“النظام العربي”.. دولة الثقب الأسود
نشرت مجلة “الكتب وجهات نظر” في عددها الأخير (آذار 2011)، والذي تأخر عن الصدور بسبب أحداث الثورة المصرية، تقريراً لعبدالوهاب الأفندي، كان قد كتبه كمقدمة لتقرير التنمية البشرية العربية عام 2004. لكن مقدمة الأفندي لم تنشر حينها. ومنها نقتطف:
يبدو من الصعب لأول وهلة الحديث عن ملامح مشتركة لنظم الحكم في العالم العربي، وذلك بسبب التنوع الكبير في الأنظمة القائمة التي تراوح بين الملكية المطلقة والجمهورية الثورية، ولا ننسى الراديكالية الإسلامية. ولكن مزيداً من التأمل يكشف عن تقارب مثير للاهتمام في بنية وأساليب نظم الحكم العربية، إضافة الى بروز ملامح بنية إقليمية متشابكة تشمل “تكاملاً” عربياً تعضد فيه الأنظمة بعضها بعضاً، مما يجعل من الممكن الحديث عن “نموذج عربي” للحكم له ملامح محددة تشترك فيها معظم الأنظمة، ويستند بدوره الى نظام إقليمي عربي يشكل بنيته السياسية التحتية.
يمكن أن نستبين الملامح العامة لهذا النموذج العربي الذي أطلق عليه البعض تسمية “الدولة التسلطية”. من تعليق حديث لصحافي وناشط عربي وصف فيه الحكم في بلده بأنه نظام تفتقد فيه الانتخابات النيابية الحرية والشفافية وتنتج مجلساً نيابياً من “لون واحد” كما تضيق فيه حرية الصحافة ومساحة العمل السياسي والحقوقي، ويستخدم فيه القضاء للتنكيل بالخصوم، ويكرس فيه الدستور وجود حكم “غير مقيد بزمن ولا خاضع لرقابة برلمان أو سلطة قضاء”. وفيه يصبح حتى الحزب الحاكم مجرد جهاز إداري يقوم عليه “موظفون بلا مشروع ولا صدقية”.
هذا النموذج يمكن أن نطلق عليه نموذج “دولة الثقب الأسود”، في إشارة للظاهرة الفلكية المعروفة لنجوم منطفئة تتكور على نفسها وتتحول الى حقل جاذبية جبار لا يستطيع حتى الضوء أن يفلت من إساره. فالدولة العربية الحديثة تقترب من هذا النموذج، حيث يشكل الجهاز التنفيذي “ثقباً أسود” يحول المجال الاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء. وعلى غرار الثقب الفلكي الأسود، فإن هذا الجهاز بدوره يتكور على نفسه ويضيق حتى يصبح في حجم رأس الإبرة، ويتداعى بالتالي الفضاء المحدود المتاح للحركة حوله حتى يتلاشى تماماً. ويكتسب هذا النموذج أهميته من كونه يجسد طموحات الأنظمة العربية الأخرى مثل الأردن التي تردد أن النية تتجه فيها نحو إعادة صياغة دور رئيس الوزراء “وتقليص بعض صلاحياته واعتماد آلية قريبة من نموذج (الوزير الأول) في المغرب وتونس حيث يكون دور رئيس الحكومة تنسيقياً وإدارياً بين جميع الوزراء ولا يتمتع بالدور الوطني الكلاسيكي في الملفات العامة”. هذا التفكير يلقي الضوء بوضوح على طبيعة نظم الحكم العربية، خصوصاً ضعف المؤسسية وعدم وضوح العلاقات حتى داخل الجهاز التنفيذي الذي يهيمن مركزياً على الحياة السياسية وكل أوجه الحياة الأخرى، ويهمش دور المؤسسات الأخرى مثل البرلمان، والاتجاه نحو تضييق الدائرة وتركيز القرار أكثر في الطبقات العليا لهذا الجهاز، الذي أصبح بدوره لا يجسد حتى الحد الأدنى من مواصفات الجهاز البيروقراطي الحديث (تحديد الأدوار، وتوزيع الصلاحيات وتفويض السلطات).
هذه المركزية المتزايدة في الجهاز التنفيذي نجدها مضمنة في النصوص الدستورية للدول المعنية، التي تكرس حق الملك أو الرئيس أو الأمير (أو مجلس قيادة الثورة) في التشريع، وتمنح رأس الدولة صلاحيات واسعة، باعتباره الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي ولمجلس الوزراء، وللقوات المسلحة والقضاء والخدمة العامة. وهو الذي يعين الوزراء والقضاء وكبار المسؤولين والضباط ويملك صلاحية عزلهم، هو الذي يدعو البرلمان (إن وجد) للانعقاد ويملك صلاحية حلّه. وتكرّس القوانين كذلك الهيمنة المركزية على السلطات المحلية، حيث يقوم الحاكم بتعيين المحافظين والولاة ويكون هؤلاء مسؤولين أمامه وليس أمام المواطنين وتتعقد الأوضاع أكثر في وجود أقليات عرقية ودينية تعاني من المركزية السياسية والإدارية التي تعوق تعبيرها عن ذاتها وتظهر مركزية الجهاز التنفيذي كذلك في توسع الجهاز البيروقراطي، وزيادة تدخل الدولة في الاقتصاد، وتعاظم نصيب الانفاق الحكومي من الناتج القومي، وخاصة الانفاق على الأجهزة الأمنية والعسكرية. ومن اللافت ان هذا الاتجاه يسود في الدول الراديكالية التي انتهجت سياسة الاقتصاد الموجه وتلك المحافظة التي اعلنت منذ البداية تمسكها باقتصاد السوق في آن واحد.
