المنهاج السلفي الجهادي وإنشاء دولة الإسلام وإدارةُ التوحش… أمر واحد/ وضاح شرارة
مقالة محمد خليل حكايمة/أبوبكر ناجي القاعدي العزامي في «إدارة التوحش» (2004)
«احتفل» الاعلام في اليومين الاخيرين من حزيران المنصرم بانقضاء سنة تامة على إعلان الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام «الدولةَ الاسلامية» من غير زيادة ولا نقصان. ودولة الاسلام، على مر التاريخ والتقليد والسُنة والتراث، هي دولة الخلافة. وعلى رغم حرص «الدولة»، أي تنظيمها الحركي العسكري الذي وُلدت منه، على التمهيد لاعلانها في 29 حزيران 2014 بنشر ما سماه وثيقة «المدينة»، تيمناً بالعهد بين الرسول المكي والمهاجر الى يثرب وبين أنصاره الجدد من الأوس والخزرج، في 13 حزيران، قلما انتبه الاعلام الى الوثيقة العتيدة، وهي أقرب الى المدونة القضائية، على قول أهل المغرب في الوثائق القانونية التي يحتكمون اليها. فما حاز على الشطر الاعظم من الاستعادة والتذكير هو مدونة حوادث القتل والتمثيل والغزوات والوقائع الحربية التي ملأت الأشهر الماضية، ويُخشى أن تنبئ بآتٍ أعظم وأفظع.
«العصابة ـ الدولة»
فالمنظمة الاسلامية المقاتلة تتسلط على حوالي نصف الاراضي الاقليمية السورية، وثلث الاقليم العراقي، بحسب تقدير وكالة الصحافة الفرنسة، وتولت «إعدام» 3027 إنساناً في سوريا وحدها، فيهم 1787 مدنياً (فيهم 74 «طفلاً»)، على إحصاء رامي عبد الرحمن و»مرصده». وليس في الاحصاءات عدد قتلى المنظمة المسلحة في ساحات الحرب، لا قتلاها هي ولا قتلى من تقاتل.
والحق أن المنظمة «الجهادية» الاسلامية حرصت على إثبات قدرتها على القتل والاغتيال، وإصابة مقتل من المجتمعات التي تقصد إيذاءها وإيلامها وإضعاف قبضة سلطاتها على أهاليها، 3 أيام قبل «عيدها». فقدمت لبلوغها السنة بمهاجمة منتجع سياحي في ولاية سوسة التونسية وقتلت 38 سائحة وسائحاً، وحملت آلافاً على المغادرة هرباً وهلعاً، وترك أحد مرافق تونس الحيوية خاوياً. وثنت في الكويت، فقتل عميلها الانتحاري 26 مصلياً في مسجد شيعي، وخلف 227 جريحاً فقد بعضهم طرفاً أو عيناً أو جزءاً من غدة حيوية. وقطع عميل ثالث رأس صاحب عمله بضاحية مدينة فرنسية كبيرة، وعلقه على سياج المصنع، وأراد تفجير مصنع الغاز، فخابت فعلته. و»شَبَه» فعلة العميل بأفعال «العصابة- الدولة»، حيث تحل موقتاً أو زمناً طويلاً، لم ينسبه إليها، أي لم يدعها الى اعلان أبوتها أو أمومتها القاتل. وقد يكون هذا إرجاء وتأجيلاً. ولم تنقض إلا أيام قليلة على انتشار جيش العصابة المستولية على جبهات السياحة والصلاة الجامعة وخزانات الطاقة، حتى بادر الجيش، أو إحدى أذرعه الى مهاجمة مواقع الجيش المصري بسيناء غداة اغتيال نائب عام الدولة في القاهرة. وفي الاثناء دار قتال ضار في تل أبيض والرقة والحسكة بشمال سوريا الشرقي، وبغرب الانبار العراقية وفي بعض أحياء الفلوجة، وغرب درنة الليبة، وحضرموت اليمنية، قوات العصابة الدولة طرف فيها كلها، الى انفجار عبوات في صنعاء، وتوقيف متسللين منها الى ايطاليا وألبانيا. وقتلت السيارات المفخخة بساحات بغداد العشرات من غير تمييز.
