المدرسة السورية… الآن: حسان عباس
حسان عباس
“المدرسة هي مصنع المواطنة”، هكذا تقول كل أدبيات المواطنة، حتى تلك التي تنتقد ما تسمّيه “المفهوم التقليدي” للمواطنة وتطالب بالاعتراف بالحقوق الثقافية للجماعات ضمن الوحدة السياسية للبلد. ولا يختلف اثنان بأن المدرسة السورية لم تكن نموذجاً للمدرسة المواطنية خلال العقود الماضية. ويعود ذاك إلى سببين أساسيين: الأول هو الفكر الشعبوي الذي يرى في المدرسة جهازاً تعبوياً وظيفته تنشئة أجيال مشبعة بالفكر الأحادي الذي نصب نفسه قائداً للدولة والمجتمع؛ الثاني، وهو منبثق عن الأول، البرامج التعليمية التي لم يتم وضعها ضمن منظور يتطلّع إلى تربية المواطن وصناعته فعمّقت من التصدعات الطبيعية في المجتمع وأنشأت أجيالاً من السوريين غير المدركين لحقيقة الاختلاف التي يتصف بها مجتمعهم. وهذا ما كان من نتائجه تشكل صور نمطية عن الآخر، تُلقى عليه من خارج كينونته، ولا تَفهَمه من داخل تشكّلِه. هل يعرف السوريون العربُ السوريين الكردَ حقاً؟ هل يعرف المسلمون المسيحيين حقاً؟ بل حتى داخل الإسلام ذاته، هل يعرف أهل طائفةٍ الخصائص المميزة للطوائف الأخرى؟
عملت المدرسة السورية على طمس الاختلافات المتشكلة تاريخياً وثقافياً، وحين كانت غيرَ قادرة على طمسها رفعت الجدران بينها. وهكذا نشأت أجيال لا يعرف أولادها الآخرين، يجهلونهم، والإنسان عدوٌ لما يجهل. وقد شكّل هذا الجهل، أرضية خصبة للاستقطاب الطائفي الذي دفع إليه النظام كواحدةٍ من أدوات حلّه الأمني العسكري من جهة، وللتشدّد القومي لدى المكوّنات القومية المغبونة حقوقها من جهة أخرى.
على المستوى المادي العمراني، أدّى الحل الأمني إلى تدمير عدد هائل من المدارس وصل إلى أربعة آلاف مدرسة حسب بعض التقديرات، ناهيك عن أن عدداً من المدارس بات يستخدم كمراكز إيواء للعائلات المهجّرة، وأن عدداً آخر لا تمكن الاستفادة منه لصعوبة وصول التلاميذ والأساتذة إليه. حتى في الأماكن الآمنة نسبياً كالعاصمة وضواحيها، يتردّد الأهالي كثيراً في إرسال أولادهم إلى المدرسة خوفاً عليهم من مفاجآت القصف العشوائي.
لا مجال للمجادلة بأن هذه الخسارة الجسيمة في البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، أضف إلى ذلك تآكل الدولة ومؤسساتها، وبالدرجة الأولى المؤسسات الهشّة كالمؤسسة التعليمية، في مساحات واسعة من البلاد بعد أن انهارت فيها آليات الضبط والنظام، تخلق مشاكل جديدة في مجال التعليم لن تستطيع سورية تجنب مفاعيلها السيئة. مشكلة إعادة إعمار البنية التحتية بالدرجة الأولى؛ ومشكلة “الفجوة التعليمية” ثانياً، ليس بين المهارات ومتطلبات سوق العمل فقط وإنما في العدالة التعليمية بين الجنسين، وبين مختلف المناطق، إذ أن ثمة مناطق كثيرة لم ينل تلاميذها أي قسط من التعليم خلال سنتين…
لكن يجب ألا يمنع ظهور هذه المشاكل الخطيرة من طرح مسألة التربية على المواطنة في المدرسة على بساط البحث، واعتبارها قضية لا تقلّ في جديتها عن المشاكل الأخرى، مادام الثوار مقتنعين بأن دولة المدنية والمواطنة لا تزال هدفاً للثورة.
لقد انتشرت مؤخراً أخبار متسربة من مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا مفادها أن ثمة صفوفاً افتتحت داخل المخيمات لتعليم الأولاد. لكن تعليمَ المناهج السورية ممنوعٌ فيها، وإنما يتم تعليم مادتين فقط في تلك الصفوف الإغاثية: اللغة التركية والتربية الدينية.
وبات من المعروف أن بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية افتتحت مدارس تعلّم الأطفال منهجاً متكاملاً، منقولاً من مدارس كردستان العراق، باللغة الكردية.
وتجوب فضاء وسائل الاتصال الاجتماعية صورة من ريف إدلب لتلاميذ صغار في غرفة تخدم كصف مدرسة. في طرف من الغرفة تلاميذ يقرؤون، وفي الطرف الآخر يقف تلاميذ يؤدون الصلاة.
وسنرى الكثير من الأمثلة الأخرى التي إن دلّت على شيء فإنما تدل على إعادة إنتاج المدرسة التعبوية ليس على مستوى الوطن ككل هذه المرة وإنما على مستوى المكونات المجتمعية الدينية والقومية. مما يعني أكثر فأكثر من التصدعات وأقل فأقل من المواطنة.
لذلك وجب التساؤل: المدرسة السورية، إلى أين؟
المدن