المنسى السوري… المنساة السورية
ياسين الحاج صالح
المنسى بلاد ووضع ونظام سياسي.
إنه موطن النسيان العام، الأرض التي تكون فيها منسيًا، لا شأن لك، لا يحس بك أحد ولا يذكرك أحد (غير ذويك وأخصّائِك).
وهو وضع المحرومين من الذكر العام، من لا يتكلم عنهم أحد أو يشعر بهم أحد، بينما هم يتألمون أو يموتون. المنسى، بالخصوص، حال من يهانون ويعذبون ويقتلون في سياقات عامة، دون شهود ودون رواية، ودون تكريم. وهذا بخاصة في زمننا الراهن الذي يستطيع توفير سجلات وصور ومعلومات مباشرة أكثر من أي وقت سبق، لكنه ينتج من التجاهل والمهانة والإهمال الكثير أيضا.
ومثل السجن والمنفى، المنسى وضع سياسي، إنه نتاج سياسة إنساء، حرمان من القول والحضور، أو فرض المجهولية على قطاع من السكان أو على جميعهم.
بفضل الثورة الاتصالية لم يكد يبقى ثمة منفيون ومناف اليوم. المنسى هو المنفى المعاصر، والمنسيون هم المنفيون. منفيون داخل بلدانهم، لكن خارج الذكر العام والمجال العام، لا يعترف بهم ولا يُروْن، ولا يفكر بهم أحد، ولا تُسجّل سيرهم ولا تروى قصصهم، ولا تسمع أصواتهم، ولا تحفظ صورهم.
حماه
ضحايا حماه السورية عام 1982 سقطوا في لجة المنسى التي كانتها سوريا كلها في ذلك الحين. كان مواطنوهم يذهبون بالألوف إلى السجون والمنافي، لكن كان مصيرهم هو الأقسى بإطلاق. عُذِّبوا وقتلوا، واغتصبت نساء، ودمرت البيوت ونهبت الأملاك، ولم يُروَ شيء من ذلك في وقته أو يُذكر. ليس هناك مواد مصورة مزامنة، ولا تكاد توجد شهادات حية. كتبت أشياء في أوقات لاحقة، لكنها قلما تقدم روايات شخصية أو سيرا مرتبطة بأوقات محددة وأماكن بعينها وأسماء ووجوه. عبر حال المنسى، قُتِلوا مرتين، مرة في المذبحة في شباط 1982، ومرة بحرمانهم من الذكر العام واعتبارهم ضحية جمعية لا ملامح لها.
كان الغرض من هذا العقاب الوحشي صنع ذاكرة خوف ومنعكسات خوف مناسبة. الوجه الآخر للمنسى العام هو الذكر الخاص، أن تبقى المقتلة في ذاكرة الناس، لا ينساها أحد، لكن أن يتداولوا الكلام في شأنها همسا وفي نطاقاتهم الخاص. بهذا يصان مفعولها الترويعي كهوْل غير محدد، كواقعة شبحية رهيبة لا شكل لها، ولا يمكن استيعابها. كان من شأن التداول العام بشأنها أن ينظمها ويحددها، فينزع طابعها الشبحي، ويجعل منها واقعة تاريخية قابلة للفهم، بلا “سحر” ولا هوْل.
لكن في المجال العام، مذبحة حماه لم تقع.
العالم
المنسى نتاج تحولين خاصين بالعالم المعاصر.
أولهما أنه لم يعد ممكنا لأحد أن يعيش خارج الدولة، “مكتوما”، وتاليا لم يعد ممكنا وجود ألم خاص. آلام الناس اليوم عامة وسياسية، ما يقضي بأن يعترف بها بهذه الصفة، وأن تشكل السياسة بحيث تنتج أقل الألم.
والتحول الثاني يتمثل في أن السياسي هو ما يَظهر ويُعرض ويُروى، ويوضع بين يدي الجمهور، أو في متناول الانتباه العام. وبما أن الألم سياسي، وبما أنه مهم، بل هو المهم (أكثر من أخبار الرؤساء والملوك وأقوالهم)، فينبغي أن يٌعرض ويعمم كي يطلع عليه الجميع ويتحملون المسؤولية حياله.
ثم إن الذكر (التذكر والرواية) لم يعد فعلا نفسيا أو تراثا محليا. إنه اليوم فعل “موضوعي”، مجسد في مؤسسات وممارسات عامة، وهو أيضا فعل سياسي وصراعي، تحاول الدول التحكم به والسيطرة عليه. وفاعل الذكر مجتمعات كبيرة ودول، والعالم. ومثله النسيان. ليس النسيان غفلة أو سهوا أو مجرد نقص في التذكر. إنه فعل منظم ومتعمد، وسياسي أيضا.
الحمويون قبل جيل أصابهم ألم سياسي جدا، ومنع هذا الألم من أن يُذكر، بل أسدل عليه ستار من النسيان بجهد سياسي منظم.
كان هذا حال السوريين جميعا بدرجات أقل فداحة. كانت سوريا منسى. وكان نظامها منسى، جهاز لمنع الذكر العام ولقمع الذاكرة والرواية.
الطغيان
عموما الطغيان عدو للذاكرة، لا يريد أن ترى سيرته لأن كل سيرة تتضمن التحول والنقص والزوال أو الموت، وهو ما لا يطيقه الطغيان المنشغل بتأبيد الحاضر. ولا يريد أن يروي المحكومون سيرهم الخاصة، لأن هذا يعني امتلاك القول الشخصي والشوق الخاص والذات المستقلة، مما هو انتهاك لأساس الطغيان: لا قول غير قوله، ولا فعل غير فعله، ولا نزوع غير نزوعه، ولا أنا مستقلا إلا أناه.
لذلك الطغيان هو المنسى. حالة مكتومية سياسية عامة. ولذلك الثورة على الطغيان خروج من الغمر ومن النسيان. من المكتومية السياسية إلى مجتمع الذكر.
من السجن أيضا، ومن المنفى.
بما هي انفجار اجتماعي، الثورة حالة “فجور” سياسي، انتهاك للنسيانات المفروضة، وهتك للحجب السياسية المسدلة على وجه المجتمع ولسانه.
و”أبطال” فجورنا اليوم هم الذاكرون، مقاومو النسيان، بخاصة أولئك “المراسلون المواطنون”، الذين يصورون قصص السوريين ويدونونها، ويتيحون فرص الكلام لمواطنيهم. يحطمون جدران المنسى الأسدي.
الثورة
خلافا لحماة قبل أكثر من ثلاثة عقود، الثورة السورية اليوم تسجل نفسها أولا بأول، تدون يوميات فجورها على يد أولئك “الأبطال”. لم تعد سيرة الموت السوري اليوم أسيرة النفوس والنطاقات الخاصة الضيقة. صارت تجد دربها أولا بأول إلى الذكر العام.
لكن لا ريب أنه تضيع قصص كثيرة جدا، وتحال إلى النسيان آلام وفجائع لا تحصى. وبقدر ما إن رهان الثورة هو أن يكون لكل فرد قوله، وأن يتمكن من رواية قصته بنفسه، فإن رهان الثورة الواجب هو أن تستخرج من المنسى الحكايات التي طويت والفجائع التي لم ترو، هذا بقدر ما إن الثورة لا تكتمل دون خروج جميع من هم في السجن، وعودة جميع من هم في المنفى (إن شاؤوا).
المذْكَر
يخرج السجناء إلى عالم حرموا منهم ويستعيدون حرية فقدوها، ويعود المنفيون إلى “الوطن”، ما هو العالم المقابل للمنسى؟ ما هو “المَذْكر”؟ ذاكرة من هي التي يجب أن تسترجع سير المنسيين وصورهم؟ لا تكفي ذاكرة الأسرة والأصدقاء والجماعة الصغيرة. المنسى وضع سياسي كما سبق القول، والذكر ينبغي أن يكون سياسيا. الذاكرة والنسيان فعلان عاما وسياسيان اليوم كما سبق القول أيضا.
