المكدوس فقيد الفقراء في سوريا/ عبير حيدر *
أصبح ” المكدوس”، وهو من الأكلات السورية القديمة المصنفة ضمن “بيت المونة”، حلماً يراود السوريين بسبب غلاء مكوناته. فثمنها قد يتجاوز متوسّط الأجر الأسبوعي للموظف أو العامل في سورا. قبل الثورة، كان من الصعب وجود بيت يغيب عنه “قطرميز” (اي المرطبان) المكدوس، فهو أحد أهم الأصناف الحاضرة في وجبات الفطور التقليدية في الشتاء، إلى جانب اللبنة والزيتون والزيت والزعتر. وقد اشتهرت به دمشق وحمص والعديد من مناطق سوريا.
يُصنع ” المكدوس” عادةً في موسم خاص يبدأ مع نهاية شهر أيلول/سبتمبر ويمتد في شهر تشرين الأول/اكتوبر، وذلك بالتلاؤم مع انتشار الباذنجان الخاص لصنعه والذي يطلٌق عليه “الحمصي” أو البلدي، وهو الباذنجان المدور الصغير. ويحفظ “المكدوس” بزيت الزيتون لمدة طويلة، قد تستمر حتى موسم صنعه في العام التالي. وهو غني بالطاقة بسبب مكوناته، من الجوز والفليفلة الحمراء وزيت الزيتون والثوم. وهو من المقبلات السورية الفاتحة للشهية.
تذكر “أم علي”، إحدى النساء السوريات التي لم تتوقف طيلة أربعين عاماً من حياتها عن صناعة “المكدوس” لعائلتها، كواحد من أصناف المونة التي تُحفظ لفصل الشتاء: “لم يمضِ عام من دون أن أقوم بإعداده، وكنت أصنع ما يقارب عشرة إلى خمسة عشر “قطرميز” متوسط الحجم، كون عائلتي تتكون من ثمانية أولاد، وهو من الأصناف المحببة لديهم. وحتى عندما كبروا وتزوج قسم منهم، استمريت في إعداده وتوزيعه على بيوتهم، لأن الجيل الجديد قد يجد صعوبة في إعداده، وهو يحتاج إلى خبرة”.
في نهاية أيلول/سيتمبر اذاً تبدأ التحضيرات لصنع المكدوس من مكونات البيئة المحلية نفسها، ففي هذا الشهر يتغير لون الفلفل (الفليفلة) من الأخضر إلى الأحمر، لأن الشمس الخريفية تكون قد أرسلت أشعتها لتجعله يخجل من طفولته فيجف قليلاً، ويكون الجوز(عين الجمل) قد نضج وتخلص من قشرته الخضراء التي تغطي جسده القاسي، والزيتون قد تحول إلى زيت مبارك، والثوم قد قُطف، والباذنجان نفسه، المكون الرئيسي في صناعة “المكدوس”، قد اقترب من نهاية موسمه. وتذكر “أم محمد”، وهي امرأة سورية من دمشق أيضاً، والماهرة في صناعته: ” ننتظر تقريباً حتى اقتراب نهاية موسم الباذنجان الحمصي أو البلدي، لأن قلبه يصبح أكثر بياضاً ويميل طعمه للحلاوة، وهذا يجعل المكدوس ألذ وأطيب”. هنا يبدأ الاحتفال السوري بخصوبة الأرض.
لن يتمكن معظم السوريين هذا العام – بحسب ما تؤكد “أم أحمد”– من صناعته مطلقاً، فقد وصل الغلاء حداَ لا يطاق. فحسب ما تذكر، أصبح كيلو الباذنجان الواحد يساوي مئة ل.س، ويحتاج “قطرميز” المكدوس المتوسط الحجم إلى حوالي عشرة كيلو باذنجان، في حين أن سعر كيلو الجوز قد بلغ 2500 ل.س.، وحتى “الفليفلة” الحمراء اليابسة وصل سعر الكيلو منها إلى 100 ل.س تقريباً. أما زيت الزيتون، فقد أصبح سعر التنكة منه 13 ألف ل.س تقريباً، وهو ما يمثل أربعة أضعاف السعر السابق، وما قد يعادل مرتب موظف سوري في القطاع الحكومي. تقول “أم أحمد”: ” كانت العائلة تصنع عدة “قطرميزات”. أما اليوم فقد أصبحت العائلة تشعر بعجزها”.
لقد أصبح هذا الصنف من الطعام السوري حلماً بعيد المنال بالنسبة إلى أغلبية العائلات السورية. وفي المقابل أصبحت صناعته باباً للرزق تدقه النازحات خارج سوريا، وهن اللواتي يبرعن في صنعه. وتتحدث إحدى النساء اللواتي نزحن من أحد قرى إدلب إلى مدينة “صيدا” اللبنانية عن هذا الأكل، قائلة: ” لا أملك المقدرة على العمل خارج هذه الغرفة التي أعيش فيها مع زوجي، لأنّ أطفالي صغار ولا يمكن أن أتركهم وحدهم. وليس لدي أي خبرة في العمل. لهذا وجدت في صنع المكدوس الذي أتقنه باب رزقٍ ممكنٍ، قد يساعدنا على العيش هنا بظروف إنسانية مقبولة ريثما نعود. ويؤمن لي صاحب أحد محلات الخضار كل حاجيات صنعه، وأنا أقوم بإعداده ومن ثم يقوم هو بتسويقه ويعطيني نسبة من الربح حسب قيمة الكمية المباعة”. وقد انتشرت العديد من المأكولات السورية التي تبرع النازحات في صنعها في الأردن أيضاً، وكان “المكدوس”على رأسها.
… علماً، وبالطبع، أن افتقاد “المكدوس” من قائمة طعام السوريين هذا العام ليس الغياب الوحيد في حياتهم. فهذه وصلت الى مستويات من البؤس المريع.
* كاتبة من سورية