النظام السوري يحفر قبره بيده..
خلف علي الخلف
قبل أن تبدأ الاحتجاجات كان رهاني على أن سوريا تحتاج مجموعة محدودة من المحتجين بأي شعارات سياسية في أي بقعة من سوريا لتنفجر وتتسع الاحتجاجات بعدها.
كانت رؤيتي للأمر واضحة؛ النظام هو من سيقود الثورة ويجعلها تتصاعد عبر حماقته في معالجة أي احتجاج يحمل شعارات سياسية مهما كانت بسيطة ومنخفضة النبرة؛ فهو لا يتحمل سماع أي صوت يتدخل في “شؤونه” في إدارة البلاد التي حولها إلى “مزرعة” ولا يتحمل أي مطالب حتى لو كانت منأهالي معتقلين يريدون معرفة مصير أبنائهم.
لم يخيب النظام ظني؛ بل فاقت حماقته كل تصوراتي للأمر؛ واستخدم كل أوراقه المتوقعة مركزاً وبشكل أساسي على قتل المحتجين في إعادة إنتاج لسلعة قديمة استخدمها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات أسفرت عن جريمة إبادة منظمة في مدينة حماة؛ وقتل ممنهج في مدن أخرى.. أسفرت عن استتباب “جمهورية الخوف” التي استمرت لعقود وأسفرت عن آلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً، والمهجرين، بل أنه لم يتورع أثناء ذلك من قتل المساجين الذين هم في قبضته بشكل جماعي.
من يعرف تركيبة النظام في سوريا، الأمنية والعسكرية وحتى الإدارية يعرف أنه ليس لديه “عدة” أخرى سوى تلك التي استخدمها لمواجهة الاحتجاجات المتصاعدة وسيستمر في استخدامها حتى نهايته.
ففي الصف الأول من المسؤولين في أي موقع كانوا هناك مجموعة من معدومي الكفاءة والمؤهلات والتأهيل والخبرات و”الأخلاق” كذلك.
فرؤساء وعناصر “المخابرات” بفروعها المختلفة التي يوكل إليها إدارة البلاد تحت سقف “القيادة التاريخية” صعدوا إلى مواقعهم عبر إثبات ولائهم وإسكات أي “صوت” بسلاح البطش. لا يمتلكون خبرة أوتأهيل سوى هذا وهم يستخدمون الرصاص في مواجهة المحتجين ليس لأنه سلعة جربت سابقاً وأثبتت نجاحها؛ وليس لأن النظام نفسه يقوم على “فلسفة” العنف؛ بل لأنهم أيضا لا يعرفون غير هذا ولم يمر عليهم عبر وجودهم في “المؤسسة ” الأمنية، أي تصور مختلف.. وأي تغيير لهذا يعني عمليا حل هذه الفروع كلياً..
ضباط الجيش و”المؤسسة” العسكرية الذين لم يخوضوا قتالاً بعد “معركة إبادة حماة” في عام 1982؛ لم يتلقوا تدريبات ولا خبرات بعد انهيار “المنظومة السوفيتية” وهم مازالوا يقرأون من كتب مهترئة من تلك الحقبة؛ ونشرة صباحية تصدرها إدارة التوجيه المعنوي في “الجيش العربي السوري” تعيد فيها “خطابة” توقفت عند الستينات من القرن الماضي. فلا يمكن – والحال كهذه – أن نطلق على الجيش السوري تعبير “مؤسسة” على غرار “المؤسسة العسكرية المصرية” (مثلا) التي يتحول ضباطها إلى كتاب ومحللين في الشؤون العسكرية والسياسية بعد تقاعدهم.(هل سمع أحد منكم عن محلل عسكري سوري في كل فضائيات الدنيا؟)
الجيش السوري الذي قاد حقبة الانقلابات قبل حكم الأسد الأب تم تحويله بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل إلى “كيان رث” للقضاء على أي احتمال مهما كان ضئيلا لأي انقلاب؛ وكذلك أي دور وطني “محتمل” لهذا الجيش وتم تحويله إلى “قوات حفظ نظام” تمارس نفس “عقيدة” المخابرات بكافة فروعها؛ بل إنه ألحق إدارياً بشكل عملي بهذه المخابرات وهي التي تقوده تحت لواء “القيادة الحكيمة”
أيضا في سوريا لم يعد هناك “ساسة” بل لدينا موظفين عند المخابرات بدءا من نائب الرئيس إلى أصغر مسؤول، ومن يراقب الإداء الإعلامي لهم ولإعلامهم سيصاب بالفاجعة للرثاثة التي يقدمونها للعالم والتي تثير السخرية حتى من موالين للنظام لديهم حد أدنى من “العقل”.
إذن ما كان ممكنا لهذا النظام أن يقوم بأفضل مما قام به حتى الآن؛ بل ستتصاعد وتيرة القمع والقتل والاعتقالات في ظل صمت العالم عم يجري على الأرض، والتعتيم الإعلامي الذي أحكمه النظام على البلاد؛ والتواطئ الإعلامي من فضائيات “العرب”.. والحبكة الرديئة لقصة “العصابات المسلحة” التي أصبحت تثير غثيان حتى الأطفال..
إن “المخابرات” بإشراف عائلة الأسد والدائرة الضيقة المحيطة والتي تعد على أصابع اليدين، هي التي تقوم بتعيين موظفي السلطة بدءاً من عامل النظافة وحتى نائب الرئيس وإذا كانت هي بهذا المستوى من “التدني” فكيف لها أن تنتقي موظفين أكفاء؟
الجميع في هذا النظام يستخدم السلعة القديمة نفسها – البطش- إضافة لبهارات منتهية الصلاحية من الشعارات والكذب بصفاقة يحسدون عليها، لمقاومة الثورة السورية المتسعة. لكن النظام في هذا يتجاهل أنه قد مر ما يقارب 30 عاماً على مجزرة حماة، وفي أثنائها تغير العالم كله؛ لم يعد ممكناً إخفاء الجرائم حتى لو تواطأت معه كل وسائل إعلام العالم؛ هناك عالم الاعلام الجديد الذي فضحه وهو يعرف ذلك، لذا أصبح مجرد وجود “موبايل” بأيدي أحد المحتجين كافيا لقتله إن أمكن أو الهجوم عليه ومصادرته أو اعتقاله. وهو بهذا يريد إعادة انتاج “عدة” التعتيم التي نفعت قبل ثلاثة عقود.
إذن هذا النظام ليس فقط لا يعرف الإصلاح ولا أحد داخل هذا النظام من الرئيس إلى عنصر الأمن مؤهلا للقيام بإصلاحات؛ بل إنه بنيويا غير قابل للإصلاح وهو يعرف ذلك تماما ويعرف أن نتيجة أي إصلاح حقيقي هي تفكيك النظام كما حدث في “بيروسترويكا” غورباتشوف.
النظام يمضي قدما في جنون مسعور، يقتل المحتجين ثم يخرج الناس لتشييع الضحايا فيقوم بإطلاق النار عليهم في متوالية للقتل لايريد لها أن تنتهي لأن خياراته أصبحت ضيقة فهو أمام خيارات أحلاها مر:
– الاستمرار في قتل المحتجين وإعادة “مسلسل العصابات المسلحة” إثر كل مجزرة، وهو ما أثبت فشله، وأدى إلى ازدياد أعداد المحتجين والساخطين.. وسيؤدي إلى اتساع الاحتجاجات التي ستؤدي لا محالة إلى إسقاطه.
– تصعيد المجازر المتفرقة التي يقوم بها الآن إلى حرب إبادة على المدن التي تشهد احتجاجات متصلة لإرهاب بقية المدن وهو ما سيؤدي إلى تدخل العالم لإسقاطه
– السماح بالتظاهرالسلمي والتجمع وستخرج حينها حشود أكبر ستؤدي بالنهاية إلى النتيجة نفسها.
أما خيار الإصلاح الذي ينادي به “بعض العقلاء” فهو غير ممكن “بنيويا” وعملياً، فلا يمكن مكافحة الفساد بشكل حقيقي لأنه لا يمكن لعائلة الأسد أن تصادر أموالها، وأموال أقاربها وشركائها، المنهوبة على مدار عقود؛ والتي توحشت في العقد الأخير.
ولا يمكن أيضا تفكيك “مؤسسة” المخابرات الحاكمة ولا محاسبتها ومن يقودها هم أركان النظام وعظام رقبته..ولا يمكن طي ملف الاعتقال السياسي لأنه سيكون أمام ملف أكبر هو ملف الذين تم إبادتهم في السجون ويقدر عددهم بالألاف.
ولا يمكن “منح” الحريات الإعلامية والسياسية بعيدا عن سطوة “المخابرات” لأن جزء من ذلك هو حق التظاهر السلمي.. ولا يمكن أن يتم طي ملف المهجرين ويسمح بعودتهم لأنه بهذا سيدفع بوقود جديد لمعارضي النظام في الداخل.. ولا يمكن أن يقوم حتى بإصلاح إداري لأن ذلك سيؤدي إلى تسريح غالبية الموظفين التي عينتهم “المخابرات” لأنهم معدومو الكفاءة والتأهيل..
لا يمكن لهذا النظام أن يفعل شيء سوى ما يرتكبه الآن من حماقة وجنون مسعور وبطش تجعله يحفر قبره بيديه بزمن أسرع مما يتوقعه الجميع..
موقع جدار