المحاسبة والعدالة بين ساركوزي والأسد/ عمر إدلبي
لم يكن مفاجئاً للمطلعين على الحياة السياسية في فرنسا أن يتم توقيف الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، قيد التحقيق، تمهيداً لتقديمه إلى القضاء، لاحتمال توجيه اتهام له بالاستفادة من تمويلٍ تلقته حملته الانتخابية الرئاسية في العام 2007 من نظام ليبيا بقيادة العقيد القتيل معمر القذافي آنذاك. فليس مستغرباً ألبتة أن يمثل قادة الدول الغربية أمام القضاء، وحالة ساركوزي ليست سابقة، فسلفه جاك شيراك الذي تولى السلطة في فرنسا فترتين دستوريتين بين العامين 1995 و2007 سبق أن مثل أمام القضاء الفرنسي، وصدر بحقه حكم بالسجن عامين مع وقف التنفيذ في العام 2011 على خلفية اتهامه بقضية وظائف وهمية في بلدية باريس.
وقبل توقيف ساركوزي كان قاضي التحقيق في محكمة باريس، سيرج تورنير، قد قرّر قبل نحو شهر إحالة ساركوزي وعدد من معاونيه وشركاء آخرين إلى القضاء، بتهمة التمويل غير المشروع لحملته الانتخابية، وتجاوز سقف التمويل القانوني للحملة الذي يحدّده القانون الفرنسي بشكل صارم، حفاظاً على العدالة وتكافؤ الفرص بين المرشحين. ولا يقتصر هذا الحرص على العدالة والمساواة بين كل المرشحين فقط على سقف الإنفاق على الحملات الانتخابية، بل يشمل أيضاً المساواة والعدالة في عدد دقائق دعاية المرشحين جميعهم ومساحتها في وسائل الإعلام. وقبل كل هذا وذاك يعمل القانون في فرنسا على اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع إساءة استخدام موارد الدولة لصالح حملات المرشحين الانتخابية.
ولطالما كان القضاء الفرنسي مرفقاً عاماً يتمتع باحترام الفرنسيين، نظراً لما كرّسه من تقاليد
“سبع سنين ولم يخرج صوت من جمهور الأسد يطلب محاسبة أي مسؤول من أي درجة”
وأعراف، تعكس الحرص على مفهوم العدالة وتكريس سلطة القانون، ولا يكون القضاء كذلك، ما لم يستطع محاسبة موظفي الإدارة العامة. والسياسيون، قبل غيرهم من موظفي الدولة، مستهدفون بالمحاسبة وتطبيق القانون بحقهم، وهذه أبرز سمات دولة القانون التي سعت البلدان المتحضرة إلى تكريسها والحفاظ عليها. وعلى العكس تماماً من هذا الواقع، عملت دولنا وحكوماتنا في العالم العربي، حتى صارت سلطاتٍ فوق الشعوب، لا سلطات شعوب.
في العام 1991، كنت أجلس في أحد مدرجات كلية الحقوق في جامعة دمشق مستمعاً للمحاضرة الوحيدة التي حضرتها طوال سنوات دراستي في الكلية، كانت محاضرة عامة في قانون العقوبات السوري. يومذاك خرج المحاضر الدكتور عبود السراج عن النص كثيراً، وكاد أن يتجاوز الخطوط الحمراء مرات عديدة، وهو يتحدث عن مفهوم الجريمة والعقاب، وعن نظريات العقوبة ومنظومات تنفيذها في الفقه المقارن، والعدالة والمساواة في تطبيقها، وفجأة توقف المحاضر عن السرد، ووجه لنا سؤالاً غريباً: من يمكنه توقيف رئيس الدولة؟
زاغت العيون وبلغت القلوب الحناجر.. ولبرهة من الزمن صمتت حتى الأنفاس، قبل أن ينطلق صوت حاسم من أحد الطلاب الحاضرين الجالسين على مقربة مني: “ولا حتّى الله يا دكتور”! ابتلع الدكتور السراج مرارة جواب الطالب الهزبر، وقال بكل هدوء: “قاضي التحقيق”، واستطرد وهو يبتسم: “بالقانون، قاضي التحقيق يستطيع ذلك”.
كنت أفكر بما قاله المحاضر وأنا أستعيد قولاً للأديب الواقعي الفرنسي بلزاك: “لا توجد قوة، سواء أكانت عائدة للملك، أو لوزير العدل، أو للوزير الأول، تستطيع التعدي على سلطات قاضي التحقيق، فلا شيء يوقفه ولا أحد يأمره، فهو سيد يخضع فقط لضميره وللقانون”.
قبل أيام.. وبعد 27 عاما من تلك المحاضرة، ظهر بشار الأسد، رئيس سورية بالإكراه، وبقوة عسكر الاحتلالين، الروسي والإيراني، وهو يتجول في غوطة دمشق فوق دمار بيوت أهلها، بعيداً بمئات الأمتار فقط عن مدافن شهدائها من الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلهم بسلاحه الكيماوي، وصواريخ ونابالم وبراميل جيشه المتفجرة، ورصاص مرتزقة طائفيين، جلبهم
“مضت سبع سنوات والمجازر المتنقلة تفتك بالسوريين، والتهجير يشرّدهم، والجوع يساومهم على الركوع للطاغية أو الموت”
بالتعاون مع حلفائه الإيرانيين من أصقاع الدنيا، ليمنعوا سقوط نظامه، ولحماية القتلة المجرمين من غضبة السوريين وثورتهم اليتيمة. وفي كل خطوة يدوس بها على ركام بيوت الغوطة، كان يؤكد أن العدالة والمحاسبة تحت قدميه، وأن القانون الذي درسناه في الكتب لا يشمل بضوابطه وعقوباته وآلياته “رئيس سورية الأسد”، وأن قاضي التحقيق في مزرعة الأسد يمتلك فقط صلاحية الهتاف للطاغية، وتطبيق القانون على ضعفاء وفقراء البلاد المنكوبة من أقصاها إلى أقصاها.
مضت سبع سنوات والمجازر المتنقلة تفتك بالسوريين، والتهجير يشرّدهم، والجوع يساومهم على الركوع للطاغية أو الموت، وصور الشهداء تحت التعذيب في المعتقلات تحاصر العالم أجمع، والبراميل المتفجرة تهوي من طائرات جيش الأسد على الهواء مباشرةً أمام عيون جميع قضاة التحقيق وأفراد النيابة العامة السوريين. ولم يستطع واحد من هؤلاء أن يوقف حتى عنصراً من عناصر جيش القتل العقائدي، ليوجه له أي تهمة من أي نوع، حتى الجنود الذين ظهروا وهم يتفاخرون بإلقاء البراميل المتفجرة عشوائياً على أبناء شعبهم، لم يطالبهم أحد بالتستر، وهم يرتكبون جرائم حرب موصوفة بالقانون السوري والدولي أدق الوصف.
سبع سنين من الموت اليومي، ولم يسمع صوت لأحد رجال القانون في “غابة بشار الأسد” يطالب بمحاسبة القتلة، وبالقانون. سبع سنين ولم يخرج صوت من جمهور الأسد يطلب محاسبة أي مسؤول من أي درجة، أو حتى يسأل إن كانت هناك أخطاء ارتكبها هؤلاء، وهم يحاربون أحلام شعب.. أو حتى “الإرهابيين” من أبنائه.
بلاد بطولها وعرضها وشعبها ومستقبلها صارت ذكرى وأكواماً من جثث وركام، وما زال رئيس المزرعة في نظر عبيده منزّهاً عن العيوب والنواقص.. وكأنهم جميعاً مؤمنون بأن “رئيسهم” لا يسأل عما يفعل.. وكأنهم يتمثّلون قول ذلك الطالب الحقوقي الهزبر الذي ربما صار محققاً في أحد فروع الأمن: “ولا حتّى الله يا دكتور”. .. وبعد هذا كله يسألك أحدهم: لماذا قمتم بالثورة؟
العربي الجديد