النظام السوري والعبودية المستترة
سمير مطر
انتشرت تجارة الرق خلال التاريخ البشري في كل مكان تقريبا من كرتنا الأرضية حيث كان البشر متاع يتاجر به أو شيء يباع و يشرى ، استعبادالإنسان كنظام اجتماعي ، انتهى في جميع أنحاء العالم لكن بعض من آثاره لا يزال باقيا في بعض المجتمعات ، ليكون في المحصلة استمرارا لعبودية حقيقية و مباشرة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى مجرد وجودها على أي نحو عار على المجتمعات الحديثة و على العالم أجمع رغم جهوده و اتفاقياته المتعددة على حظر العبودية دوليا وإنسانيا.
العبودية مأزق عانت منه البشرية على مر قرون طويلة من تاريخها ، مأزق ترك ندوبا غير قابلة للشفاء في تجربة الإنسانية و الإنسان على هذا الكوكب ، و الكارثة الكبرى التي لا تزال تحيق بالإنسان ليس استمرار بعض من آثارها القاتلة و المتوحشة في بعض أصقاع العالم و حسب بل بشيوع نماذج من العبودية المستترة التي تتقنع بأشكال مختلفة و على نطاق أوسع بكثير من العبودية المباشرة ، العبودية المستترة المنتشرة لا تقتضي علاقة بين سيد و عبد بين مالك و مملوك وفقا للصورة المعروفة ، بقدر ما تضمن أن يتحول معها الإنسان في ظل علاقات معقدة تحركها إرادة الهيمنة إلى شيء ، لا إرادة له ، و لا قرار ، لا وزن و لا قيمة لكلمته و موقفه ، هذا إن استطاع التعبير عنهما أصلا . الأنظمة الاستبدادية مثالا لا حصرا تحول البشر إلى أشياء- عبيد على نحو ما و تسخر طاقاتهم لتحقيق أرباح مالية و سلطوية ، تجير بلادها لمصالحها ، تملك مصائر الناس و مقدرات حياتهم ، استعباد عام و شامل ، لا يوفر المالك حتى فرصة المتاجرة بنشاط عبيده و “زلاتهم” فكيف الحال بتحديهم إياه.
النظام السوري المستبد ، المثال الأكثر تعبيرا و تمثيلا لأنظمة الاستبداد الهمجية و القمعية ، استعبد المجتمع السوري طويلا ، جير عمله و كده لمصلحته و مصلحة فئة من لصوصه ، سرق مدخرات البلاد و حول سورية إلى مزرعة يملكها ، بنى الاقتصاد و شرع القوانين على قده و قياسه ، تاجر و قايض بكرامة الإنسان و إرادته طويلا ، اضطرالسوري أن يبيع موقفه و كرامته لقاء أن يعيش عيشة بيولوجية فقط . تشييء الإنسان السوري القاسي و إخضاع علاقاته الإنسانية و الاجتماعية و السياسية إلى علاقات الهيمنة المتوزعة من مركز ثقل السلطة إلى جميع أوصال البلاد سمة قهرت الإنسان السوري و دفعته صوب الانتفاضة على واقع قمعه و استعباده . أجهزة النظام السوري الأمنية التي تشكل عصب الهيمنة و القمع بالمجتمع ، استمرت في استثمار أكثر الأوضاع حرجا على النظام التي ترعرعت في أحضانه و قوي عودها تحت رعايته ، فصنعت من الاعتقال السياسي الذي تستخدمه قوى القمع لمواجهة الثورة السورية تجارة مربحة تدر الربح على القائمين عليها ، بحيث أصبح الاعتقال مهنة رئيسية لأزلام النظام وعصاباته ، مهنة توفر له التمويل الذي عز في هذه الأيام ، تموله وتمول أفراد العصابات الواقفة إلى جانبه فيضمن ولاءهم.