الذاكرة المعنية هي أولا الذاكرة الوطنية. ووسائل التذكر هي السجلات الوطنية والمتاحف، وقبل الكل وسائل الإشهار العامة: الصحف والإذاعات والشاشات ومواقع الانترنت، وكذلك النصب التذكارية والمسارح والسينما…
خلال حكم حافظ الأسد ووريثه كانت سوريا “مَذْكرا” حصريا للأب وسلالته، بقدر ما هي منسى عام لجميع السوريين. خاضت سوريا حروبا عديدة، لكن ليس هناك شهيد واحد بملامح شخصية، غير ابن حافظ الأسد الذي مات في حادث سيارة. ولم يحصل أن كُرِّم مثقف أو فنان سوري إلا إذا كان مواليا، أو متخليا عن أي دور عام مستقل.
لطالما كان المنسى السوري بمثابة إعدام سياسي، أو محو من الذكر العام (العلني و”على رؤوس الأشهاد”). الأشهاد اليوم هم “المواطنون” جميعا. ويسهل الإعدام السياسي المحو والإبادة الفعليين.
ومقابل هذا الإعدام هناك حياة مضاعفة وحضور مضاعف ومفرط لحافظ الأسد ثم وريثه. كأن خلاصة كل الحيوات التي أحيلت إلى النسيان رُكِّزت في حياتيهما.
من السمات الجوهرية للنظام الأسدي احتكار المجد لشخص واحد وأسرة واحدة. يتسامح بـ”الشهرة” و”النجاح” اللذين تدرهما وسائل الإعلام الجماهيرية على فنانين ورياضيين، لكن حتى هنا الأمر مشروط دوما بالولاء. أما “المجد”، بمعنى اقتران الشهرة بالحرية والدور الاجتماعي المستقل، فهذا محظور بتاتا. لم يكن يطاق حتى مثقف مُتلوِّن مثل نزار قباني، رغم أو لأنه كان حائزا على شعبية حقيقية، لا تدين للنظام البعثي بشيء. المثقفون السوريون الآخرون عاشوا في المنفي أو مارسوا رقابة ذاتية متشددة.
المجد للحاكم وحده. صدام حسين، وهو شبيه لحافظ الأسد، لكن “متجه نحو الخارج”، سمّى نفسه “المجيد” بعد كارثة 1991.
المنساة
المنساة السورية هي السيرة الغائبة والصوت الغائب أو المنسي للسوريين خلال الحكم الأسدي بخاصة. وهذا الغياب هو أحد أوجه المأساة السورية وإحدى أدواته. من السهل حبس المغمورين، من لا ذكر لهم، ليس صعبا قتلهم، من يبالي بتعذيبهم والتنكيل بهم وإهانتهم؟
كان التحكم بحركة المعلومات في عهد الطاغية الأب شبه كامل، ولطالما ضاعفته وكالات التزييف أو الذكر الكاذب في الداخل السوري، وفي لبنان الذي جرت السيطرة عليه طوال ثلاثة عقود. ولطالما وجد النظام بعض الصعوبة في اعتقال أشخاص مذكورين (عمر أميرالاي، ممدوح عدوان، برهان غليون،… من بين المعروفين الذين تعرضوا لـ”مشكلات أمنية”). صفتهم كمعروفين تشكل حماية نسبية لهم، وتضمن أن تروى قصصهم إن تعرضوا للاعتقال وما هو أسوأ منه.
الذِّكر
هذا الجانب من الواقع السوري يساعد في تصور ما ينتظر من الثورة، أو ما يتعين أن يكون معيارا للحكم على ما تحقق. غير رواية السير السورية كلها، يلزم امتلاك أدوات الذكر العام التي سبقت الإشارة إليها من قبل المجتمع. ليس لها أن تكون أدوات إشهار وتمجيد لفرد أو عائلة أو حزب. ليس لحاكم أو حزب احتكار الذكر العام وأدواته لأنهما من أدوات السلطة والنفوذ الحاسمة.
في زمننا الحاضر، هذه الأدوات بأهمية الكتابة قبل خمسة آلاف سنة. الحرمان منها هو بمثابة فرض للأمية على المحرومين. أمية الذكر العام.
الأهم على كل حال أن يتملك المجتمع أدوات الذكر وإنتاج الذكر (كما تملك الكتابة وأدوات إنتاجها)، بما فيها امتلاك الفضاء العام. الذكر هو التذكر والرواية، أن نتذكر وأن نروي ما نتذكر. أن نشهد.
التخلص من نظام المنسى لا يكفي بحد ذاته من أجل التحرر. يلزم استحضار المنساة السورية بأكبر قدر من التفاصيل المضبوطة، ووضعها بين أيدي المعنيين، السوريين.
الخروج من المكتومية هو عنوان لثورة اجتماعية يمتلك فيها الأفراد والجماعات أسماءهم وصورهم وسيرهم، وأدوات تعميمها. هذا جانب أساسي من الثورة السورية لا يقل أهمية عن الجانب السياسي. وهو يساعد في نصب حواجز تحول دون الطغيان. مجتمع المغمورين المجهولين النكرات هو المجتمع الذي يمكن أن يتحكم فيه الطغيان. يصعب فعل الأمر نفسه في مجتمع المذكورين، الذي يتملك أفراده شخصياتهم وقصصهم.
لكن هل تحتمل سوريا أن تكون “مَذْكرا” تاما؟ أن يُفتح باب الذكر على سعته للجميع؟ نعلم أن مما قد يُذكر ما يثير السوريين ضد بعضهم، ولبعض ما نراه اليوم هذا المفعول.
يحتاج الأمر إلى نقاش مفتوح. المبدأ هو حق الذكر للجميع، لا يجوز تقييده إلا في أندر الحالات. ونتصور أن حرية الذكر، بما فيها حرية النقاش العام، تصلح مشكلاتها. وأن التقييد، وإن لمصلحة عامة تبدو وجيهة، يفتح باب التسلط والرقابة. والأمية.
العالم…
الثورة السورية قد تكون أول مأساة عالمية غطت نفسها بصورة واسعة وواعية جدا، ربما ثأرا من المنسى الأسدي، من تحالف المأساة والمنساة ضد السوريين في جيل سبق. دسّت الثورة صورها وقصصها تحت أنوف العالم ككل، ووضعت سوريا على رأس قائمة الكفاح العالمي من أجل الحرية والذكر، فارضة على العالم أن ينتبه ويصغي.
لا تزال الاستجابة محدودة بعد نحو عامين من الكفاح، وهي تبلغنا أن هناك خللا فادحا في نظام الذكر العالمي، إن جاز التعبير. أن في العالم مناسي واسعة، صحارى يغيب فيها الذكر والتذكر، أن بلدنا الذي ولدت فيه الأبجدية أحد هذه الصحارى. وأن النظام الدولي الذي لا تكف الثورة عن تذكيره شريك للنظام الأسدي الذي جعل البلد منسى.
وما سبق قوله عن أن التذكر والنسيان فعلان عاما وسياسيان، هو اليوم واقعة عالمية أكثر وأكثر. ليس هناك مجتمعات تعيش خارج العالم. وتاليا إن ما ينسى وما يذكر مرتبط بنظام العالم اليوم، وليس بالنظم السياسية المحلية وحدها. في هذه الحيثية يمكن القول إن العالم اليوم يشبه المنسى الأسدي أكثر مما يشبه أي بلد ديمقراطي، في الغرب أو غير الغرب. ويمكن تعريف الديمقراطية، في هذا السياق المحدد، بأنها الترتيب السياسي الذي يتيح لأكبر عدد من الأفراد الذكر العام، التذكر والرواية “على رؤوس الأشهاد”.
الذاكرات الوطنية لم تعد تقبل العزل عن بعضها. وأحد ميادين الكفاح اليوم هو التملك المتساوي للذكر والمساواة بين الذاكرات أو الشهادات. ظاهر اليوم أن الذكر والذاكرة الأميركية مهيمنان عالميا، وذكر الغرب وذاكراته قوية الحضور. والذاكرة والذكر الإسرائيليين ربما يكونان الأقوى عالميا. إسرائيل هي الحالة القصوى للّامنسى، للمذْكر. إنها تشغل في العالم الموقع الذي كان يشغله حافظ الأسد في سوريا.
بالمقابل، تشكل بلدان بأكملها مناسي عالمية، منها بلدنا.
المستقبل