وهذا كله، وغيره مثله، لا ينكر. وهو يدعو مراقبين ومنخرطين، محليين وأجانب، الى توقع دوام الحروب المشتعلة والمركبة، الاهلية والوطنية والاقليمية «العالمية»، زمناً مديداً. فهذه الحروب، في مساراتها المتعرجة، تزج في جبهاتها المتنقلة بقوى جديدة، وتعبئ موارد متفرقة أو تغري بجواز تعبئتها، وتستدرج المتقاتلين الى مسارح عريضة، وتقيم بين جماعاتهم جواراً مُستحدثاً، وتقلب قوى بعضها على بعض. وتضطلع المنظمة «الجهادية»، في معظم الاوقات وعلى معظم المسارح، بالمبادرة والفعل، منذ حملتها الخاطفة التي وصلت الرقة السورية بالموصل العراقية من طريق الانبار وسنجار و»الخلاء» السوري- العراقي، الى سطوها على تدمر، ومهاجمتها أخيراً ومرة ثانية دير الزور وكوباني وتل أبيض.
ويستوقف الانتباه في هذا بل يأسره ويبهره انتهاج قوات أبوبكر البغدادي «الحرب الهجومية الخاطفة»، تيمناً بالحملات الهتلرية الالمانية إبان الحرب المدرعة الكاسحة على الخطوط الفرنسية الجبلية والحصينة في ربيع 1940. ويقوم الانتحاريون، بالعشرات، محل الطليعة المدرعة، ويشقون طريقاً تكاد تكون معبدة الى ملاقاة، الخلايا النائمة والناشطة في «مدن» تسيطر العشائر على «منازلها» وخططها ووظائفها الاجتماعية، وأخلاها كبراؤها وأعيانها أو بقاياهم، قبل «الفتح» المنتظر والمفاجئ. ويتستر العنف المنفجر، ولباسه حلة العمليات الانتحارية أو الانغماسية، وتوسله بعمليات الاعتقال الواسعة والاعدامات الجماعية والمصورة- تتستر هذه على بنية الجهاز العسكري والسياسي الدعوي الديني والاداري الذي يخوض هذه الحروب. فلا يبقى في الاذهان والابصار والافهام إلا مواكب عصابات «الجهاديين» المنتصرة وأعلامهم السود الخفاقة على الطرق الى المدن المستكينة. وهو ما يريده هؤلاء ويسعون فيه. وظاهره يحاكي أو يستأنف الفتوح التي أخرجت جيوش المسلمين الاوائل من جزيرتهم الى الجوار العراقي والشامي القريب، والى ما يليه من ممالك فارس والروم ومصر.
والحق أن المشاهد هذه هي من صنع جماعات نشأت، وربما تصورت في أحشاء مجتمعات وتاريخ واختبارات لم يطوها الزمن بعد، في أفغانستان وباكستان والهند ولبنان والاردن وسوريا والصين، الى الولايات المتحدة وغرب أوروبا (منذ العقد الاول للقرن الواحد والعشرين). وقد تكون حظوظ الارتجال من إخراج المشاهد كبيرة أو راجحة، إلا أن أصحابها ومخرجيها ومديريها لم يعدموا التفكير المديد فيما يفعلون ويعدون ويتوقعون. ومن المفكرين هؤلاء الملقب بأبي بكر ناجي، محمد خليل الحكايمة المصري، من «الجماعة الاسلامية» المصرية التي قادها أيمن الظواهري الى «قاعدة» بن لادن قبل أن يرث امرتها أو قيادتها. وقاتل الحكايمة بأفغانستان وباكستان، وبمصر، وراقب الحوادث الجزائرية في العقد العاشر من القرن المنصرم مراقبة حثيثة. وقُتل بوزيرستان في 2008. وشهد الهجوم على نيويورك وواشنطن، وهلل له.
