المرض بالثورة
عبدالله أمين الحلاق
يقع الكاتب المعارض والثائر، ناقد بعض الحالات والمشاهد والإفرازات في الثورة السورية، وتحديداً العمل العسكري منسوباً إلى “الجيش السوري الحر”، أمام نارين: أولاهما، الخوف من أن تناله اتهامات من المعارضة بمحاباة نظام الاستبداد السوري كونه يقدم نقداً لفصيل أساسي من الفصائل التي ترتكز عليها الثورة. ثانيتهما، أن يجد إعلام النظام السوري في هذا النقد مطية لخطابه المتهافت، فيسوّق النص على أنه نقد لـ”العصابات الإرهابية المسلحة” كما يسميها، وفي مقدّم الإعلام هذا فضائية “الدنيا” السورية و”المنار” الإلهية و”العالم” الخمينية.
تحاول هذه المقالة تقديم قراءة لعبادة ظاهرة العسكرة التي دخلت لاحقاً واضطرارياً على خط العمل السلمي المقاوم لنظام الأسد، الأمر الذي قد يثير ردود فعل كثيرة لا نطمح إليها بقدر ما نرى في هذا النص تمريناً فكرياً وطرحاً سياسياً بقلم كاتب من قلب الثورة السورية لن يرضى بديلاً، كالكثيرين، من تغيير النظام ورحيل الأسد وعائلته، لقيامة سوريا بعد كل الخراب الذي لحق بها. الى ذلك، فإن هذا النقد موجه الى مآلات كثيرة تجنح نحوها الثورة، وتهدد مكاسبها بعد إنجاز الإسقاط الضروري للنظام السوري.
***
يبدو مؤيدو النظام السوري مهووسين بما يمكن أن نسميه “المرض بالأسد”. هؤلاء المؤيدون مصابون بداء الغرام الاستحواذي الذي يجعل من يحمل استعداداً للقتل منهم مستعداً لأن يفتك بضحيته المعارِضة فداءً لـ”العائلة الحاكمة” في بلد نظام الحكم فيه جمهوري. تشير إلى ذلك شعارات وهتافات مثل: “يا بشار: مطرح ما بتمشي وبتدوس/ نحنا منركعلك مِنْبوس”، أو “شبيحة للأبد/ لأجل عيونك يا أسد”.
انطلاقاً من هذا المرض الكارثي الذي سالت دماء الأحرار في سوريا أنهاراً بسبب مرضاه، قنّاصةً وشبّيحةً وقادة أمنيين وغيرهم، يمكن أن نعرّج على ثورتنا لنقف عند بوادر مرض نقترح تسميته “المرض بالثورة”، وهو التماهي معها ورفع كل ممارساتها ومجال حراكها الميداني في المدن والمناطق والقرى السورية إلى مصاف القداسة التي لا يطاولها نقد. لا نقارن طبعاً بين الجلاد – النظام السوري والضحايا – السوريين الثائرين، إلا أننا نحاول أن نقدم أفكاراً، لا ندّعي الأسبقية إليها، حول كيفية التفكير بحس نقدي في ظل الحرب الدائرة بين النظام والشعب. أفكار موجهة إلى أقلام سورية تنأى بنفسها عن الكتابة التأسيسية للمستقبل ومرحلة ما بعد الخلاص من النظام لصالح الانخراط الاعمى في الثورة. مثقفون سوريون كثر يحوزون هذه الصفة الاخيرة.
لدى المقارنة بين المرض بالأسد والمرض بالثورة، لا يسعنا إلا أن نمر بالبعد الاخلاقي الذي يجعل المرض بالأول دافعاً إلى الإصابة بالثاني. الأسد رئيس لأجهزة قمعية وجيش يفتك يومياً بالسوريين المنتفضين، وهو ابن عائلة أسقطت الجمهورية ورفعت الملكية والحكم بالوراثة بديلاً من الإرث الذي صنعه السوريون منذ أيام الرئيس الراحل شكري القوتلي. قادت ممارسات هذا النظام الاستبدادي والمافيوي إلى تفجر الغضب السوري المكبوت منذ عقود، فكلما ازداد النظام الأسدي وحشية في قمع الثورة، ازداد تمسك السوريين بثورتهم التي لا رجوع عنها، وتضاءلت احتمالات العقلنة والثبات على النهج السلمي في التعبير. الثورات كلها أصلاً غير عقلانية على مر التاريخ والأزمنة ولا تسير بخط تصاعدي مستقيم مفصّل على مقاس تفكير البعض. إن تمسك السوريين بثورتهم وإن بشكل مرَضي بما أفرزته هذه الثورة وتحديداً ظاهرة “الجيش الحر”، مردّه الأول هو النظام الذي لا يمل المرضى به من السجود إلى صور “مخلّصهم وقائدهم ومنقذ وطنهم من الخراب الذي لا بديل منه سواه”، إنه بشار الأسد “صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني”، على وصف الشيخ البوطي.
بدأت الثورة السورية كسائر الثورات العربية التي سبقتها، مختزنةً وعياً وحاملةً طابعين لا يسعنا إلا الانحناء لهما: السلمية في التظاهر والتعبير عن المطالب السياسية، وغياب مفيد لرموز وقيادات للثورة تحتكر الكلام وفهم الواقع الذي صنعه السوريون هتافاً وغناءً ورقصاً حتى في اللحظات الأخيرة من الحياة الغاربة لبعضهم.
