صفحات العالم

الموقف من دمشق كمؤشر لأزمة جزائرية


بشير هلال

وحدها الحكومة الجزائرية تحفّظت على البند السابع من قرار مجلس وزراء الخارجية العرب في اجتماعه الأخير لدرس تقرير المراقبين ومصير المبادرة العربيين، وهو بند «الطلب من مجلس الأمن تأييد المبادرة العربية ودعمها». جاء ذلك في سياق مواقف مشابهة شكَّلت أحد العوامل الرئيسية التي حالت دون توفير إجماعٍ داخل الجامعة العربية على تنفيذ بنود المبادرة العربية وتفعيلها و/ أو نقل ملفها إلى مجلس الأمن وفق اقتراح المجلس الوطني السوري المستند إلى مطالبة شعبية متزايدة بحماية دولية بعدما اقتصر ما نُفِّذ منها على بدء عمل المراقبين في شروط سيئة.

ويؤكد ما نُشِر من محاضر لاجتماعات مجالس الجامعة ولجنتها الوزارية الخاصة بسورية، أن الديبلوماسية الجزائرية تبنت موقفاً نزَع بداية إلى تصديق الرواية الرسمية للنظام عن وجود مؤامرة خارجية ومجموعات مسلحة وعصابات إرهابية، ومال لاحقاً تحت ضغط تعميم صور القمع ودمويته وتصاعد ردود الفعل، إلى توزيع مسؤولية العنف بـ «التساوي» بين الحكم، الذي تُنسب إليه نية الإصلاح، وبين الحراك الشعبي، وهو موقف وجد ترجمته العملية في «تزعُّم» المجموعة الضاغطة للاكتفاء بالحد الأدنى من الإدانة ومن العقوبات، أياً كان نوعها، على النظام السوري، وصياغتها بحيث تكون أضعف من ان تؤثر فعلاً في سلوكه، إذ وقفت الديبلوماسية الجزائرية بداية على رأس معارضي تعليق عضوية النظام السوري في أعمال الجامعة العربية، وضد اي تعاون مع الهيئات الدولية تحت شعار التصدي للتدخل الأجنبي واحترام السيادة الوطنية. وعندما اضطُرَّت إلى قبول التعليق كبند مُلازِم للمبادرة العربية، في ما بدا «صفقة متكاملة»، تبنَّت تأويلاً أفرغها من قوتها الإكراهية المفترضة على المستويين الرمزي والعملي، وأعلنت في هذا السياق صراحة أنها لن تلتزم ببند سحب السفراء. لكن الأهم بقي ما استطاعت فعله بالتنسيق مع دول عربية أخرى (في مقدمها مصر، التي يُمسِك المجلس العسكري بقرار سياستها الخارجية) وهو نزع الطابع التنفيذي الفوري عن بنود المبادرة ومحاولة تحويلها مجرَّد مهمة مراقبين تتآلف مع قمعٍ روتيني يعطي مهلاً جديدة للنظام السوري ويُغطِّي العجزين العربي والدولي عن تشكيل ثقل رادع، الأمر الذي اتفق مع مساعٍ إيرانية وروسية لتعقيم مسارات الضغوط العربية والدولية.

قد تكون العلاقات التاريخية الوثيقة بين البلدين سبباً في التعاطف مع النظام السوري، رغم أن الجزائر تستقبل منذ عقود معارضين سوريين طردهم انقلاب الرئيس الأب وبعضهم اشترك في الحركة الاستقلالية الجزائرية، الأمر الذي كان مُفترَضاً فيه أن يشكل حالة حثٍّ على وعيٍ مُضاد للوضع السوري، ما يُظهِر أن هنالك وراء هذه الحالة أسباباً أكثر داخلية وراهنية و «أهمية» من نوستالجيا مُعلَنة تدَّعي التمسك بالمبادئ المؤسِّسة للعالمثالثية، فالموقف من «الربيع السوري» جاء كتتويجٍ لمحاولة صياغة سياسةٍ خارجية وقائية، في سياق ردود الفعل على «الربيع العربي» الذي فاجأ النظام الجزائري كغيره من الأنظمة العربية، والذي يُهدِّد بتغيير الشروط الإقليمية والداخلية لديمومته وآليات اشتغاله.