وشهد أوائل الأعمال العسكرية العراقية والهجمات على الاميركيين وقوات التحالف والقوات المحلية الوليدة والاهالي الشيعة ومنظماتهم العسكرية، ببغداد والفلوجة وبعقوبة والرمادي، وتوقع لها مستقبلاً مجيداً. وفي 2004، كتب مقالته في الحرب ومنهاجها الاسلامي المعاصر، وفي دروسها الافغانية والمصرية على وجه الخصوص. ونشر مقالته، أو مرآة أمير الحرب، على موقع إلكتروني، ووسمها بـ»إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة» يقصد: على طريق «المعبر لدولة الاسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة». وذلك على شرط إحراز النجاح في الادارة المحتومة والاضطرارية. وعلى جاري عادة او سنة هي من قرائن الانتساب الى دوحة أو مدرسة فقهية، ومن شروط الافتاء في السياسة الشرعية تالياً، يحرص الحكايمة/أبو بكر ناجي على تخريج أحكامه وآرائه الجديدة وتأييدها بشواهد من أئمة تقليد. ويتصدر هؤلاء ابن تيمية من «طبقات» المتقدمين، «شيخ الاسلام»، وابن حجر العسقلاني، والشوكاني. و»ينزل» (زمناً) من هؤلاء الى محمد بن عبدالوهاب، فإلى المعاصرين: سيد قطب وعبدالله عزام، وفوق هذين الشيخ عمر محمد أمين، وعمر محمود أبو عمر، «المتخصص» في مسائل التربية، بحسب تنويه صاحب «إدارة التوحش».
عالمية الاسلام والفتوح
والسياقة التاريخية (وهو يكتب على الدوام: «التأريخية») التي حملت على إمامة هؤلاء هي انقطاع الخلافة العثمانية، وغلبة «الردة» على المسلمين وبلدانهم ومجتمعاتهم مذ ذاك. وواقعة الردة الاولى، وهي قيام القبائل العربية في بعض الحجاز ونجد على الخليفة الاول تنقلب كناية هي ووقائعها الحربية الاهلية الاستئصالية الهائلة وسياسة الخليفة الاول فيها، مرجعاً يصوِّب ضمناً وفعلاً حكم سيد قطب في مجتمعات المسلمين المعاصرين بالجاهلية. فهو لا ينكر أن المسلمين المعاصرين أدركوا الاسلام زمناً، ودخلوا فيه شأن أهلهم، وعرفوه معرفة قد تكون منحرفة ولكنها لا تنكر، بينما تغمط صفة الجاهلية الادراك والمعرفة، وتبتكر حالاً أو أحوالاً لا فقه فيها، ولا أحكام يقاس عليها، على خلاف الردة. والوصف بالردة يتعمد التنبيه الى إرادة الانكار والارتداد ومجاراة «إطفاء نور» الاسلام الذي لا يتستر «اليهود والصليبيون» على السعي فيه. وهي تنزل العقود التي أعقبت إلغاء مصطفى كمال أتاتورك منصب الخليفة ووظيفته رسمياً وفعلاً في 1923، ثم إخفاقَ محاولة استئناف العرش المصري الوظيفة من القاهرة، منزلةَ زمن غاب فيه مَعْلم الاسلام العسكري والسلطاني والاداري والشرعي الاول. فما اتصل أو كاد نحو 13 قرناً ونصف القرن- وهو على وجه الدقة، انقطع مرات كثيرة وتعددت مناصبه وعواصمه وتعدد متقلدوه وخطبه في منتصف القرن الثاني عشر للميلاد ثم في أوائل القرن السادس عشر…- بدا لبعض المعاصرين، مثل «الشيخ» حسن البنا ولمشيخات هندية وباكستانية من بعد، ابتداء عهد جديد ومنكر لن يستقيم للمسلمين حال معه إلا بـ»تجديد» الخلافة وانبعاثها. ولا يبالي الحكايمة فعلاً بما كانت عليه الخلافة العثمانية المتقطعة قبل أن ينفخ فيها عبد الحميد الثاني روحاً واهنة ومبهورة، ولا بأفولها وتصدعها منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع هزيمتها العسكرية والديبلوماسية المدوية أمام جيوش كاترين الثانية الروسية.
