدالة!
يؤكد أمارتيا سن (كتاب “التنمية حرية”) على أن التنمية يمكن النظر إليها باعتبارها عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس؛ فالتنمية في حقيقتها هي إزالة مصادر افتقاد الحرية؛ كالفقر، والاستبداد، وشح الفرص الاقتصادية، والحرمان الاجتماعي، والغلو والتطرف، وإهمال المرافق العامة. ويلاحظ أن نقص الحريات مقترن مباشرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية والحصول على حاجاتهم الأساسية، وفي أحيان أخرى يكون افتقاد الحريات مقترنًا بضعف المرافق العامة والرعاية الاجتماعية، مثل برامج مكافحة الأوبئة، أو الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية.
ويقول سن: إن ثمة تنافرًا في بعض الأحيان بين نصيب الفرد من الدخل وحرية الأفراد في الحصول على حياة أطول وأيسر؛ فمواطنو الغابون والبرازيل وجنوب إفريقيا وناميبيا هم أكثر ثراء من مواطني سري لانكا والصين وولاية كيرالا في الهند، ولكن هؤلاء الأخيرين يحظون بفرص موضوعية للتنمية أعلى من الآخرين، والأفارقة الأميركيون هم أغنى بكثير من بعض أبناء العالم الثالث، ولكن فرصتهم في بلوغ سن متقدمة أقل بكثير من آخرين أفقر منهم في مجتمعات العالم الثالث، مثل الصين أو سري لانكا، وهي مفارقات من المهم النظر إليها باعتبارها مظهرًا مهمًا لفهم التنمية والتخلف.
ويعرض سن أسبابًا للاعتقاد بأن الفقر ليس مجرد انخفاض الدخل؛ ذلك أن الحرمان من القدرات الأولية يمكن أن ينعكس في حالات مثل الوفاة المبكرة ونقص كبير في التغذية والمرض المزمن وشيوع الأمية، ومن المهم في التحليل والدراسة للفقر إحداث نقلة في المنظور؛ لأن ذلك يهيئ لنا نظرة مغايرة عن الفقر في البلدان الفقيرة والغنية أيضًا.
الحرية الأساسية -كما يرى سن- هي الحياة والقدرة على البقاء بدلاً من الوقوع ضحية الموت المبكر، وثمة حريات أخرى تعادلها أهمية، مثل نوعية الحياة، والمساواة.
ويفيد تراث راسخ في علم الاقتصاد بأن القيمة الحقيقية لمجموعة من الخيارات تتمثل في الاستخدام الأفضل الممكن لها، وكذا الاستخدام الفعلي لها ليبلغ السلوك أقصى مداه؛ ومن ثم فإن القيمة الاستعمالية للفرصة تعتمد على قيمة أحد عناصرها، بمعنى الخيار الأفضل والخيار الذي تحقق فعلاً.
يقول سن: “تسمع مثل هذه الآراء: لماذا القلق بشأن الحريات السياسية إذا سلّمنا بكثافة تأثير الضرورات الاقتصادية؟ وقد طُرح في مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان عام 1993 بقوة ضرورة أن ينصبّ الاهتمام على الحقوق الاقتصادية وثيقة الصلة بالاحتياجات الأساسية المهمة”.
ولكن هل هو أسلوب مقبول فعلاً -يتساءل سن- أن نتناول المشكلات والاحتياجات الاقتصادية والحريات السياسية في ضوء تقسيم ثنائي أساسي من شأنه -كما يبدو- أن يقوض صلة الحرية السياسية بالموضوع بحجة أن الاحتياجات الاقتصادية أشد إلحاحًا؟
يجادل أمارتيا سن هذه النظرية ويعتبرها خاطئة تمامًا؛ فالقضايا الحقيقية التي يتعين التصدي لها تكمن في غير هذا النهج، وتقضي بأن ندرك الترابطات المتبادلة والمتداخلة بين الحريات السياسية وفهم وإيفاء الاحتياجات الاقتصادية؛ فالحريات السياسية يمكن أن يكون لها دور مهم في توفير الحوافز والمعلومات من أجل حل الضرورات الاقتصادية الملحة. وصياغتنا لمفاهيم عن الضرورات الاقتصادية تتوقف بشكل حاسم على الحوارات والمناقشات العامة المفتوحة والصريحة، وضمان أنها في حاجة إلى الإصرار على الحرية السياسية والحقوق المدنية الأساسية.
وفي كتابه “فكرة العدالة” يعالج أمارتيا سن مفهوم العدالة من منطور اقتصادي، ويقول: إن تشخيص الظلم يظهر غالبًا كنقطة البداية للنقاش النقدي، ومن المحتمل جدًا كما يقول أن تكون المظالم التي يمكن تسويتها مرتبطة بانتهاكات سلوكية أكثر مما هي مرتبطة بنواحي قصور مؤسسية؛ فالعدالة مرتبطة في النهاية بطريقة حياة الناس، لا بطبيعة المؤسسات المحيطة بهم فحسب. على النقيض من ذلك، يركز كثير من نظريات العدالة تركيزًا طاغيًا على كيفية إقامة مؤسسات عادلة، وإعطاء دور ثانوي أو مساعد للسمات السلوكية؛ فمثلاً تعطي نظرية جون راولز “العدالة بصفتها إنصافًا” المشاد بها عن جدارة مجموعة فريدة من مبادئ العدالة لا تُعنى إلا بإقامة مؤسسات عادلة لتكوين البنية الأساسية للمجتمع فيما توجِب على الناس أن يكيفوا سلوكهم ليتوافق كليًا ومتطلبات العمل السليم لهذه المؤسسات.
