المخاض العربي الصعب
سليمان تقي الدين
المخاض العربي أكبر من أن يختصره مشهد واحد. هناك تفاعلات إقليمية تتجلى في الصراع على دور الدول ونفوذها ومستقبل التعاون في ما بينها. وهناك حركات شعوب تدفع باتجاهات مختلفة خيارات الأنظمة وقواها ومكوّناتها. انهار النظام الرسمي العربي وصارت تخترقه كل المؤثرات الخارجية. تراجعت شرعيات الأنظمة كل منها بظروفه وخصوصياته برغم الاشتراك في الفجوة بين السلطات والشعوب. المنطقة تتغيّر بعد تراكمات عدة وهي تتشكّل من كل العناصر الفاعلة بما في ذلك حركة شعوبها.
ليست الشعوب كماً بشرياً متناسقاً. إنها جماعات متنوعة في ترتيبها الاجتماعي والثقافي وفي هواجسها وميولها وطموحاتها. ما تشترك فيه ما زال أكثر بكثير ممّا تختلف عليه. معظم ما تختلف فيه هو العنصر السياسي حتى لو تمظهر في هوية دينية أو مذهبية أو جهوية. في المشرق العربي وبلاد الشام على وجه خاص هناك موروث من «الطوائف» والأقاليم والبيئات التي لم تعرف بعد المستوى المتقدم من الاندماج الاجتماعي. لا الاقتصادات ولا السياسات العربية استطاعت أن تتجاوز هذه المعطيات التاريخية.
إذا كان من ضرورة للتغيير ففي أولوياته ردم هذا التفاوت الاجتماعي وإزالة دولة «الامتيازات» التي فشلت في ترسيخ المواطنة بحقوقها الفعلية لا بادعاءاتها الافتراضية. ما يشترك فيه العرب اليوم وما يحرّك الجمهور العربي في كل البلدان هو هذا المطلب المساواتي الديموقراطي مهما اختلفت مكوّنات قواه ووسائلها.
أحدثت ثورة مصر تحولاً استراتيجياً في التوازن الإقليمي ومهّدت الطريق أمام حضور عربي فعّال يطوي مرحلة من الإنجازات الأميركية التي شكّلت ما يسمّى «نظام الاعتدال العربي» التي تديره أميركا لمصلحة إسرائيل.
ارتسم في الأفق احتمال جدي لتعاون دول المنطقة المؤثرة في محيطها ضد شكل من السيطرة الأميركية التي همّشت المصالح العربية. على المستوى الاستراتيجي فتحت الإدارة الأميركية ملف النظام السوري استباقاً لأية مكاسب يحققها من المتغيّرات العربية. استنفرت حلفاءها العرب واستخدمت نقاط ضعف النظام الموجعة المتمثلة في احتكار السلطة وتهميش المكوّنات المذهبية كجماعات أو كتيارات سياسية. لم تدفع أميركا بسياسة دعم الإصلاح الديموقراطي بمقدار ما دعمت تيارات تستهدف خلخلة النظام لتطويعه في اتجاهات عدة أبرزها دوره الإقليمي وتحالفاته الخارجية ورعايته لحركات المقاومة.
كانت سوريا أمام خيار محدد: إما المبادرة إلى المواجهة عبر إجراءات ديموقراطية عملية وفتح حوار وطني يجدد شباب النظام وعناصر قوته وإما أن تدخل في معركة استنزاف متبادلة وهي في موقع دفاعي سياسياً وهجومي عسكرياً وأمنياً في الداخل. بعد ستة أسابيع من اندلاع الأزمة اشتدت القبضة الأمنية وربما استطاعت أن تخمد وتسيطر على بؤر التوتر والاحتجاجات المسلحة التي تقوم بها المجموعات السلفية. لكن شيئاً فعلياً قد حصل هو تظهير صورة النظام الأمنية وإضعاف هيبته وشرعيته وحشره أمام مشكلاته الداخلية بعد تنامي دوره الإقليمي ونفوذه.
في حصيلة المشهد العربي الآن نجحت الشعوب في طرح المسألة الديموقراطية والإصلاح على جدول الأعمال، وربحت تجربة مميزة في مصر وتونس وأنهت شرعية أنظمة اليمن وليبيا والبحرين بكلفة عالية من التضحيات، وفرضت مطلب الإصلاح عنواناً على جدول أعمال سوريا. لكن الأميركيين نجحوا في المقابل بأن يفاقموا توتر العلاقات العربية الإيرانية في الخليج، وأن يحرّضوا على نحو غير مسبوق التوتر الطائفي والمذهبي في غير بلد وأن يجذبوا المعارضة «الإسلامية الإخوانية والسلفية» بشكل خاص في كل مكان إلى دائرة التعاون معهم وأن يلجموا المسار الديموقراطي التقدمي السلمي الذي بدأ في تونس ومصر من أن يتحوّل إلى نموذج عربي شامل.
لا ينتهي المخاض العربي هنا. ما بدأ هو مناخ يصعب إعادته إلى الوراء. هناك مرحلة تاريخية بدأت متعرّجة عنوانها حضور الشعوب على المسرح السياسي لا الأنظمة وهناك محاولات في الداخل والخارج للاحتواء والردع والتطويع. أما الملامح الأساسية للمستقبل فهي أفضل بكثير من حال الركود التي هيمنت على المنطقة وأنتجت الخيبات والفشل. تعثّرت المشاريع الكبرى لأميركا ولدول المنطقة حين فاجأها الحراك الشعبي. اختلطت الأوراق مجدداً وما كان يصلح من قبل لم يعد صالحاً اليوم. هذا واقع يفرض مراجعة شاملة للسياسات تقوم بها أميركا والغرب عموماً وإسرائيل حيث المؤسسات تستجيب لكل معطى جديد. يبقى أن يمارس العرب هذا الاستنزاف أو هذا الاستدراك الضروري ولا يتشبّثوا بما صار من الماضي من إدارة محكومة بهواجس سلطوية لشعوب في حال من الخضوع. ليس الخيار الآن المحافظة والدفاع عمّا هو قائم إلا مكابرة مكلفة ومحفوفة بمخاطر تجذير العنف والتشدد واستدراج الخارج أو تسهيل تدخله وتضخيم فعاليته في مجتمعات مفتوحة متحرّكة تبحث عن عناصر الدعم والحماية أحياناً في المكان الخطأ. لن يكون الغرب ملاذاً آمناً وحضناً دافئاً لحركات الشعوب وطموحاتها الديموقراطية والوطنية، وهو الآن أكثر شراسة في تحريض المنطقة على كل أشكال النزاع التي تمهّد له سبيل إعادة صياغتها كما يشتهي على عناصر ضعفها لا قوتها.
هناك معيار أساسي لمحاكمة سلوكيات وسياسات وخيارات الأنظمة ومدى حرصها على مواجهة تحديات الخارج من خلال الحلول التي تطرحها للداخل والاستجابة لطموحات لم تعد مكبوتة في أي مكان.
السفير