فبعد أن انتشرت أخبار حالات تعذيب المعتقلين في المراكز الأمنية غير المحدودة وأقبية المخابرات المظلمة و التي وصلت في بعض الأحيان درجة الموت تحت التعذيب كحادثة الطفل حمزة الخطيب مثالا لا حصرا ، الذي مثلت السلطات السورية بجثته ، دفع ذلك بالأهالي الذين يتم اعتقال احد من أبنائهم و ذويهم إلى التدخل لدى عصابات الأمن خوفا على سلامة أبنائهم وبناتهم فيذهبون إلى مراكز الاعتقال التي قد تكون مدرسة أو صالة رياضية أو ملعب و يتواصلون مع المسؤولين هناك و تبدأ المساومة على حرية أحبائهم ، حرية المعتقلين الذين اعتقلوا بسبب مشاركتهم في تظاهرات سلمية مطالبين بالحرية ، فإذا دفع الأهالي المبلغ المطلوب الذي يتراوح ما بين الخمسة آلاف والمائة ألف ليرة سورية، بحسب كل معتقل وعلاقته بالمعارضة أو كثافة مشاركته بالمظاهرات السلمية ، يخرج المعتقَل فوراً بعد إجباره على توقيع ورقة بعدم التظاهر مجددا بغض النظر إن كان قد تظاهر سابقا أو لا وكل من لا يدفع يبقى في السجن المدة التي يراها الضابط الأمني المسؤول مناسبة ، لقد لاحظ أزلام النظام مدى فاعلية هذه التجارة المربحة ، فعمدوا إلى تحويل قضية الاعتقالات إلى مصدر تمويلي لا ينضب طالما النظام مستمر في جثومه على صدر الواقع ، أخذوا يستثمرون أرباحها في دفع رواتب القتلة و المرتزقة و الشبيحة أو في رشى أعضاء حزبيين تابعين لحزب البعث وإرضائهم بالبقاء في الحزب و عدم الاعتراض على سياسة القتل التعذيب والاعتقالات التي يمارسها أزلام النظام بحق الشعب السوري.
لقد أعطى رئيس النظام السوري الضوء الأخضر لازدهار هذه التجارة حين أعلن عن أن عدد المطلوبين يبلغ ستين ألف ، فوفر بالإضافة إلى قمع الناس و ترويعهم و وردعهم عن المطالبة بحريتهم كنزا ثمينا للأجهزة الأمنية وشبيحة النظام يستدرون “الأرباح” من قمع الناس و أصوات صياحهم و قهرهم ، سيما و أنها في نهاية المطاف أرباح ستساهم في تمويل الحملة العسكرية والأمنية التي يقودها النظام على الشعب السوري الأعزل، تمويل أصبح النظام في أشد الحاجة إليه بعد أزمته المالية التي تسببت به الانتفاضة السورية و موضوع قمعها.
لم تتوقف تجارة الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري عند هذا الحد بل وصل الأمر إلى استغلال هذه الأجهزة لكل من يخاف من الاعتقال ويريد تفاديه بان رعت عمليات تهريب واسعة يقوم بها إما أمني أو متعاون مع الأمن ليعمل على إيصال العائلات والأشخاص الهاربين من قصف الجيش الأعمى لمدنهم و قراهم إلى الحدود المجاورة مقابل دفع مبلغ معين وصلت قيمته بضعة آلاف ليرة سورية ، هذا النوع من التهريب ليس جديدا على حالات الفساد في النظام السوري بل هو امتداد ولكن من نوع آخر لسياسة تهريب السلع التجارية والتموينية التي يقوم بها أزلام النظام منذ عقود على الحدود السورية الخارجية. الجديد فقط أن يصبح البشر الأبرياء مادته و سلعته.
هذا الحال يعانيه السوريون منذ عقود ، ففساد رئيس النظام السوري بشار الأسد ليس إلا امتدادا لفساد أبيه الذي علمه أنه يستطيع من خلال القوة و العنف أن يجبر الإنسان على أن يتحول إلى عبد أو شيء ، كل ما له علاقة به و بإنسانيته يصبح عرضة للمقايضة و البيع و الشراء ، حريته و كرامته و مواقفه و كلمته و خياراته ، كل ذلك لا يزال يحدث الآن في سورية إضافة إلى قتل المدنيين الأبرياء العزل دون وازع من خلق أو ضمير . فهل سيسكت العالم طويلا و هو يرى عار التوحش يضرب بالإنسانية و قيمها على هذا النحو في سورية …!؟