ويقرن الحكايمة /أبو بكر ناجي الخلافة، أو معناها، بسيادة «الاسلام»، شرعه وسننه ورجاله، بدار الاسلام العريضة أو العالمية على النحو الذي أنشأتها عليه، ومكنت له، فتوح الممالك والامبراطوريات المتعاقبة، وأرست سلطان الشرع والسنن وحلف أهل السيف وأهل الفقه على ارض الفتوح. ولا يتستر المفكر الجهادي والاستراتيجي المتحدر من «الجماعة الاسلامية» المصرية، والمقر بـ»إمامة» سيد قطب («صاحب الظلال»، أي كاتب التفسير في «ظلال القرآن» الذي جُمعت علامته على الطريق» «ما العمل؟» الاسلامي المعاصر، من بعض فصوله)، على هذا القران. فلا تستقيم دار اسلام من غير دار حرب. وليست الأولى إلا مخاض الثانية، والرحم الكبيرة التي تولد منها. وأفق الفتوح، على شاكلة «مملكة الاسكندر» الاسطورية والمثالية في مخيلات العالم القديم فالوسيط، هو المعمورة، ومشارقها ومغاربها، أو الكرة الارضية، على تسميتها الجغرافية المحدثة (قبل خمسة قرون). فـ»جسم الاسلام الكبير»، على قول حسين الموسوي، المدرس الاسلامي البعلبكي وأحد رواد المنظمة الخمينية المسلحة وأحد برلمانييها اليوم، ينبغي أن «يتمدد» ليملأ الدنيا.
ويدعوه الى التمدد، والسيطرة على المعمورة والارض الموات معاً، اضطلاعه بالتمدين والتحضير، على ما لم يشك سيد قطب، ولا شك صاحب «إدارة التوحش» من بعد. فالفصيل الذي «(يحسبه) قائماً بأمر الله»، وهو لا يقول «الفرقة الناجية» عمداً، مدعو ومندوب من نفسه أو إيمانه وعقيدته الى قيادة الأمة لـ»تعود الى قيادة البشرية للهداية» (مقدمة الرسالة). وحين يُري «الله» الداعية المقاتل والمستشرف، أبو بكر ناجي إياه، رؤيا «الفتح والتمكين (…) باذن الله»، يرى «المجاهدين» وهم يسيطرون او يملكون «بلاد المغرب خاصة الجزائر»، وإذا ملكوا المغرب «فلا يصلين أحدهم العصر إلا في تونس على حدود ليبيا (…) ويتأهبوا لفتح ليبيا ومصر»، قبل أن يفتح لهم في جزيرة العرب، فالاردن والخليج، وتتوجه الجموع «لتحرير القدس وما حولها وتحرير بخارى وسمرقند والاندلس… ثم ننطلق لتحرير الارض والبشرية من هيمنة الكفر والظلم» (ص112-113، الترقيم يبدأ من الغلاف).
ومسألته الاولى والبارزة هي الخروج من حال الردة، وهي ولدت الضعف والتبعية وعلى الاخص «العلمانية»، الى «الاسلام» وداره وجهاده، أي استئناف الاسلام بعد قطيعة الارتداد. ويتعمد صاحب المقالة في الطريقة «الجهادية» وصف أحوال المسلمين، وبلادهم وسياساتهم، على نحو يدعو الى اليأس والاحباط. فينتصر «المسلمون»، بعد هذا، من طريق معجزة «ربانية» تفي بالوعد الالهي والعبارة هي من جاري مخاطبة المسلمين وليست من ابتكار خطيب الجماعة الخمينية المسلحة في لبنان، على ما قد يحسب بعض الناس- ويتولى إنفاذ المعجزة والوعد «السلفيةُ الجهادية»، على ما يسمي الرجل أصحابه ونفسه.
وهو يرسم لوحة الأحوال باللون الاسود على لون لا يقل سواداً. فمعلم الاسلام الأساس والركن، الخلافة أو الدولة (ص4)، امحى ودرس، على قول الشعراء في الأطلال والدور والبيوت. والخلافة أو دولة الاسلام هي النصب السوي الوحيد على كيان الاسلام والمسلمين الحي. فما عداه، أو ما عدا دولة الاسلام وخلافته، «توحش». واللفظة الشارة هذه معناها الاول هو الكفر و»نظام الكفر». ويتحاشى الكاتب مقابلة أو معارضة «التوحش» بالمدنية أو الحضارة، أو بلفظة من الالفاظ المنقولة عن لغة أو مفهومات غير اسلامية. ومبتدأ التوحش، على تأريخه، هو تولي «نظام الكفر» إدارة العالم، «منذ سايكس- بيكو». ويومها، سقطت «الدول»، وربما يحسب الكاتب أن «سايكس-بيكو هو وحده نظام ما بعد الحرب العالمية الاولى كله، ولم تتمكن «دولة مكافئة في القوة»، على سبيل الاطلاق النظري الذي ينشده الحكايمة، أبو بكر ناجي، من السيطرة على اراضي ومناطق «تلك الدولة». وعلى هذا، حين سقطت «دولة الخلافة» انقسمت دولاً، على سبيل المجاز، ودويلات، وهذا الأصح. وحكمتها «حكومات عسكرية»، فعلاً وحقيقة، أو حكومات مدنية، ظاهراً، «مدعومة بالقوات العسكرية». وتتولى القوات العسكرية، وهي عمود الدولة عموماً في أحولها كلها، «المحافظة على شكل الدولة» (ص6).
