صفحات سوريةنجاتي طيّارة

النصر والهزيمة في حمص/ نجاتي طيّارة

 

تصدرت أخبار خروج المحاصرين من حمص القديمة أحداث الأسبوع الماضي منذ يوم 8 أيار/مايو الجاري، لتسجل نصراً عسكرياً، طالما انتظره النظام، ورفعته دعايته مع نفر من المحللين إلى علامة فاصلة بين مرحلتين في تاريخ الثورة السورية، على نمط ما قبل حمص وما بعدها.

تمثل ذلك الانتصار بإنهاء رمزية عاصمة الثورة، وفرض سيطرة النظام على أحياء حمص القديمة التي كان قد أحكم حصارها منذ نحو سنتين، وتابع، بعنف غير مسبوق، تدمير معظم أبنيتها وأحيائها ومساجدها وكنائسها. ووفق اتفاق حمص، انسحب من الحصار حوالى 1820 سورياً، لم يكن بينهم أي أجنبي، ومعظمهم من شباب حمص، فضلاً عن 12 عائلة و72 عاملاً صحياً، وقد فرضوا، عبر مفاوضيهم، خروجاً كريماً لهم، كان من دلالاته على الأقل، خروجهم بسلاحهم الفردي، وضمن حافلات ركاب، إلى مناطق لا تسيطر عليها قوات النظام وشبيحته في شمالي حمص، ولا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات عن أحيائهم، ولم تكن تكلف أكثر من ربع ساعة انتقال بالسيارة في ظروف ما قبل الثورة!

هكذا، يكون النظام قد انتصر عسكرياً على بضعة كيلومترات مربعة من الركام في قلب حمص القديمة التي أمعن في تدميرها، لكنه لم ينتصر على إرادة أولئك الشبان، الذين التحقوا بزملائهم من وحدات الثوار، التي تتابع المقاومة، وتتبادل الحواجز والحصار مع جيش النظام وشبيحته، في كل مكان من سورية. بذلك، تتبين هشاشة فكرة المرحلة الفاصلة بين ما قبل حمص وما بعدها، فضلاً عن المفارقة بين النتائج العسكرية والسياسية للحدث، بخلاف المعهود في التحليلات الكلاسيكية لتاريخ الثورات والصراعات!

الانتصار العسكري للنظام في حمص، والناتج عن الحصار الشامل والاستخدام المفرط للقوة التدميرية في حمص القديمة، والذي تشهد عليه صور فاقت، برعبها وفظاعتها، صور بعض مدن أوروبا في الحرب العالمية الثانية، لم يؤد، كما هو مألوف، إلى استسلام المقاتلين ورفعهم الراية البيضاء. بل على العكس، أدى إلى الاعتراف بهم وبزملائهم طرفاً سياسياً، والاعتراف بحقهم وحريتهم في حمل السلاح، ومتابعة القتال ضد النظام، ومن نقاط أخرى حول مدينة حمص بالذات! وذلك ما يشير إلى تراجعات سياسية للنظام من جهة، فضلاً عن انكشاف ادعاءات سيادته الوطنية من جهة أخرى، مع بروز دور المفاوضين الإيرانيين والروس في التوصل إلى اتفاق حمص وتنفيذه.

هو اتفاق كان قد بدأ مشروعه بعد فشل مؤتمر جنيف 2، وبقي متعثراً، طوال الأشهر الماضية، بين السماح بخروج المدنيين، برعاية ممثلي البعثة الدولية للأمم المتحدة، وما تبعه من بدء الوساطات والمفاوضات التي رافقتها تسويات لمقاتلين مترددين وذوي أوضاع فردية، وتشدد قاده شبيحة النظام، وطالبوا فيه باستسلام كامل للمقاتلين “الإرهابيين”، وتتوج أخيراً بخطفهم أمين الحلواني أبرز الوسطاء. وهو تعثر عكس البنية الجوهرية للنظام، والتي عجزت بطبيعتها عن استثمار الحل السياسي، فلجأت تكراراً إلى استخدام كل الأشكال الهمجية من القصف التدميري والتجويع، وهي لا تشرّف تاريخ مواجهة أي نظام مع عدوه، فكيف بهما مع شعبه؟

” استقالة الأخضر الإبراهيمي، بعد أيام من تنفيذ اتفاق حمص، تؤكد فشل الحل السياسي الذي قامت من أجله بعثته، كما فشلت قبله بعثة كوفي عنان ولجنة جامعة الدول العربية. وذلك طالما بقي الحل السياسي المطروح مجرد نيات طيبة، لم تقم حتى اليوم، وفعلياً، سوى تبليط الطريق إلى جهنم”

