المسيرات الموالية في سوريا نقيض الديموقراطية/ شمس الدين الكيلاني
دأبت السلطات السورية على تنظيم مسيرات عارمة مُكلفة لخزينة الدولة ولحياة الناس النفسية والجسدية ولكراماتهم . تتوقف فيها الأعمال في الجامعات والمدارس والمستشفيات والمصانع، لتصب كلها في هدف واحد تسيير الناس إلى وسط المدينة، مترافقة برقابة لصيقة متلازمة بالتهديد والعقاب.من (الواجب) أيضاً، أن تحشد شركات القطاع الخاص عامليها، وأن يصطحب جميع العاملين معهم الأعلام واللافتات والعناوين الكبرى.وأن يتعمدوا إظهار ولائهم ،بصرف النظر عن مشاعرهم الحقيقية،فالنفاق هو السمة الأولى للمجتمعات المقهورة.
المسيرات مثل الاستفتاءات على مرشَّح واحد هي أيام إذلال اعتاد عليها السوريون،ليس بمعنى الاستسهال للذل،بل بمعنى الخبرة المُزمنة لها .هي أيام صعبة يتعرض فيها الناس للفحص عن شدة ولائهم، ولمقدرته على إخفاء مشاعرهم الحقيقية لمصلحة مشاعر زائفة احتفالية تُجنب المرء المخاطر(يوم ويمضي!). وربما تقتضي مشاركة المرء بالمسيرة أن يقوم بأعمال لا يقوم بها عادة:الرقص في الشوارع العامة والدبكة، والتقصير هنا لا يُغتفر مع الموظف الصغير أو الوزير. فالأفراد متساوون في الخوف.المسيرة تشبه إلى حد كبير (يوم العمل الطوعي)، الذي تُخصِّصه نقابة العمال السلطوية،في أحد أيام عطلة الجمعة، ليقوم به العمال بالشغل، وذلك لإثبات ولائهم ووطنيتهم.والمفارقة هنا أن اليوم(الطوعي) هو أشد أيام العمل إجباراً بالنسبة للعامل.فعلى من يغيب تحمُّل الوزر والحساب! هذا الإجبار والقسر والإذلال هو ما يجمع بين العمل الطوعي ويوم المسيرة.
غير أن المسيرات ،في هذه الأيام ، ترتدي معاني إضافية غريبة عن منطقها ومقاصدها المعتادة.إذ يُراد بها- بالإضافة إلى إثبات شعبية وشرعية النظام- أن تُثبت أن الشعب المُسيَّر يساند (الإصلاح) الذي تقوم به السلطة!مع أن كل ما تتضمنه المسيرة من معاني ،منطقية وتجريبية، يتعارض ومعاني الإصلاح .فإذا كانت من معاني الإصلاح الانفتاح على التنوع والحرية والاعتراف بالآخر واحتمال الإفضاء إلى الديمقراطية،فإن المسيرة ما هي إلَّا استمرار لمنطق القسر والتسلط والهيمنة والتعامل مع الشعب كرعية مسلوبة الإرادة ،تُسيِّره السلطة كما تشاء وتتصرف بأمواله بما ترغب.
تقوم المسيرات في المحافظات المختلفة على التوالي. تهيئ لها السلطة بأجهزتها الكثيرة لأيام طوال. تُسخِّر لذلك مؤسسات الدولة المالية والاقتصادية والفنية. تقوم كل وزارة ومؤسسة بما يتوجب عليها: وزارة الكهرباء تتولى تركيب الأبراج الكهربائية العظيمة لإضائة الساحة ،وتُصنِّع وزارة الصناعة اللوحات العملاقات للصور وللإعلانات، ولوحات بنحبك،وعلى مؤسسات أخرى تحضير الصور العظيمة التي تليق بالمقام دون اكتراث بالتكلفة،وتحضير الشعارات الكبير التي تؤكد على استمرار تمسك (المسيرة) بالقيادة إلى الأبد ،وعلى رفع مستوى هذه القيادة إلى مصاف القداسة. تهيئ السلطة مسرح كبير للخطابة لرجالها وضيوفها ونجومها، وتقوم بتوفيروسائل النقل لاستقدام موظفي الدولة وعمالها ،و شغيلة المؤسسات الخاصة، وطلاب المدارس ومعلميهم.وموظفي المستشفيات والممرضين والممرضات والأطباء تحت طائلة الجزاء اللازم! كما أن من (واجب) التجار الكبار ورجال الأعمال الكبار والصغار أن يُبرهنوا عن ولائهم وعن حبهم (للإصلاح) بتوفير أسباب النجاح لهذه المسيةر، وإلَّا !وهذه الـ (إلّا) تكبر طرداً مع توسع الثروة والثراء، وهو ما يدل على أن جوهر العلاقة بين السلطة ورجال الأعمال تقوم على (القهر) والتبعية، فلا شراكة بينهم على السلطة والقوة بل على المال. ثم تأتي النجدة والدعم من المحافظات الأخرى بباصات وقطارات تحمل الأعوان والشبيحة وقوى الأمن. وتقوم الأجهزة الأمنية ،خلال ذلك،بدور محوري، في تنظيم الناس وتسييرهم بالترهيب والترغيب.