الطريقة النبوية والطريقة الكونية العقلية
وتترجح معالجة صاحب «إدارة التوحش» في هذا الموضع، وتضطرب بعض الشيء. فمن وجه أول، يفضي «سقوط الدول»، إذا اتفق مع انتفاء «دولة مكافئة في القوة» تتولى إدارة الدولة محل الدولة «الساقطة»، الى التوحش، حكماً و»بالفطرة البشرية». و»المناطق والقطاعات» التي انحسر عنها ظل الدولة السابقة، ولم تغلب عليها دولة مكافئة…»، تخضع «تحت ما يسمى بإدارة التوحش». ولكن إرساء «الدولة»، أو مثالها، على «القوات العسكرية»، في عبارة غير مقيدة ولا مخصصة (بدول أو بلاد أو أقوام أو أديان…) لا يتفق وواقعة سيطرة دول وامبراطوريات، الاميركية والبريطانية والفرنسية واليابانية والسوفياتية، على «العالم». ومن وجه ثان، يبدو «التوحش» اختصاصاً تنفرد به بعض الاراضي والمناطق المتخلفة عن السلطنة العثمانية، وهي ما سمي يومها، «ممتلكاتها العربية» والمشرقية. وهي، على وجه التقريب، العراق وبلاد الشام وحواشي الجزيرة أو بعضها. وليس فيها لا آسيا الصغرى (كيليكيا) ولا الاناضول العريض ولا تراقيا (الرومللي، العثماني فالتركي) ولا بعض كابادوكيا. والاراضي غير التركية والتركية حررها مصطفى كمال وضباطه على رأس «الأمة» التركية، من جيوش الدول الغربية، ومن بعض الأقوام والشعوب «الاصلية» (الارمن واليونان) التي أخضعها الفتح العثماني في منتصف القرن الخامس العشر- خلفت عليها دول، غربية، مكافئة في القوة للخلافة الشكلية الآفلة أو تفوقها قوة بكثير. وعلى رغم هذا أسلمت الى التوحش وغَلب عليها. ويكتب صاحب المقالة، على رغم ما تقدم، أن «الكفر»، أو غيبة الخلافة، هو معيار التوحش، بل ان «أفحش درجات التوحش هي أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات» (ص5). وليس المعيار هو القوة العسكرية ولا الدولة على معنى القوة العسكرية وافتقارها الى مكافأة الدولة السابقة، باطلاق.
والترجح والاضطراب لم ينفكا من المقالة كلها. فصاحبها، السلفي الجهادي الاسلامي، يتطلع الى كتابة مرشد الى إنشاء «دولة الاسلام»، وإحياء الخلافة ونصرتها على الردة، من غير الاقتصار على السياسة الشرعية وفقهها. فهو، من وجه، لا يشك في كمال الدعوة وتمامها، ولا في «علوم» شيوخ الاسلام وإحاطتهم بما يُحتاج اليه في نشوء الدول وتمكينها. ولكنه، من وجه آخر مضمر، يريد إخراج مقالات الاسلاميين، ومقالته هو، من «بلديتها» أو دائرتها المنعزلة، ومن انكفائها على ما قد يحسبه أصحابها خصوصية فطرية فلا يجوز تعديها الى دائرة عمومية عالمية مشتركة تصل المسلمين والاسلام بأمم الارض وشعوبها من طريق العقل. وهذا، أي العقل، حمله شطر كبير من المسلمين، المتفقهين والمفسرين والمحدثين والمتكلمين وغيرهم، على «الفلسفة» اليونانية ودهريتها وكلامها في الخلق والخالق والصفات والقرآن والنبوة من غير «وحي»، وعلى خلاف الوحي. وابن تيمية، وهو شيخ مشايخ الاسلام في نظر الحكايمة/أبو بكر ناجي، كتب رسالة ركيكة ومتعجلة في «نقد المنطق»، ونقضه وإبطاله. وأياً كان رأي السلفي الجهادي المعاصر في «نقد» شيخه، فالرجل لم يتطرق صراحة الى المسألة. فهو يتوج مقالته في مرض «الدولة» الطفولي- في طور النشأة والحبو- بالجزم بأن «الطريقة النبوية (في إقامة الدول) هي عينها الطريقة الكونية» (ص 183)، أي تلك التي يحصلها العقل من الملاحظة والاختبار والتجريب.
