النار في سوريا… والدخان في «هرمز»
حسام مطر
يُشغل العالم هذه الأيام بما أصبح يعرف بأزمة مضيق هرمز، في خضم التصعيد المتبادل بين إيران والغرب: هل ستغلق إيران هذا الممر الاستراتيجي؟ كيف ستتعامل واشنطن مع ذلك؟ هل ستتدحرج الأزمة الى حرب إقليمية أم مواجهة محدودة؟ لا شك في أنّ القلق من وقوع مواجهة عسكرية مشروع، بالنظر الى مستوى التحولات والاضطرابات التي تضرب المنطقة والنظام الدولي ككلّ، إلّا أنّه يبدو حتى الآن أنّه لا رغبة عند كلا الطرفين، الإيراني والأميركي، في خوض مواجهة مباشرة، بل يفضلان ممارسة «سياسة القضم»، مستخدمَين أسنان الحلفاء، وذلك باعتبارها سياسة أكثر فعالية وأقل كلفة ومخاطرة. إلا أنّ سياسة القضم تلك لا تنحصر في المجال المادي، بل تمتد الى مجال الشرعية أيضاً. من هذا المنطلق، ترى واشنطن أنّ تسعير التنافس المذهبي يقلص شرعية النظام الإيراني على المستوى الخارجي، فيما تمثّل العقوبات الاقتصادية والضغوط على بنية النظام السياسية، الوسيلة الأبرز لتهديد شرعية النظام الداخلية، فيما تجد إيران في تحدّي الوجود الأميركي في المنطقة سبيلاً فعالاً لسحب الشرعية عن هذا المشروع، وشرعية الأنظمة الملحقة به.
عند استعراض أزمة مضيق هرمز وحساباتها، لا يمكن إلا استذكار الأزمة الكوبية في ستينات القرن الماضي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. بالتأكيد تبدو الأزمة الكوبية ذات تهديد أكبر بكثير من الأزمة الحالية، نظراً إلى احتوائها على العنصر النووي، إلا أنّ ذلك لا ينفي الاحتمالات التدميرية للأزمة الحالية، ولا سيما بعدما أصبحت روسيا جزءاً منها، كما عبّر أكثر من مسؤول روسي أخيراً. فخلال الأزمة الكوبية، وجد كلا الطرفين نفسه في ورطة، إذ لم تكن لدى أيّ منهما رغبة في الصدام المباشر، لذا اكتفت واشنطن بحصار كوبا، وسقط خيار توجيه ضربة جوية إلى منصات الصورايخ الروسية أو غزو الجزيرة. حتى إنّ الرئيس كينيدي عدّل قواعد الاشتباك البحري، ومنع إطلاق النار حتى ولو تحذيرياً من دون أمر مباشر منه شخصياً. في المقابل، امتنع الروس عن خرق الحصار البحري واستكمال تركيب منصات الصواريخ. في المحصلة ونتيجة لتوازن الرعب، رسم كلا الطرفين خطوطاً حمراء لخصمه: خط أحمر روسي حول كوبا، وخط أحمر أميركي حول نقل صورايخ قادرة على حمل رؤوس نووية الى الجوار الأميركي. بالعودة الى هرمز، فقد أعلنت إيران صراحة أنّه في حال تعرّض مصالحها الحيوية للخطر فإنّها ستبادر الى إغلاق المضيق، وذلك في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية والنفطية الغربية على طهران، بحجة برنامجها النووي. في المقابل، ردت واشنطن بأنّها لن تسمح لإيران بإغلاق المضيق الذي تمر فيه 40% من واردات النفط العالمي. وقد ترافق ذلك مع عروض عسكرية متبادلة بين واشنطن وطهران في مضيق هرمز، كنوع من المنازلة الصامتة أو الباردة، كالمناورات الإيرانية وعودة حاملات الطائرات الأميركية الى الخليج. إلا أنّ اللافت كان رسالة أوباما عن عدم رغبة واشنطن في تصعيد الموقف، وما تلاها من تأجيل للمناورات العسكرية المشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة. إن كان من دلالة لهاتين الخطوتين، فهو أنّ واشنطن لا نية لديها بالتصادم المباشر مع طهران في هذه اللحظة، لذا ستبقى واشنطن حريصة على أن لا يصل مستوى الضغط على إيران الى «المستوى الأحمر»، فتتخذ طهران القرار الدراماتيكي بإغلاق المضيق، أي قرار الحرب. إذن نجحت طهران حتى اللحظة في رسم خط أحمر للضغوط الدولية، إلا أنّ من البساطة الاعتقاد بأنّ واشنطن لم تكن على دراية بأنّ لطهران خطوطاً حمراء لن تسمح لأحد بمسها، حتى لو أدى ذلك الى اندلاع مواجهة إقليمية، إذ يدرك الأميركيون أنّ إيران قد تتكيّف مع الضغط الاقتصادي، لكن ليس الى حد تدمير قطاعها الطاقوي والمصرفي، بما يحرمها موارد ضخمة تستخدم في التنمية الداخلية والسياسة الخارجية، وهو ما يعرّض شرعية النظام الداخلية والخارجية لتحدّيات خطرة جداً. تعلّم الإيرانيون كثيراً ـــــ على الأرجح ـــــ من أخطاء السوفيات السابقة، وهم يدركون أنّ تدمير الاقتصاد الإيراني هو السبيل الأكثر جاذبية بالنسبة إلى واشنطن. لذا لن يتردد الإيرانيون في لحظة حاسمة في نقل المواجهة الى حيث يمكنهم مقابلة الحرب الاقتصادية الغربية، أي الى المجال العسكري، وبالتحديد في منطقة المضيق، حيث يملك الإيراني جملة خيارات تراوح بين الإغلاق والتضييق.