إذا أخذنا المسيرة من زاوية منطقية ،نجدها تقف على النقيض من فكرة الإصلاح: فاسم المسيرة نفسه ينضح بمعناها القسري. هي على النقيض من المظاهرة التي يشارك فيها أناس أحرار بمحض اختيارهم بقصد الضغط على السلطة من خلال تجمُّعهم لتستجيب لمطالبهم ،وهم مستعدون للتضحية التي قد تصل، في ما يخص بالمتظاهر السوري، إلى الموت أو الاعتقال المفتوح. بينما تحيط بالمسيرة قوى الضبط والقمع والرقابة السلطوية ،يصاحبها الوعد والوعيد.فكل موظف وعامل عليه أن يتهيأ لتبعات تخلفه عن تقديم واجب الولاء ،والتصدي للمؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا الصمود والممانعة!
كما أن الشعارات التي تعلنها المسيرة، لاسيما تلك الشعارات التي ترفع القيادة إلى مصاف القداسة ،والدعوة لبقائها إلى الأبد، تنافي الإصلاح الذي يفترض التجديد والتنوع والتعددية وتداول السلطة. عالم (المسيرة) عالم مغلق لا يقبل الصوت الآخر ولا الرأي الآخر، ولا المشاركة ، ولا مبدأ التداول والمشاورة. الآخر بالنسبة لمن يقود المُسيَّرين عدو متآمر يجب الإجهاز علية لا يمكن التعايش معه أو محاورته. فإذا كانت (المظاهرة) مع حق التعبير الحر هي عنوان الديمقراطي، فإن المسيرة ،والاستفتاء على مرشح واحد ،ويوم العمل الطوعي هي العناوين البارزة للاستبداد. ولا تستقيم مع الإصلاح.
أما إذا أخذنا المسيرة في واقعها التجريبي ،فإننا نجد رجال السلطة،يبيحون لأنفسهم تسخير الدولة ومقدراتها لمصلحتهم وللتبجيل بقادتهم، وكأن الدولة بما بمؤسساتها كافة هي ملكية خاصة لرجال الحكم! يسخِّرون كل مقدرات الدولة الاقتصادية والسياسية والقضائية والمالية وقوى الضبط والقسر الاجتماعيين، لتحشيد الموظفين ،بما يصاحب ذلك من توقف العمل الإنتاجي في كافة المجالات. كما يتعرض الرجال والنساء أثناءها إلى شتى أشكال الترهيب من الأجهزة الأمنية والإدارة ،وإلى تغذية مخاوفهم من تبعات التخلُّف عن المشاركة. وهذه الأمور تناقض الإصلاح والديمقراطية التي لا تستقيم إلاَّ بأن يتم الفصل بين السلطة ومؤسسات الدولة،وأن يتصرّف رجال الحكم باعتبار الدولة ومؤسساتها ليستا ملكية خاصة لهم، علاقتهم بها ينظمها القانون فقط.وأن يختفي القسر من منطق تعامل السلطة مع الناس.
فهل يمكننا أن نتخيل أن تقوم ميركل أو ساركوزي أو أوباما بتسخير مؤسسة الشرطة والجيش ،وبتعطيل المعامل والمصانع لحشد عمالها وموظفيها ،واستخدام المواصلات البرية والبحرية للقيام بمسيرة من أجل إظهار التأييد لهم؟ هذا طبعاً أمر مستحيل، لأن (المسيرة) لا تستقيم مع الديمقراطية ،وبالتالي مع الإصلاح الديمقراطي. المسيرة هي عمل قسري منظم تقوم به السلطة والدولة بكل جبروتهما، وبطريقة سافرة، لإهدار كرامة الفرد والجماعة ولحريتهما. بل أن إحدى العلائم الابتدائية للإصلاح، هي إلغاء يوم العمل الطوعي،والاستفتاء على مرشح واحد، والمسيرة.
المستقبل