ورغم علاقتها غير السلبية مع راشد غنوشي زعيم «حركة النهضة»، فإن الحكومة الجزائرية استقبلت الثورة التونسية بحذرٍ كبير، نظراً للعلاقات الوثيقة التي بنتها مع حكم بن علي وأجهزته الأمنية. وزادت مخاوفها مع توسع الحركات الاحتجاجية في الجزائر نفسها بُعَيْد انتصار الأولى، وهي مخاوف بلغ التعبير عنها حدّاً كاريكاتورياً مع طرد المغني التونسي بيرم الكيلاني الملقب «بندر مان» من الجزائر خلال آب (أغسطس) الماضي، بذريعة انه يريد دعوة الشباب الجزائري للتحرك ضد النظام.

وبدا الحكم الجزائري أكثر عدائية للانتفاضة الليبية، التي اتهمته -رغم تكرار نفيه- بالوقوف ضدها بالسلاح وتصدير المرتزقة، ونجم ذلك أساساً عن اعتباره خلال سنوات طويلة أنه نجح باحتواء شطحات «الجماهيرية العظمى» فيما كانت بعض أجهزته الأمنية تعتبر القذافي حليفاً استراتيجياً وأنه قادرٌ على الصمود في وجه الانتفاضة، وهي خصومة زادت بعد انتقال الملف الليبي إلى مجلس الأمن ومن ثم التدخل العسكري لحلف الناتو ودولٍ أخرى، والذي استثار تخوف الحكم -وبعضه موضوعي- من المعنى الإستراتيجي والسياسي لمشاركة قوات أطلسية في إسقاط نظامٍ مجاور. وتصرَّف كما لو أنه وجد ضالته في ما تولَّى تضخيمه إعلامياً حول وجود «القاعدة» في صفوف الثوار الليبيين وقيادتهم، ومخاطر انتشارها في المنطقة لتجديد نفوذ عسكرييه وأمنييه وسياستهم وشرعنتها، وهي القائمة على ترجيح المقاربة الأمنية للخطر الإسلاموي.

وبهذا المعنى، فمقاربة أحداث سورية البعيدة عن خطوط «التماس» المباشرة عكست اضطراب السياسة الخارجية الجزائرية المُحافِظة كما صيغت خلال عقود، والتي ظلَّت تستوحي لفظياً نسبة قوى وشروط اشتغال سابقة، رغم نهاية القطبية الثنائية والعلاقات الجدية التي أقامتها مع واشنطن في المجالين الاقتصادي والأمني، ورغم انصراف القوى الوارثة لعهد بومدين إلى تعديل آليات توَزُّع السلطة وإجراء انفتاحات اقتصادية شُرِطَت بتسريع حيازة المكّوَّن الأمني-العسكري للسلطة وشبكاته على الثروة، بما أدَّى إلى نهاية سياسة «الصناعة المُصنِّعَة» و «الأفق الاشتراكي» وتقوية الطابع الريعي للاقتصاد والتمكين لبورجوازية تتكئ الى الاقتطاع من الإنفاق العام عبر الاقتصادين الشكلي والتحتي، بموازاة تعددية حزبية مكبوحة وحريات إعلامية محدودة. وهذا في ما لم تغيِّر خلال سنوات طويلة سياستها الإقليمية القائمة على التنافس مع المغرب وتقليص آفاق الاتحاد المغاربي والتمسك بملف الصحراء الغربية رغم مقترحات الوساطة الأممية وجهودها.

من المؤكد أن شمول التغيير تونس وليبيا، والإصلاح الدستوري المملكةَ الشريفية، أدَّى إلى وضعٍ يُسبغ على الديبلوماسية الجزائرية «المحافِظة» صفة المغامرة لأنها تفقد عناصر العالم الذي انبنت وتفاعلت فيه داخلياً وخارجياً. ومواقفها من انتفاضات «الربيع العربي» يكشفها كسباحة ضد التيار وكخلاصة لتخوُّفٍ أصمّ يتحكّم بالدوائر الحاكمة من المجهول الذي تخبئه الحراكات الاجتماعية التي شهدت الأيام الأخيرة المزيد منها وإمكان تقاطعها مع حراك سياسي تتيحه انتخابات تشريعية (في أيار/ مايو) تتعرَّض السلطة بمناسبتها لنقد متزايد يشمل شروط العمل السياسي عامة، والانتخابات خاصة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى