المنفى والحنين إلى المجهول/ سمير الزبن
كل حرب قذرة، لا حروب نظيفة، فالحرب تجعل الأرض تميد تحتك، تدفعك للهرب من موت يكاد يكون محققاً. في المنفى تميد الأرض بك أكثر، وفي ظل هذا الاهتزاز المزدوج، مطلوب منك أن تجد توازنك في حالة مضطربة. هل من سؤال أكثر جنوناً من سؤال التوازن على أرض تهتز تحتك طوال الوقت؟! حتى لو كنت بارعاً ونجحت في ذلك، لا شك في أن المهمة ستكون ذات طابع بهلواني، وهكذا هي حياة الهاربين من الحروب في المنافي، تتفاوت بين تطرف مأسوي وتطرف ساخر.
يحمل اللاجئون الناجون من الحرب أوزارها معهم، بعد العيش سنوات في ظل تهديد الموت، وحالة العجز، والخوف من القذائف والاعتقال والكثير من تفاصيل الحرب المرعبة، لا يبقى اللاجئ الذي دخل تجربة الحرب هو ذاته الذي هرب منها. إنها الحرب داخله وداخل كل أفراد العائلة تمارس فعلها المستمر، حتى بعد النجاة من الحرب والوصول إلى المنفى. هل من المبالغة القول: ليس هناك ناجٍ من الحرب، فهي تكوي الجميع، من قتل، ومن أصيب، ومن اعتقل، ومن بقي، ومن نجا.
في أماكن اللجوء، الشعور بالنجاة لا يكفي لدرء آثار الحرب التي حفرت في النفوس، في المنافي تستعر حرب أخرى، هي استمرار للحرب في «الوطن» من جهة، ومن جهة أخرى هي حرب العيش في العالم الجديد الذي يجد الناجي نفسه فيه. سرعان ما تشتعل حرب من نوع جديد بين أشخاص لم يعتقدوا أنهم يجهلون بعضهم بعضاً إلى هذا الحد، وهم الذين أقاموا تحت سقف واحد سنوات طويلة، وخاضوا تجربة الحرب والهروب منها إلى المنافي معاً. الكثير من العائلات الناجية من الحرب إلى المنافي، دمرت المنافي عندها ما لم تدمره الحرب، العائلات التي وجدت نفسها تتحد في مواجهة الحرب سرعان ما وجدت نفسها تتفكك في المنافي.
يقول الباقي في الجحيم السوري إلى الناجي منه في المنافي، شكواك فائضة عن الحاجة، لقد حققت الأمان ونجوت من الحرب، والحياة بعيداً من الحرب هي إنجاز بحد ذاته، لا بأس بالقليل من الملل، أتمنى الوصول إلى هناك. نعم، لا شيء أبشع من موت يلاحقك في كل مكان، لكن اللاجئ الذي دمر المنفى حياته، يحنّ إلى المجهول. بالتأكيد، لا يحنّ اللاجئ إلى الإثارة والرعب التي تسببها الحرب وقذائفها هناك، هو يحنّ إلى حياته التي فقدها، في الوقت الذي لا يرى أنه قادر على بنائها من جديد في المنفى.
هل يمكن تفضيل الحرب على أمان المنفى في هذه الحال؟
نعم، هذا ممكن، هل هو خيار جنوني؟ قد يكون كذلك، لكنه خيار الذي يرى جحيم القذائف أقل مأسوية من جحيم الثلج والغربة وذل المنافي. لقد قرّر الرجل العودة إلى دمشق، طلبت الزوجة من الأصدقاء إقناعه بعدم العودة إلى الجحيم السوري. ليقنعوه قالوا له: أنت ذاهب إلى الموت! ضحك الرجل وقال: وهنا أنا ميت أيضاً، ما الفرق! لم يعد هناك ما يقال للرجل الذي قرّر أنه ميت، سواء هنا أو هناك. هل هذا هو الجنون؟ هل الجنون أن تختار شكل موتك أو مكانه؟! هل من الجنون أن تساوي بين أقسى الهدوء وأقصى الخطر؟! هل تعيد القذائف في دمشق الحياة إلى روح ماتت من فرط الهدوء؟! نعم عاد الرجل إلى المكان الذي اعتقد أنه الأنسب لحياته، مفضلاً المأساة في سورية حيث يجد نفسه. المفارقة أن من حاولوا إقناعه بالبقاء، حسدوه على الجرأة في اتخاذ قرار العودة إلى دمشق، العاجزون هم أنفسهم عن اتخاذه.
* كاتب فلسطيني.
الحياة