من الردة الى… «الإسلام»
وهو لا يخفى عليه أن «الخطاب الشرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي»، وأنه يكتب خطاباً شرعياً يقتضي إثباته الاحتجاج بأدلة الشرع والكتاب والسنّة. ولكنه لا يخفى عليه كذلك أن توحيد الطريقتين، النبوية الشرعية والكونية العقلية، غير ممتنع ولا مستحيل من طريق استخراج العلل الكونية من السنن النبوية، وحمل هذه على تلك. وذلك على مثال صنيع أبي الحسن الأشعري في تضمينه «الاسلام»، كتاباً وحديثاً، «كلام» المتكلمين من غير مصطلحه وألفاظه (وهو مثال كان الحكايمة/أبوبكر ناجي كرهه من غير شك). وهو يشرع في ذلك حين يشرح ما يعنيه بالخطاب والدليل الشرعيين:»فإن من الخطأ الشنيع أن يظن أحد أن السيرة النبوية لها نظام خاص وقواعد مستقلة خارج نظام وقواعد سنن التغيير السنني في البشر جميعاً». وهذا استدراك على ما حسبه بعضهم، من «شيوخ» الاسلام أنفسهم، خلقاً أو إحداثاً مرسلاً لا يجري على معنى، ولا على شبه أو نظير. وهو رد على الذين «يجعلون الطريقة النبوية طريقة خاصة لا يعرفها إلا أهل الاسلام في إقامة الدولة».
فالاسلام، على هذا، يجري على السنن والعلل «الموضوعية» والعالمية المشتركة (من غير مصطلح صاحب المقالة). ويسع مقالات الاسلاميين، المعاصرين والسابقين، أن تسود المقالات السياسية الاخرى، الدينية و»القومية»، من طريق إعمال الأدلة الكونية العقلية، على نحو ما يسع الاسلاميين الجهاديين والسلفيين حكم العالم و»هدايته». فمبنى الاسلام على «شيء جامع للبشر جميعاً بغض النظر عن دينه (يريد: أديانهم) وقيمه (قيمهم)» (ص184). ويذيل صاحب «إدارة التوحش» مقالته، الرابعة، في «السنن الكونية بين الأخيار والأغيار» (ص 179-190) بقول جامع: «في ظل الانترنت، والحمدالله، انتشر أبحاث كثيرة لأهل التوحيد تم فيها تنقية لكتب فنون الحرب عند الأغيار مما لا يجوز». ويحمل على «الفكر الاخواني»، وإليه بوجه تهمة الانعزالية والخصوصية غير الكونية، والعزوف عن اعتبار «الدنيا دار سنن»، فمن ترك سننها أو عارضها أو «وقف أمامها أو تلعَّب بها أو تغاضى عنها (طحنته)» السنن، وصنعت ذلك من غير شك بإذن الله ومشيئته.
وتوسيع معنى التوحش، وقرانه بالدولة والقوة عامة، ثم بما يخرج عن الاسلام ومعتقده وشرعه وأهله، يحيله باباً يُدركُ «العصر»، على ما كان الشيوعيون وهم على رأس دول وأنظمة يقولون، أو يدرك العالم المعاصر كله من طريقه وبواسطته. والمحصلة الفكرية والعملية التي تترتب على تشخيص «سمة عصرنا» وهي الانتقال الى الاشتراكية» بالأمس أو إلحاح «فكرة الشيوعية» على قول ألان باديو الفرنسي وسلافوي جيجيك السلوفاني اليوم- هي الترجح غير المقيد بين مراتب العالم وأنحائه، والانقلاب من بلاد «المسلمين» الى بلاد الأغيار، والعودة من هذه الى تلك. ويسوغ الترجح، على هذا النحو، «للسلفية الجهادية» تعهد العالم كله، و»رعايته» الرعاية التي يستحق وأوكلها الاسلام الى أهله الخُلَّص والقائمين به.
وفي ضوء «التوحش»، الحال والفكرة أو المعيار والمصير أو الأفق، يبادر السلفيون الجهاديون المسلحون بـ»منهاجـ(هم) الرباني». والمحتذون على مثال «صراع الرسل مع الكفر» (ص3)، الى قيادة المرحلة أو إدارة التوحش. فهم وحدهم خرجوا، «بعون الله وتوفيقه» من تخبط الجماعات والفرق الأخرى التي تدعي الاسلام، أو لا تدعيه، وتغرق في العلمانية من حيث تعلم أو تجهل. فإلى السلفية الجهادية، ثمة تيار سلفية الصحوة التي تصدرها الداعية السعودي سلمان العودة، وانتهت الى محافظة سلطانية لا يرجى خلاص أو تغيير معها؛ وتيار «إخوان الترابي» الذي سرعان ما قعد عن الجهاد؛ و»الجهاد الشعبي» الحماسي الفلسطيني أو الحمساوي وهو قومي ووطني ولا ينتفع الاسلام به. وإخوان الترابي وإخوان «حماس» يشتركون في «مشروع الإخوان الذي يدير العالم منذ سايكس بيكو»، أي منذ استقرار القطبية الثنائية التي استقرت بعد الحرب العالمية الثانية، على ما يستدل من شرح الكاتب اللاحق. فالقطب يؤيد الانظمة الحاكمة، ويساند قادة جيوشها، ويخلط قيمها الاجتماعية والاقتصادية بقيمه ويفرض الخليط على المجتمع، ويخالف «عقيدة المجتمعات».
فمن أين الخلاص؟ والخلاص هو «(رد) المجتمعات الى قيمها وعقيدتها»، أي رد المسلمين الى إسلامهم. وقد يحسب الانسان العاقل أن «قوة الشعوب» الفطرية والتلقائية أهل الاضطلاع بالمهمة، لولا أن قوة الشعوب «(دجنتها) آلاف من الملهيات»، الشهوات ولقمة العيش وهالات إعلامية ونشر الفكر الجبري والصوفي والارجائي، وقهر «عن طريق جيوش وشُرَط هذه الدول». وقد يحسب الانسان العاقل والساذج نفسه أن «قوة الجيوش» وانقلاباتها في مستطاعها التصدي للأمر (رد المجتمعات الى قيمها وعقيدتها واسلامها). ولكن هذه أغدقت عليها الأموال المنهوبة «لتقوم بنقيض هذا الدور». فلا يبقى إلا «فئة قليلة من العقلاء والشرفاء تأبى الظلم وتنشد العدل». وضعف هذه الفئة يمكن «قوة مجرمة من الجيوش» من العدوان عليها. أو يقوم القطبان، قطبا «سايكس- بيكو» من غير شك، أو أحدهما «بإرغام النظام الجديد على الدوران في فلكه»، و»سودان البشير (ليس) عنّا ببعيد». فما العمل؟ إحياء العقيدة والجهاد في قلوب الشعوب المسلمة، والاقتداء بالجهاد الافغاني وصموده «أمام أقوى ترسانة حربية وأشرس جيش»، والإيقان بتوقع الشيخ عبدالله عزام «سقوط هذه الدولة العظمى وتشرذم جمهورياتها ونشوء حركات اسلامية جهادية في بعض جمهورياتها» («وتقريباً كل ما قال حدث وكأنه فيلم سينمائي»!)، ومعرفة قدرات العدو وموعد هزيمته وهذه «لا تتأتى لنا إلا بخوض الحرب العملية». فالحرب، الجهاد، هي الجواب الشافي، والعِلم الحق، والشرع الحنيف، والعروة الوثقى، والإيفاء بالوعد، والمنهاج الرباني…
المستقبل