حملت شرائح من الثوار لا يستهان بعددها السلاح بعد كل العنف الذي صبّه النظام على المنتفضين. بوجود ضباط وعناصر منشقين عن الجيش ومسلحين مدنيين، تشكل “الجيش السوري الحر”، الذي صار علامة فارقة من علامات الصراع مع الأسد ونظامه من أجل استعادة سوريا من قبضته. السلمية صارت على المحك، لكنها كانت ولا تزال الشكل الأساسي للثورة مع نقاط التظاهر التي وصلت إلى أكثر من 600 نقطة في إحدى الجمع الاخيرة. أما “الجيش الحر”، الطارئ على مسار الثورة، فصار متناً لدى البعض من المرضى بالثورة ولم يعد طارئاً كما كان في البداية. هذا المتن أو العمود الفقري، مرشح للتصلب أكثر فأكثر كلما ازداد النظام وحشية في محاولته اليائسة لقمع الثورة وكلما تدخل الخارج العربي والإقليمي والدولي في الشأن السوري وتصاعدت أطروحات تسليح “الجيش الحر” التي لا تزال بيعاً للأوهام وتحديداً من الجانب التركي. النظام هو الذي فتح باب العمل العسكري المضاد والتدخل الخارجي عبر رفضه الحل السياسي وتأمين انتقال هادئ للسلطة في الأشهر الأولى من الثورة.
***
إسقاط النظام هو الهدف الأساسي للثورة السورية، وهذا الهدف صار منسوباً إلى “الجيش الحر” أكثر منه إلى الثورة، أو الثوار وحراكهم المدني الذي لم يوفر حتى الغناء والمسرح في تقديم رسالة الثورة السورية في أرقى صورها. هكذا تماهى “الجيش الحر” مع الثورة، أو صار هو الثورة. أصبح طابع الثورة وهدفها في الحرية وتطبّعها العسكري مندمجَين لصالح بروز التطبّع الذي يكاد يمسي طبعاً هو نفسه. نتائج ذلك سيجنيها السوريون بعد رحيل النظام غير مأسوف عليه.
“الجيش الحر” شكّل درع حماية مهمة على مدار الأشهر الماضية لكثير من التظاهرات والمدنيين، وردع النظام وعسكره وشبّيحته في مناطق عدة. لكن ماذا لو قلنا إن معركة دمشق الأخيرة جاءت خاسرة منذ البداية لغياب الحسابات لدى قادتها حول موازين القوى على الأرض في الدرجة الأولى؟ نخشى أن تنتهي معركة حلب كما معركة دمشق، بخسائر بشرية ومادية كبرى في صفوف “الجيش الحر” وصفوف المدنيين في أحياء المدينة، علماً أن الوضع في حلب يبدو مختلفاً عن دمشق ومعركتها قبل أسابيع. لكن يتراءى لنا أن تقديم النقد ومساءلة من أشرفوا على المعركة في العاصمة من الثوار يشكل نذيراً بسيل من عبارات التخوين والتشهير بالناقد، وربما أكثر من ذلك.
اختزال الحرية منسوبةً إلى ثورتنا بالعسكرة أو بـ”الجيش الحر”، هو تقزيم للثورة التي لم تبدأ عسكرية، بل تأخر حمل السلاح فيها دفاعاً عن النفس أكثر بما لا يقاس من الثورة الليبيبة. لذا فـ”الجيش الحر” ليس الثورة. إنه واحد من الأعمدة الاساسية التي ترتكز عليها الثورة اليوم، مع بقاء التظاهر والأعمال الإغاثية للمنكوبين والأعمال الفنية واللافتات الحاملة شعارات سياسية ناضجة، وهو ما بدأت الثورة السورية به.
ثمة هوّة بين الحلم السوري بالتغيير وممكنات الواقع. وحده النقد قادر على تضييق البرزخ الفاصل بين الثورة والثوار، وبين “الجيش الحر” ودعاة نقد الذات ومساءلتها. غياب الثقافة والتحليل الشجاع والجريء عن لائحة المهام اليومية للقادرين على العمل في الحقل الثقافي والسياسي، يوسع البرزخ النظري بين العسكرة الاضطرارية والاستمرار في إعلاء الصوت المدني في الثورة، ليتحول البرزخ ذاك هوة سحيقةً يسقط في قرارها المجتمع السوري ويتفتت مكوّنات، بعضها مسلح باسم الثورة وبعضها يستظل الثورة ليحقق مآرب شخصية له، من دون أن ننسى السياسيين من رموز المعارضة الذين ما برحوا يعيدون ديباجة الاقتراب من السقوط النهائي للأسد ونظامه مع معركة دمشق، ويبيعون الوهم للشعب الثائر الذي يبقى الرهان الأول عليه الآن وفي المرحلة التالية لسقوط النظام، وعندها، ربما لن نجد فسحة من الوقت لكتابة نص أو مقالات كهذه، لأن شرائح كثيرة من السوريين ستكون معنية بتنظيف المجتمع السوري مما علق به من أدران الاستبداد الذي حكمه، وبدء العمل ببناء دولة مدنية، وهذا ما سيشكل بداية التعافي من المرض بالثورة وبالقداسة والأقانيم، ممثلة بالعسكر والرموز الدينية وأصواتها الإسلامية التي تأخذ بالتصاعد يوماً بعد يوم. وهو التعافي الذي لن يحدث قبل الشفاء النهائي من المرض الذي لازم سوريا منذ أربعة عقود، سوريا التي بقيت عبر هذه العقود منكوبةً ومريضة بالأسد.
النهار