الميغ” تتصيد الحب والحمام
عامر أبو حامد
من على أحد أسطح المخيم، تلك الأسطح المتساوية الارتفاع لولا المخالفات العمرانية وعُلب كشاشي الحمام الصغيرة المركبّة عشوائياً ولاقطات الإرسال الفضائي المُكتظة التي تظهر كالنواتئ، ترصدُ كاميرا ثائر السهلي المشهد المُمتد والمألوف لمخيم اليرموك في جنوب العاصمة السورية دمشق.
“مخيم اليرموك مكان ما بيتعرف بجملة، ولا بينوصف بقصيدة أو رواية…”
يستهل ثائر فيلمه القصير “ميغ” (11:38 دقيقة) الصادر حديثاً بدعم من مؤسسة بدايات والتجمع الفلسطيني للإبداع، بمحاولة لتعريف المخيم الذي هو أصعب من أن يُختزل إلى كلام أدبي وشاعري، لكنه يتجرأ على أن يجترح تعريفاً كحالةٍ لمكان “يُكثّف المنفى” أو “حرف يجرُّ فلسطين بسوريا”. الارتباط بين المخيم وفلسطين ودمشق، هو ما حاولت طائرة الميغ أن تقطعه بقصفها للمخيم.
“الميغ” التي بدأت تنهشُ الأحياء المُتاخمة للمخيم، كانت سبباً في نزوح حبيبة المخرج وزوجته من حي التضامن إلى اليرموك “رسول الموت الذي يتنفسُ في فضاء شرفة الحبيبة”. كذلك نزحت العائلات السورية والفلسطينية الأخرى إلى مدارس المخيم وملاجئه بوصفه مكاناً آمناً، لكن “زيارة الميغ” لم تتأخر كثيراً وذلك في يوم 16 أيلول/ ديسمبر 2012، الذي كان من الممكن أن يكون يوماً عادياً في حياة المخيم لولا تلك الزيارة “الثقيلة” والمفاجئة للطائرة.
سيرة “الميغ” المؤنسنة مع المخرج الشاب، تسردُ على لسانه بأسلوب مجازي عالي المستوى الفني بحيثُ تفيض فيه دلالات اللغة عن الصورة مبتعدةً عن أي كليشيهات تخصُّ فلسطين والقضية، لكن بلهجةٍ فلسطينية أصيلة تختلط مع العربية الفصحى. والسيرة بدأت منذ الضربة الأولى على مدرسته الثانوية ومن ثم الضربة الثانية قرب المشفى حيث تعمل زوجته والثالثة نالت من حي دائرة المحكمة التي تزوج فيها قبل أسبوعين. فينفتحُ العام على الخاص وتؤول الشرفات وغرف النوم إلى مشهد واحد موسع للشارع، في دلالة رمزية كثيفة لطائرة الميغ الأنثى الخبيثة التي تنتهك الخصوصيات وتتبعُ حياة المخرج لتدمر تفاصيلها.
الفيلم الذي لا يتوقف عند رصد مشهدية قصف طائرات “الميغ” لمخيم اليرموك، يتجاوزها إلى علاقة اللاجئ الفلسطيني بالمُخيم، ذلك المكان الذي طالما اختزل فلسطين في زواريبه وحاراته الضيقة وكثيراً ما كان يحلُّ مكانها في وعي شباب المخيم الذين امتزج هواهم الفلسطيني بانتمائهم إلى الأم سوريا. ويبدو أن ثائر السهلي هو أحد هؤلاء الشباب الذين التمسوا في المخيم المتاخم لمدينة دمشق هويةً وطنيةً مزدوجة بين لهجة ال”خيا” الفلسطينية ولغة السوق والتجارة الشامية. يقاربُ ابن اليرموك العلاقة هنا بمجازية ذكية بحيثُ يعيّرُ تجار القهوة الدمشقيون المزاج العكر لأولاد اليرموك على وزن “هيل وضل رايق”. ثائر يُشبّه الشام بالخالة شقيقة الأم للمخيم الذي يُحب خالته ويخلصُ لها، والطاغية زوج الخالة القاسي الذي يرتعب من هذا الوفاء، لا يتوانى عن ضرب ابن الأخت المُخلص، ليضاعف مأساته ويجعل النزوح والشتات مزدوج.
كان من الصعب على ثائر أن يصدق هذه الطائرة التي تنهشُ من جسد المخيم اليوم، كانت في لحظةٍ من اللحظات تدافع عن قضية فلسطين. مُكر الميغ تكشف عندما رآها الشاب تقطّع الأوصال بين المخيم وفلسطين بدلاً من أن تدافع عنه، فتفتحُ فصلاً جديداً لشتات الفلسطينيين الذين هجروا المخيم نازحين إلى مناطق أكثر أمناً، لتتكرر المأساة ذاتها بتبدل العدو فقط. من عصابات الهاغانا إلى طائرات الميغ السورية.
“الميغ تبحثُ عن الحب لتقصفه”، وتحتل سماء كشاشي الحمام على أسطح المخيم لتعكّر صفو الطائر الجميل وترعبُ أسرابه الرشيقة. ترصد الكاميرا الميغ والدمار الذي أحدثته في المخيم بمجازية نصٍّ يتحدّث عن أنثى شريرة بمضير الغائب، تزور المخيم بدمها الثقيل وتخرب حياة أهله. ويحيلُها إلى النظام السوري الذي خدع الفلسطينيين لعقود وهو يتاجر بقضيتهم ودمائهم ويقمع السوريين باسم شعاراتهم الوطنية. لكن الفيلم يؤكد أن الفلسطينيين تنبّهوا لقضيتهم التي لا تنفصلُ عن قضية الشعب السوري، وأن مخيمهم الذي كبر في أحضان دمشق هو ذاته فلسطين. فأولاد المخيم يبكونه عندما يغادرونه وهو لا يغادرهم أبداً. ثائر وأصدقاءه يريدون أن يأخذو المخيم معهم عندما يعودون إلى فلسطين، لعيشوا في مخيمهم وعلى أرضهم.
يعود ثائر ليذكرنا بصعوبة تعريف المخيم أو وصفه، لأنه مكان سيبقى “ذاكرةً للنسيان”. يهدي عمله إلى ذكرى أصدقائه الشهداء “وبكل مخيم في وجه منير وأحمد… وصدى كلمة خيّا”. وعلى صوت أغنية شعبية فلسطينية تختفي الشمس وراء أبنية المخيم وصحونه اللاقطة وعلب كشاشي الحمام.
المدن