النظام السوري إذ يسلم نفسه ضحية لمكر التاريخ
فراس قصاص
لعل التعقيد الذي أصاب مسار الأحداث في سورية ، و ارتفاع منسوب العنف فيها إلى حدود غير مسبوقة في الأيام الأخيرة ، يظهر بوضوح الثقة المطلقة التي يخلعها النظام السوري على القمع بوصفه أداة مركزية في تعاطيه مع المجتمع السوري و معالجته لشؤونه. إصرار ذلك النظام على اللجوء إلى ضخ المزيد من جرعات العنف في مواجهة الاحتجاجات السورية السلمية و ارتفاع أعداد الضحايا الذين يسقطون جراء ذلك ،يكشف أنه لم يكن في وارد فقدانه الثقة بالبطش و إرهاب الناس و قمعهم ، و ذلك رغم فشل الحل القمعي في منع الاحتجاجات من الاتساع و من تغطيتها لمناطق و مدن جديدة يوما بعد يوم .
فدوام تربع النظام السوري على عرش السلطة في سورية لمدة تزيد عن أربعين عاما عبر توسله الغلبة و القمع وحدهما مصدرا للشرعية التي يتمتع بها ، شرعية الأمر الواقع ،و إزمان الصبغة التي تعودها و اعتمدها للعلاقة بين السلطة و المجتمع في سورية ، حالا دون أن يعي التقلص الحاد الذي تعرضت له شرعية الأنظمة السياسية القائمة على العنف و القمع، ليس فقط في حقل القيم والأعراف السياسية التي سادت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية و إنما في قدرة هذه الأنظمة تاليا على الاستمرار في الواقع الموضوعي الذي ضعفت فيه فعالية وسائل العنف و القهر أسلوبا لتكريس السلطة و الهيمنة ، سيما و قد تغيرت الإحداثيات العلائقية و التواصلية و الرغائبية للإنسان في كل المجتمعات الإنسانية بسبب التقدم التقني الذي حول العالم إلى قرية صغيرة و منح المعلومة قدرة سحرية تعبر فيها كل الحدود في لحظات ولادتها الأولى . كل ذلك سلب العنف في هذا النوع من الاستخدام جدواه التي كانت إلى حد قريب شبه مطلقة ، هذا إن لم يجعل له آثارا ترتد على من يلجأ إليه وبالا و ارتكاسا .
لهذا تميل هذه الأسطر إلى القول بأن التطورات الأخيرة التي تمثلت باقتحام الجيش الخاضع للنظام السوري و معه أجهزة الأمن و الجماعات المسلحة التي يطلق عليها اسم )الشبيحة( لمدينتي حماه و دير الزور و لريف ادلب و منطقة الحولة و معرة النعمان و اللاذقية ،إنما أدخلت الانتفاضة السلمية في سورية مرحلة جديدة ، مرحلة متقدمة على المسار الواثق و الهادف إلى إسقاط الاستبداد و القضاء نهائيا على تسيده للحال السوري . لقد أسهم قتل النظام السوري للمئات و جرحه و اعتقاله للآلاف أثناء عملياته تلك و خلال أيام قليلة في إثارة ردود أفعال عربية و إقليمية و دولية غاضبة و منددة ، دفعت مجلس الأمن بعد امتناع صمد عدة أشهر، بسبب من الموقف الروسي و الصيني ، إلى تبني قرار يدين فيه النظام السوري و يدعوه إلى الكف عن اللجوء إلى العنف ضد المتظاهرين في سورية . الموقف العربي بدءا من الجامعة العربية التي طال صمتها و صولا إلى دول مجلس التعاون الخليجي بدأ في التغير إن لم يكن في الانعطاف ، و الأهم من ذلك كله هو الغضب الشعبي السوري الذي بات قريبا من الانفجار في المدن الرئيسية التي لم تشهد كثافة في حركة الاحتجاجات ، و الذي إن حصل و تدل كل المؤشرات أنه قريب الحصول سيزيد من إحكام الخناق على النظام في سورية و يجعله في مواجهة الانهيار الحتمي و التفكك .و كأن النظام السوري يسلم نفسه ضحية جديدة لمكر التاريخ .
مكر التاريخ مقولة هيغلية تعتبر احد آليات الوصول الحتمي للتاريخ إلى نهايته وفقا لهيغل الفيلسوف المثالي الألماني الأشهر ، يتوافق حصولها حينما يرى بعض الفاعلين السائدين في واقع ما أن الحفاظ على هذا الواقع و تعطيل حركة التاريخ يتطلب معالجة على نحو محدد ، لكن الذي يحصل عند تطبيق هذه المعالجة هو سير في الاتجاه المعاكس لما أريد لها ، أي أنها تفيد بدلا من المحافظة على الواقع التسريع في تجاوزه وصولا إلى نهاية التاريخ ، والتي تتمثل بحسب هيغل في الدولة الليبرالية الديمقراطية.فما يحدث في هذه الحالة أن التاريخ (المطلق) يضلل ( بمكره الذي يخفي حتميته ) من يريد أن يعيق حركته ، ليستخدمه أداة تسرع من تحقيقه إرادته في الوصول إلى نهايته . ما يقدم النظام السوري عليه منذ بداية الاحتجاجات السورية ثم على وجه الخصوص في الأيام الأخيرة يجد تجسيدا و تمثيلا له في المقولة السابقة . فما الذي أفاد النظام السوري لجوءه إلى القمع منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سورية ؟ و ما الذي أدى إليه رفعه لوتيرة قمعه وبالتالي زيادة الضحايا من الأبرياء المدنيين جراء ذلك ؟ ، ما الذي أضافه إصرار النظام على المعالجة الأمنية العنفية إلى وضعه الحالي سوى تسجيله للمزيد من الغضب و النقمة الشعبية السورية ضده ، و الدفع بنفسه أكثر فأكثر ليكون تحت ضغط عربي و إقليمي و دولي يبدأ عزلة و لا يعرف كيف ينتهي و إلى أين يؤول. هل يعني ذلك إلا استعجالا من النظام على مصيره المأساوي ، و ذهابه ضحية لمكر التاريخ الذي تحركت إرادته في سورية و المنطقة .
‘ كاتب و ناشط سوري برلين
القدس العربي