النظام السوري بين بلاغة الإصلاح ومواجهة التغيير
محمود زعرور
فرضت أيام الثورة السورية التي انطلقت شرارتها من مدينة درعا، وشملت مدناً وبلدات عديدة، في معظم أنحاء سوريا، منطقاً جديداً في الواقع السوري، مكن كل المهتمين والمراقبين للشأن السوري من رؤية الدلالات الرئيسية لهذا التحرك غير المسبوق على صعيد مؤشر الرفض الشعبي العام لنظام الاستبداد الذي هيمن على الحياة العامة، حيث تم
الانحياز الواضح لدى جيل الشباب لشعار المطالبة بالحرية، وكذلك نهوض فئات اجتماعية عريضة ومتعددة، وهي ترفع سقف الاهتمام المباشر بقضايا التغيير الديمقراطي.
لقد كسر الشعب السوري جدار الخوف الذي دأب نظام القمع على ترسيخه عبر نهوج وسياسات أدت إلى إفقار الحياة السياسية، وتهميش قضايا الناس، وسطوة الفساد، والإذلال الذي مس الوجدان والروح، والاستمرار بمبدأ التمييز الاجتماعي والعرقي، من أجل الهيمنة، وتعطيل ممكنات التقدم.
لكن نجاحات إرادة كل من الشعب التونسي والمصري، التي تمثلت في دحر نظام الاستبداد، والبدء في مغامرة بناء الدولة الحرة، والديمقراطية، حيث انخراط عموم الشعب في بناء دولة المواطنة، الحديثة والعصرية، وكذلك انتفاضة الشعب الليبي واليمني، كل ذلك مد الشعب السوري بطاقة إضافية، انضافت إلى روحه الوثابة التي لم تتمكن أدوات القهر من إسكاتها.
لقد لجأ النظام السوري في فترات مختلفة إلى بلاغة الإصلاح بدلآ من صنعه، وهي
واحدة من أكثر الطرق تهافتاً، فالثرثرة الدائمة، الفارغة من أي معنى حول أمر ما، لا يعني أبداً أنك في وارد إنجازه، وقد صبر الشعب السوري على ذلك طويلآ، رغبة منه أن ينحي جانباً بعض الأثمان الباهظة للتغيير.
حدث ذلك منذ بداية تسلم بشار الأسد الحكم، وانطلاق وعود ( التطوير والتحديث )، التي تجلت بقمع ربيع دمشق، وكذلك انتفاضة السوريين الأكراد.
ثم ظهرت ( مشاريع قوانين ) و ( لجان ) من أجل ( دراسة ) بعض ( الإجراءات ) في مؤتمر حزب البعث عام 2005، عرف منها حالة الطوارئ، قانون الأحزاب، ..الخ، فتمت ترجمتها بجولة جديدة من الاعتقالات، عبر سياسة قوننة القمع.
ومجدداً، وبعد المجازر التي طالت شباب الانتفاضة السورية في مدينة درعا واللاذقية، وفي مختلف المناطق، تم اللجوء، أيضاً، وأيضاً، إلى البلاغة السقيمة نفسها، مرة على لسان المستشارة الإعلامية بثينة شعبان، ومرة ثانية بتصريحات من النائب فاروق الشرع، فتم الحديث عن( إجراءات فورية )، و ( خطوات هامة ستسعد السوريين).
وقد توج ذلك كله بخطاب الأسد الذي لم يحد عن عاداته الأليفة في الكلام.. والكلام فقط، لكنه هذه المرة الكلام الذي لا يعني شيئاً البتة، من قبيل ( من واجبنا أن نقدم للشعب السوري الأفضل وليس الأسرع، نحن نسرع ولا نتسرع )، (؟!)، وكذلك ( لو أردنا أن نقول إننا لا نريد الإصلاح نقول بكل بساطة لا نستطيع أن نبقى دون إصلاح.. بشكل طبيعي البقاء دون إصلاح هو مدمر للبلد والتحدي الأساسي هو أي إصلاح نريد.. هنا البراعة التي سنثبتها كسوريين عندما نبدأ النقاش في القوانين المطروحة..).
إن مجرد طرح سؤال من قبيل ( أي إصلاح نريد ) وأيضاً طريقة التأجيل التي لا تتوقف مثل عبارة ( عندما نبدأ النقاش ) يفسر غياب أي تناول جدي لصورة الأزمة التي تمر بها البلاد منذ سنوات، وهي امتداد لأزمة النظام الأحادي نفسه، التي قتلت الحياة العامة في سوريا منذ عقود، ولكن بأشكال ومظاهر مختلفة.
لكن استمرار النظام السوري بأساليب إذلال السوريين عبر ( المسيرات العفوية ) والتي تحاول أن تقدم صورة بائسة للناس تتلخص بالهتافات، والدم السوري الذي أريق في ساحات المدن، لم يزل حاراً، يقدم للجميع الدليل تلو الآخر بأن هذا النظام فاقد لأي جدية، وما من أحد ينتظر منه شيئاً ذا معنى.
وفي تكرار للأمثولة الفاشلة نفسها، والتي تمثلت بتهديد الشعب بالفتنة الطائفية والاقتتال، يتأكد الجميع بأن التغيير حتمي، وما من رجوع عن مطلب إسقاط نهج الاستبداد، والسعي نحو إقامة البديل الديمقراطي، المتجسد بدولة حرة، ديمقراطية، حديثة وعصرية، تحتضن قيم المواطنة، والمساواة لكل السوريين.
محمود زعرور – كاتب سوري مقيم في هولندا