ولكن سن يرى أن ثمة نواحي قصور حرجة في تركيز راولز الطاغي على المؤسسات؛ حيث يفترض أن يتوافق السلوك على نحو ملائم مع ما هو مطلوب بدل التركيز على واقع حياة الناس، وللتركيز على طرق الحياة الفعلية للناس في تقييم العدالة كثير من المضامين بعيدة الأثر على طبيعة وسعة فكرة العدالة.
ويقول سن: “كانت طبيعة الحيوات التي يمكن أن يحياها الناس موضوع اهتمام المحللين الاجتماعيين على مر العصور، وبالرغم من ميل المعايير الاقتصادية الشائعة للتقدم، في صورة كتلة إحصائية سهلة التوليد إلى التركيز تحديدًا على زيادة قيمة بنود رفاه جامدة، مثل إجمالي الناتج الوطني وإجمالي الناتج المحلي؛ حيث لا يزالان موضوعي تركيز جمهرة من الدراسات الاقتصادية للتقدم، لا يمكن تبرير ذلك التركيز جوهريًا إلا من خلال ما تقدمه هذه البنود للحيوات البشرية التي تمسها بشكل مباشر أو غير مباشر، وصارت مسألة استخدام مؤشرات مباشرة إلى نوعية الحياة وصلاح الحال والحريات التي يمكن أن تحملها أو تأتي بها الحيوات البشرية بدلاً من المؤشرات غير المباشرة محل اعتراف واسع لا ينفك يتسع”.
وبالطبع -يؤكد سن- فإن ارتفاع الدخل يساعد بشكل عام على التحرر من الموت المبكر، ولكن هذا التحرر يعتمد كذلك على سمات أخرى كثيرة، للتنظيم الاجتماعي، كالرعاية الصحية العامة، والضمان الاجتماعي والصحي، ونوع المدارس والتعليم ومقدار الترابط والانسجام الاجتماعي، فليس سيان أن ننظر إلى وسائل العيش فحسب وأن ننظر مباشرة إلى الحيوات التي يستطيع الناس أن يحيوها بالفعل؛ ففي تقييم حيواتنا هناك سبب للاهتمام ليس بنوع الحياة التي نستطيع أن نحياها فحسب، بل بما نملك كذلك في الواقع من حرية اختيار بين أساليب وطرق العيش المختلفة بالفعل، فحرية تحديد نوع الحياة التي نريد أن نحيا هي أحد الجوانب القيمة للعيش التي يكون لدينا لتقديرها سبب، وكذلك يمكن أن يوسع إدراك أهمية الحرية شواغلنا والتزاماتنا.
والواقع أن الهند تتقدم ما من شك في ذلك ولكنها تواجه تحديات الفقر وحالة عدم اليقين كما يصف بالقول تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وقد أشاد التقرير بالتقدم الذي أحرزته الهند وأشار بشكل خاص إلى مساهماتها في التنمية والمشاركة العالمية.
فقد طورت الهند بالمشاركة مع شركات صينية قطاعًا واسعًا لتوليد الطاقة الشمسية والرياحية، وأنتجت شركات هندية أجهزة موبايل جيدة وقليلة التكلفة لأجل تسهيل امتلاكها واستخدامها من قبل الفقراء، وكذلك كاميرات رقمية وأجهزة طبية للتصوير بتكلفة معقولة، وأعلنــت الهنــد فــي 2010 عن فتــح ائتمــان بقيمــة 75 مليــون دولار يليــه ائتمــان آخــر بقيمــة 50 مليــون دولار لتمويــل مشــروع الطاقــة الكهرومائيــة في زامبيا، وهناك أيضًا شراكة هندية-برازيلية للاستثمار في التعدين والمناجم. وتعتبر الهند بالإضافة إلى البرازيل والصين من أكثر الجهات فعاليــة فــي تقديــم المســاعدة الإنمائيــة، ولاسيما لبلــدان جنــوب الصحــراء الإفريقيــة الكبــرى. وقــدم البنك الهندي للاستيراد والتصدير 2.9 مليار دولار إلى بلدان جنوب الصحراء الإفريقية وتعهّد بتقديم 5 مليارات إضافية.
جدول ببعض مؤشرات التنمية مستمد من تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2013 (إعداد إبراهيم غرايبة)
معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: المجد غير المؤكد: الهند وتناقضاتها – An uncertain glory
India and its Contradictions
Jean Dreze, Amarita Sen
المؤلف: جان ديريز، أمارتيا سن
عرض: إبراهيم غرايبة
الناشر: آلن لين-لندن
تاريخ النشر: 2013
عدد الصفحات: 448
_______________________________
* إبراهيم غرايبة – باحث متخصص في العلوم الاجتماعية
الجزيرة