لكن، ما حدث في الأسابيع الأخيرة ما قبل الاتفاق، من نتائج السيارات المتفجرة التي تسببت في ارتفاع عدد الضحايا في أحياء الزهراء وجب الجندلي، إلى جانب انطلاق الردود الصاروخية على الأحياء الموالية، أشار إلى احتمال انفلات المواجهة إلى عنف شاملٍ لا يبقي ولا يذر! ترافق ذلك مع بروز الدور الإيراني والروسي، وتدخله المباشر في إنضاج الاتفاق، وهو دور تمكّن، من ممارسة السياسة التي تقبل المرونة والتوسطات بطبيعتها، ضماناً لمصالح استراتيجية، وتقديرات وازنة لأدوار وعنفٍ كان متوقعاً له أن ينفلت كلياً، فتحقق أخيراً التوصل إلى اتفاق التبادل في حمص، وبرز فيه من طرف المقاتلين في حمص القديمة دور لواء الحق، الشريك القوي في تكوين الجبهة الإسلامية التي ضمنت من جهتها تقديم التبادل، كما هو معروف.

بذلك، لم يكن الانتصار العسكري المعلن للنظام أكثر من تظهير لسيطرة عسكرية، تحولت في ظله إلى عملية نهب لاحق وتعفيش (مصطلح جديد يدل على نهب العفش والأثاث) لأحياء بقيت محاصرة حصاراً مطبقاً حوالى السنتين، وصمد مقاتلوها صموداً أسطورياً، ثم خرجوا، أخيراً رافعي الرأس وفارغي الأيدي، إلا من سلاحهم الفردي، وعازمين على العودة. كما لم تكن العودة ممكنة إلى هذا الاتفاق، وانتشاله من تعثره، واستعادة السياسة في التوصل إليه، لولا نضج العوامل العسكرية ووضوح آفاقها. حيث استقرت موازين القوى وحدودها بين النظام والمحاصرين، بعد كل تلك الفترة من الحصار، وبينما شكل الصمود البطولي للمحاصرين فضيحة مستمرة للنظام، برزت مصلحة استراتيجية للحليفين الإيراني والروسي، في ممارسة السياسة، وتحقيق التبادل الذي يبرر دورهما المزعوم حماةً للمخطوفين وللأقليات في قريتي “نبل” و”الزهراء”. في حين فشلت المعارضة وقواها في جميع محاولات مساعدة المحاصرين الذين لم يبق أمامهم سوى الموت جوعاً ومرضاً، وعلى الرغم من ذلك، كانوا مستعدين للتراجع عن الانسحاب حتى في اللحظة الأخيرة، فيما لو توفرت أي محاولة جدية لدعمهم وفك الحصار عنهم، بحسب ما أعلن ذلك قائد لواء الحق “أبو راتب” على صفحته.

بالنتيجة، هو انتصار عسكري محدود، لنظامٍ مازال الوضع الدولي يسمح له بالسيطرة على الجو، ويغطي مدّه بالسلاح والتدخل الكثيف والعلني لحلفائه، بينما يتلاعب بتسليح الثوار والمنظمات المشبوهة بينهم ضمن استراتيجية استنزاف القوى وإدارة الأزمات لا أكثر. لكنه حقاً، وفي المقابل، هزيمة للمعارضة السورية وقواها العديدة والمتناثرة، والتي لم تستطع، حتى اليوم، أن توحّد قيادتها وتكّون جيشها الوطني الحر حقاً!

من جهة أخرى، أتت استقالة المبعوث العربي والدولي، الأخضر الإبراهيمي، بعد أيام من تنفيذ اتفاق حمص، لتؤكد فشل الحل السياسي الذي قامت من أجله بعثته، كما فشلت قبله كل من بعثة كوفي عنان ولجنة جامعة الدول العربية. وذلك طالما بقي الحل السياسي المطروح مجرد نيات طيبة، لم تقم حتى اليوم، وفعلياً، سوى تبليط الطريق إلى جهنم، وهو أقل وصف يستحقه ما حصل ويحصل في سورية. ولا بد أن تأثيرات ذلك ستمتد وتشمل كل ما حولها، ما دامت الجهود المبذولة من أجل الحل السياسي لا تعدو كونها أكثر من كلام غائم، وخارج أي تغيير لموازين القوى والوقائع.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى