الموت البطيء للجنرال/ بلال فضل
على مشارف الثالثة والثمانين من العمر، رحل الجنرال فرانسيسكو فرانكو بعد أن قضى أربعين عاماً قابضاً على مقاليد حكم إسبانيا، بعد حرب أهلية دامية حسمها بدعم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، لكنه بفضل دعم جماهيره اليمينية، لم يسقط مثلما سقط هتلر وموسوليني، بل تجاوز كل الأزمات الداخلية والخارجية، وظل لعقود جامعاً بين مناصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس حزب الكتائب، الحزب الوحيد المسموح له بممارسة العمل السياسي، بدون أن يكون مسؤولاً أمام أحد «سوى الله والتاريخ»، ولأن فرانكو لم يكن لديه شيء من الكاريزما اللازمة للطغاة، فلم تكن لديه قدرات بلاغية ولا شخصية ولا حركات جسدية آسرة، ولا صوت طاغٍ ولا حتى نظرة ثاقبة، فقد تطلب الأمر أن يستعين بخبراء في الدعاية والإعلام، لتقديمه في صورة «الإسباني المثالي» بطل الانتصارات في الحروب الفارقة ضد الشيوعية، الذي يعمل دائماً وبلا راحة من أجل رفعة إسبانيا. ولأنه لم يكن قادراً على الخطابة فقد تم التركيز على تكرار صوره في جميع التقارير الأخبارية أياً كانت، ليظهر تتابع الأخبار «وكأنه تطور يصل ذروته بالظهور الحافل لفرانكو في النهاية»، ويتم نشر صوره وتماثيله في كل مكان، ويتم إعلان يوم تنصيبه يوماً للزعيم، تسود البلاد فيه حالة من التقديس الجماعي لشخصه ووجوده في الدنيا.
في أحد فصول كتاب «موت الديكتاتور» الذي يروي فيه عدة مؤلفين وقائع موت أحد القادة الشعبويين، يروي فالتر إل. بيرنيكر كيف اضطر فرانكو مع مرور السنين وتدهور الحالة الصحية إلى التفكير في مسألة الخلافة، والتخلي عن الجمع بين منصبي الرئيس ورئيس الوزراء، ليعلن في عام 69 رغبته في تسمية الأمير خوان كارلوس ليكون خليفته الملكي، وبعد تهاوي صحته وابتعاده عن التدخل اليومي في شؤون الحكم وتفرغه لمشاهدة التلفاز، خاصة مباريات كرة القدم، واندلاع ثورة القرنفل في الجارة البرتغال، التي أطاحت بالديكتاتور مارسيلو كايتانو، زادت حدة التوتر السياسي في البلاد، خصوصاً بعد أن اجتمعت على فرانكو التهابات الأوعية الدموية وقرحة المعدة وتصلب الشرايين وداء باركنسون، وليشجعه طبيبه على تلقي العلاج ذات يوم، قام بتقديم فواصل من المارش العسكري أمامه، فتحمس الجنرال وسار في خطى عسكرية عبر غرفة العلاج، في الوقت الذي تنامت فيه قوة المعارضة وتفاقم عجز الحكومة عن الإتيان بحلول سياسية لأزمات البلاد، فضلاً عن تصاعد وتيرة الأعمال الإرهابية.
في أيامه الأخيرة أصيب الجنرال المُنهَك بنوبة انفلونزا خفيفة، قادت إلى ثلاث أزمات قلبية، لكنه أصر في 17 أكتوبر/تشرين الأول على مخالفة تعليمات الأطباء، ليرأس اجتماعاً للحكومة، بعد أن ربط الأطباء ذراعيه بأسلاك موصلة بشاشة تعرض حالة قلبه مباشرة، خوفاً من حالات الهياج التي كانت تنتابه حين يسمع أخباراً سيئة، بعد أيام بدأ فرانكو في الغياب عن الوعي لساعات، في حين كانت وسائل إعلامه تتحدث عن تحسن مستمر في حالته الصحية، وحين ذهب رئيس الوزراء ليبلغ الجنرال اقتراح أركان حكمه بضرورة نقل السلطة إلى خليفته، لم يترك له فرانكو فرصة للحديث، وأبلغه بأنه سيرأس الاجتماع المقبل للحكومة، ليزداد توتر الموقف، فتقبض سلطة فرانكو على جميع قادة المعارضة، وتكثف الرقابة على وسائل الإعلام، بل تشدد الرقابة على المنظمات اليمينية المتشددة الموالية لفرانكو من باب الاحتياط.
في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني وبعد سلسلة من التدخلات الطبية الدرامية، قام فريق أطباء فرانكو في قبو قصره بارتجال عملية جراحية لاستئصال ثلث معدة الديكتاتور، بعدها بسنوات ادعى طبيب حضر العملية أن الجراح الرئيسي ارتكب خطئاً فنياً حين لم يستئصل المعدة بأكملها، ما كان سيزيد فرص فرانكو في البقاء على قيد الحياة، ليُنقل فرانكو بعد أربعة أيام إلى المستشفى، ويظل لأسبوعين معلقاً على جهاز التنفس الصناعي، ورغم أن زوجته وابنته طلبا تركه يموت، لكن صهره الذي ترأس فريق الأطباء المكون من 36 عضوا، أصر على إطالة حياته باستخدام الأجهزة الطبية، حيث تم توصيله بكلية وجهاز تنفس صناعيين، حتى أظهرت الأشعة السينية توقف مخه عن العمل منذ فترة، ليبلغ وزنه 40 كيلوغراما، وينقل إليه ما يقرب من سبعين لترا من الدم، في حين استمر الحظر على نشر أنباء عن حالته الصحية، وصودرت عشرة طبعات لصحف تجرأت وطرحت تخمينات لفترة ما بعد رحيله عن الحياة.
في العشرين من نوفمبر 1975 تم الإعلان عن وفاة فرانكو رسمياً، لتُثار بعد ذلك تخمينات عن تأخير إعلان الوفاة عمداً، لتوافق الذكرى 39 لرحيل مؤسس الكتائب الإسبانية بريمو دي ريفيرا، الذي أُعلن أن جسد فرانكو سيدفن على مقربة من جثمانه في «نصب وادي الشهداء» الذي افتتحه فرانكو عام 59 بعد أن أشرف على تصميمه وتنفيذه لكي يدفن فيه، وليجعله تذكيراً بانتصاره على الجمهورية. تم تشييع جثمان فرانكو في جنازة حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من أنصاره، وسط مقاطعة للجنازة من أغلب الحكومات الديمقراطية في العالم، حيث لم يشارك فيها سوى الجنرال التشيلي بينوشيه وزوجة ديكتاتور الفلبين إيملدا ماركوس والملك حسين وأمير موناكو ونيلسون روكفلر نائب الرئيس الأمريكي، في حين شارك عدد من الرؤساء الأوروبيين في حفل تنصيب الملك خوان كارلوس، الذي جاءت خطبته الأولى مبشرة بعهد جديد مختلف عن عهد فرانكو الاستبدادي.
بعد رحيله ظلت أرملة فرانكو تسكن القصر الرئاسي لشهرين ونصف الشهر، ثم انتقلت للسكن في إحدى شققها في مدريد حاملة معها مجوهرات وتحفا وصورا وسجاد حيطان وأرضيات ذات قيمة عالية، بدون أن يسمح بنشر اعتراضات علنية على ذلك، لتظل عائلة فرانكو ثرية جداً لسنوات، وتتلقى أرملته معاشاً حكومياً كبيراً جداً، لكنها انسحبت من الحياة العامة، هي وابنته وصهره وأحفاده، الذين تورطوا لاحقاً في فضائح جعلتهم في صدام مع القضاء، فلم تعد تنشر أخبارهم إلا في صفحات الحوادث والصحف الصفراء.
لم تندثر آثار العقلية الفرانكوية بسهولة من الحياة السياسية الإسبانية، لكن نسب مؤيديه تراجعت مع مرور الوقت، حتى وصلت نسبة من ينظرون لحقبته بإيجابية إلى 18٪ عام 85، ثم تراجعت إلى 10٪ عام 2000، وبعدها بعامين أقرت لجنة الدستور التي شكلها البرلمان في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل فرانكو قراراً بالغالبية يطالب بتعويض ضحايا فترة الفرانكوية وإعادة تأهيلهم وإدانة الديكتاتورية الفرانكوية بشكل صريح، بعد عقود من التعامي عن جرائمها، لتستمر ذكرى فرانكو في الشحوب لدى الأجيال الشابة الذين ينظرون إليه بوصفه الفاشي والمستبد والسفاح، وفي عام 2007 دخل قانون الذكرى التاريخية حيز التطبيق، الذي يحرم في أحد مواده أي فعاليات سياسية تذكر بالحرب الأهلية أو تمجد أبطالها أو تثني على فترة الفرانكوية، ومع ذلك ما زالت تنتشر محاولات لتصويره بوصفه منقذ البلاد ومحدث نظامها الاقتصادي، وهي محاولات تجد صداها في فترات الأزمات التي ترتفع فيها أصوات الحنين إلى الماضي مهما كان إجرامياً، لأن الطغاة وإن فارقوا الحياة تظل أشباحهم حاضرة وجاهزة للعودة حين تستدعيها الجماهير المحبطة.
ـ «موت الديكتاتور: ذكريات وأحداث من القرن العشرين» ـ مجموعة مؤلفين ـ ترجمة علا عادل ـ دار صفصافة
٭ كاتب مصري
القدس العربي