إذاً ما الهدف من التصعيد الغربي المتصاعد والمستمر في وجه طهران؟ يبدو أنّه مرتبط بجملة حسابات: أولاً، هو محاولة لتحييد طهران عن التدخل في دعم النظام السوري في لحظته الحرجة، عبر إلهائها وتقييد خياراتها. ثانياً الحاجة الى توجيه رسالة إيجابية الى إسرائيل عن جدية الهواجس الغربية تجاه برنامج إيران النووي. ثالثاً، محاولة واشنطن التأكيد لحلفائها أنّ الشرق الأوسط لا يزال من أولوياتها الكبرى، بعكس ما يشاع، ولا سيما بعد إعلان أوباما الاستراتجية الدفاعية الجديدة التي ركزت على منطقة الهادئ. ورابعاً مواصلة السعي إلى إقصاء طهران عن التأثير في لحظة التحوّل العربية هذه. يبدو أنّه في ظل غياب القرار الأميركي بخوض مواجهة تقليدية مباشرة، لا تزال استراتيجية الاحتواء الأميركية تحتل المشهد، إلا أنّها تصبح أكثر تشدداً وعمقاً، كما يحدث في سوريا، إذ بالنسبة إلى واشنطن، فإنّ المواجهة مع طهران حالياً، من شأنها إضاعة ما يعتقد الأميركيون وحلفاؤهم أنّهم نجحوا في تحقيقه حتى الآن في الملف السوري. لذا، ما دام يبدو أنّ هزم سوريا ممكن التحقق أكثر من أي وقت مضى، فلا بد من تكريس الجهد والموارد على الملف السوري، لأنّ تداعيات هزم دمشق بالنسبة إلى إيران، أقسى بكثير من العقوبات الاقتصادية مهما كانت، وربما أقسى من توجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية حتى. إلا أنّه حتى عند هذه النقطة، تبرز إشكالية جديدة. ألا تعدّ طهران ـــــ كما روسيا ـــــ أنّ سقوط النظام السوري خطاً أحمر؟ يبدو الموقف الإيراني واضحاً، فسوريا خط أحمر بالنسبة إلى إيران، إلا أنّ الفارق هنا هو في قدرة الرد الإيرانية، إذ لا يمكن طهران الدخول في المواجهة السورية بالمستوى والشكل اللذين تستطيعهما، حين تكون المواجهة معها مباشرة. إلا أنّ ما يمكن طهران فعله هو الانتقال إلى مستوى أعلى من الجرأة والعدائية والمواجهة في الملفات الشائكة بينها وبين الغرب، أو في نقاط الاحتكاك الإقليمي بينها وبين أتباع واشنطن في المنطقة، وهنا تتشابك على نحو معقد أزمات سوريا ومضيق هرمز والعراق ولبنان واليمن والصراع مع إسرائيل. هذا التعقيد يفرض على اللاعبين الأساسيين القيام بحسابات دقيقة ومتواصلة، حول مستوى التوتر والحدّ الذي يمكن معه انفلات المواجهة، إلا أنّ مستوى التعقيد وعمق التحوّلات وسرعتها، وتداخل الجوانب المنطقية بالانفعالات المذهبية والتاريخية، كلّها تنتج مخاطر الحسابات الخاطئة التي قد تؤدي إلى حرب مدمرة. صحيح أنّ الضجيج هو في هرمز، إلا أنّ الكباش في سوريا، أو قل الدخان في هرمز فيما النار في سوريا، عسى أن يدرك المعنيون ذلك سريعاً.
* كاتب لبناني
الأخبار