النظام يهرب إلى الأمام ودمشق تسأل عن الرئيس
لا منتصر بعد أي جولة عنف. البعض في الحكم قال إنّ الحوار مع المعارضة السورية أفضل بعد الإمساك بالأرض. لكن الصورة اليوم معاكسة. فيصبح السؤال: هل تقوم قريباً طاولة للحوار الوطني في سوريا؟
غسان سعود
غير صحيح أن المحتجين في المعضمية ـــــ ضاحية دمشق ـــــ سلفيّون. هم أصحاب حقوق استملكت الدولة 81 من أراضي منطقتهم؛ ولم يجدوا ـــــ تماماً كأصحاب الحقوق في وسط بيروت ـــــ قضاءً مستقلاً يلجأون إليه أو مرجعيات تنصفهم. وغير صحيح أن المحتجين في داريا ـــــ ضاحية دمشق ـــــ متآمرون أو متأمركون؛ هم مواطنون استملكت السلطة 90% من أراضي بلدتهم. وغير صحيح أن المحتجّين في عدرا ـــــ ضاحية دمشق ـــــ مدسوسون. هم شهود على استملاك الدولة أراضيهم بمبلغ تسع عشرة ليرة سورية للمتر، وبيع المتر لاحقاً بتسعة عشر ألف ليرة سورية.
في المعضمية قبل أسبوعين: غير صحيح أن المحتجين هتفوا لإسقاط النظام؛ هم هتفوا مطالبين باستعادة كل ما استملكته الدولة، من حقهم في انتخاب ممثّليهم على مختلف المستويات، مروراً بكرامتهم التي يهينها متى شاء عنصر أمني، وصولاً إلى أراضيهم. وغير صحيح أن المحتجين عزفوا على الوتر المذهبيّ؛ من يُفترض التحقيق معهم بهذه التهمة هم الذين عوّضوا على أصحاب المحال التجارية غير المرخّصة بمبلغ مليونَيْ ليرة سورية، فيما عوّضوا على أصحاب الأرض التي شُيّدت فوقها المحال بمبلغ مئة وخمسين ليرة سورية فقط. لكن ثمة أزمة ولا وقت لتمييز الصحيح من غير الصحيح.
المبضع والورم
وضعت السلطة جانباً المبدأ السياسي القائل: خصمك تكسبه، تحيّده أو تكسره. تجاهلت الكسب والتحييد، واختارت الكسر. وحتى في ذلك، لم تراعِ السلطة مبدأ تقسيم الخصم لتسهيل كسره. لا بل عمدت إلى وضع المحتجّين ـــــ صالحهم وطالحهم ـــــ في سلّة واحدة: سلفيون ـــــ مدسوسون ـــــ عملاء الصهاينة والأميركيين. ومن مشكلة مفترضة مع سلفيّ أو محرِّض مذهبيّ إلى مشكلة مع عائلته وأقربائه وحيّه نتيجة «استراتيجية الحصار». هناك من يعتقد أن الاعتقال العشوائي يفيد، هناك من يعتقد أنّ تأنيب مؤيّد للسلطة أو محايد تجاهها، سيردعه مستقبلاً عن معاداة السلطة ولن يحوّله إلى خصم لها.
تقول السلطة إن الحل في العمليات الجراحية لاستئصال الأورام السلفية. تمرّ ستّة أسابيع على عملية درعا، المبضع مستمرّ وانتشار الورم كذلك. تمرّ أربعة أسابيع على حمص وبانياس، المبضع مستمر وانتشار الورم كذلك. كل خميس تقول السلطة: غداً يوم حاسم. وجمعة تلو الجمعة، تزداد رقعة الاحتجاج. لهاث المحتجّين في الأحياء المحيطة بدمشق يُسمع في المدينة التي يُمنع دخولها يوم الجمعة من الساعة الثالثة فجراً حتى الواحدة ظهراً. يتّضح أن «المريض» الذي أدخل غرفة العمليات العسكرية بتسرّع، قبل إجراء الفحوص الضرورية وتحديد مكمن المرض وغيرها، لا يتماثل للشفاء، وليس بقريب يوم الجمعة الذي ترتاح فيه السلطة. رغم ذلك، تستمرّ المكابرة. الشارع في الشارع، العنف مستمرّ، ولا حل سياسيّاً يلوح في الأفق.