ولكن كثيراً من الحكومات لا تكتفي بهذه الصلاحيات الدستورية والادارية الواسعة، حيث تستعين بقوانين الطواريء التي ظلت سارية في بعض الدول لأكثر من اربعين عاماً، بينما نجد بعض الدول التي ظلت تحكم من دون دستور منذ نشأتها، عندما قررت سن قوانين أساسية فانها لم تكرس فقط السلطات المطلقة التي كان الحاكم يتمتع بها في غياب حكم القانون، بل اضافت له سلطات لم تكن له في العرف السائد من قبل، مثل سلطة اختيار ولي العهد وخلعه، وهي صلاحيات لم يكن الحاكم يتمتع بها منفرداً من قبل.
اضافة الى الصلاحيات المطلقة المركزة في يد الجهاز التنفيذي (وعملياً في يد الرئيس أو الملك).
وتعتبر الآلية الأهم في تعزيز سلطة الجهاز التنفيذي هي أجهزة المخابرات، حيث توجد في كل بلد عربي أجهزة مخابرات متعددة، تختلف عن ثميلاتها في الدول الديموقراطية في أنها تتمتع بصلاحيات تنفيذية اضافة الى صلاحياتها في جمع المعلومات الاستخبارية، كما انها ليست مسؤولة أمام الأجهزة التشريعية أو الرأي العام. وتعتبر المخابرات هي لب الجهاز الحاكم في كل الدول العربية تقريباً، وتخضع مباشرة لهيمنة الرئيس أو الملك، وتملك صلاحيات تفوق صلاحيات اي جهاز آخر. ويمتلك الجهاز الأمني موارد هائلة، ويتدخل في كافة صلاحيات الجهاز التنفيذي،خاصة فيما يتعلق بقرارات التوظيف والقرارات ذات الطابع السياسي، بحيث اصبح من الشائع اطلاق صفة “دولة المخابرات” على الدولة العربية المعاصرة.
ولعل أهم مميزات “دولة الثقب الأسود: هو سعيها الدؤوب الى تقويض الهياكل والمؤسسات، بما فيها، وربما على رأسها، تلك الهياكل التي كانت سلم القيادة للوصول الى السلطة، سواء أكانت هذه الجيش، أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة أو الأسرة، لأن الحكم الاستبدادي بطبيعته لا يقبل المشاركة (ويسعى ل “الانفراد بالمجد” حسب تعبير ابن خلدون)، فقد شهدت معظم الدول العربية صراعات تقع أحياناً داخل الأسرة الواحدة، وتنتهي بفرض هيمنة شخص واحد على جهاز السلطة.
يمكن اذن ان نخلص الى ان أهم خاصية ل “دولة الثقب الأسود” هي اعتمادها على “التهميش الاستراتيجي” لكل المؤسسات والقوى الاجتماعية، بما في ذلك مؤسسات الدولة، والتسييس الكامل للفضاء الاجتماعي، مقابل تخصيص الدولة. بمعنى آخر في حين تحجب كل القوى الاجتماعية من اي تأثير فاعل على الدولة، فان الدولة تتدخل في كل شيء ولا تسمح بأي تحرك اجتماعي مستقل يهدد احتكارها للسلطة. ولأن الحكم يهيمن مباشرة على مفاصل الاقتصاد، ويستخدم الارهاب ضد كل من تسول له نفسه استخدام امكانياته الاقتصادية ضد الحكم، فان الحاكم لا يضطر الى الدخول في مساومات مع البرجوازية أو غيرها لضمان استمرارية الحكم، خاصة ان البرجوازية تعتمد في الغالب اعتماداً كاملاً على الدولة . وفي ما يتعلق بالنخبة فان الدولة تستدم سلاح التخيير بين القصر أو القبر (او السجن والمنفى)، اي اما ان تكون موالياً فيغدق عليك، أو مخالفاً فتقمع، مما يجعل تصرف الغالبية مفهوماً أمام هذا الوضع.
وهناك عامل آخر لم تتم دراسته بعمق كاف بعد، لعب دوراً محورياً في تهميش دور النخبة الاصلاحي، الا وهو عامل الهجرة، خاصة الهجرة بين الدول العربية، فقد لعبت الهجرة دوراً مزدوجاً في تهميش النخبة، أولاً بايجاد بدائل شخصية عن الاصلاح، حيث من الأسهل للمهني أو الأكاديمي الهجرة الى الغرب أو لدول النفط ليعيش حياة مرفهة ومليئة بالاشباع المهني، بعيداً عن الفقر والفساد الضارب بأطنابه في وطنه.