أحرقت السلطة التمييز الشعبيّ بين الرئيس والنظام، رمت خلفها توصيات الفرنسيين والأتراك الذين مثّلوا مع قطر معبراً لخروج دمشق من العزلة الدولية. وحّدت بالنار خصومها رغم كثرة تناقضاتهم، والآن تحرق فرصة الحوار السياسيّ بوصفه مدخلاً إلى الحل عبر تمييعه. ويقول المعارض السوري لؤي حسين الذي التقى مستشارة الرئيس بثينة شعبان إن السلطة تقصد بالحوار، الاستماع إلى وجهة نظر مغايرة لوجهة نظرها. وبالتالي، «لم يبدأ بعد حوار بالمعنى الفعلي للكلمة، أي بحث مشترك عن حل، ولا حوار بالمعنى الشكلي للكلمة نتيجة عدم توجيه السلطة دعوة رسمية للمتحاورين ورفضها تسجيل محضر لنقاش لا يحصل».
وبحسب معلومات «الأخبار»، هناك نقاش داخل السلطة في إمكان تنظيم لقاء حواري كبير يشارك فيه فعاليات متعددة لينتج منه توصيات تأخذ السلطة السياسية جدياً بها، لكن التفاصيل لم تتبلور بعد. من اعتقد نفسه آمناً من العاصفة التي هبّت على المنطقة، يعتقد أن الوقت لمصلحته. تسير «الفتنة» بسرعة الصاروخ والعلاج بسرعة السلحفاة.
قلق دمشق
يضغط القلق في دمشق الخائفة على مستقبلها والبلاد، حتى تكاد الخشية تحتكر المشهد الدمشقيّ كله. لكن لا، ليس بالقلق وحده يتزيّن فصل الربيع الدمشقيّ. ففيما تتمسّك السلطة بالوقوف حيث كانت، يشرّع الشارع أبواب السياسة للمجتمع، يفتحه على مصراعيه: يُشغَل السوريون بالأحداث المتنقّلة بين مناطقهم عن كل شاغل، يتبادلون آراء متعدّدة لا رأياً واحداً، يعرضون ويحلّلون مستنتجين خلاصات متنوعة. يُسمع اليوم رأيان أو أكثر في سوريا، مهما كان الموضوع. النقاشات «زنكة زنكة»، التجار الذين يخافون على أموالهم والمكاسب التي حققوها في السنوات القليلة الماضية، يعكسون حال جزء من دمشق، تلك التي تمتلئ بأبناء الريف والمدن البعيدة؛ الدرعاويين والديريين واللاذقيين والألوف الآخرين النازحين مع همومهم والصورة الحقيقية (لا تلك التي تعرضها «الجزيرة» أو التلفزيون السوري) عمّا يحصل في بلداتهم. وهؤلاء هم أهل الشام الفعليون: عرق المدينة وصناع الزحمة في شوارعها ومدارسها وجوامعها وأسواقها وملاعبها ومقاهيها. هناك قلق نعم، لكن في موازاته هناك نقاشات تعيد إلى المدينة الروح: مندس أو غير مندس، سلفي أو غير سلفي، السلطة قادرة على الإصلاح أم عاجزة، رامي مخلوف فاسد أم ظاهرة اقتصادية تستحق الاحترام؟ مفردات التخوين كثيرة، لكن المدينة تناقش، تأخذ و… تعطي لأول مرة منذ أربعين عاماً.
دمشق ومدن أخرى تفتقد الرئيس بشار الأسد. مرت أسابيع ولم يفاجأ صاحب مطعم بحضوره فجأة لتناول «سندويش» شاورما، ولم تصادف مجموعة شباب مروره على دراجة هوائية، ولم يلتقِ به عمّال ليشرب الشاي وسطهم. بعيد أم قريب؟ لا أحد يعلم. يلتقي الرئيس الوفود، ويفترض أنه يكتشف التغيير في لهجة بعض الضيوف ومضمون كلامهم. دمشق ومدن أخرى تعلم أن حزب البعث وأجهزة الأمن تستمد قوتها من الرئيس الأسد لا العكس، ويعلم الجميع أن لا أحد يستطيع مساعدة الأسد أكثر من نفسه. والأرجح أن مصلحة الرئيس تتلاقى مع ما يعده شروطاً عليه. فبعد عجز الوسيلة القمعية عن حل المشكلة، تبدو استجابة النظام للمطالب الشعبية الأساسية أفضل الوسائل لسحب «إسقاط النظام» من التداول: تعددية حزبية تلهي المحتجين بعضهم ببعض وتسلّيهم ببرامج اقتصادية ومشاريع، فيما يحافظ النظام على قلب السلطة (الجيش والقضاء والأكثرية القادرة على تعديل الدستور) بعيداً عن التجاذبات. دمشق بما فيها من شعوب المدن السورية الأخرى تتّسم بالشاعرية والرهان الدائم على حل الأمور بالتي هي أحسن.
الأخبار