صفحات الثقافة

شعراء منسيّون: تحت مظلّة السوري محمّد الحريري/ منصف الوهايبي

 

 

في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، استمعت إلى محمّد الحريري في القيروان يقرأ قصيدته «المظلّة». وقد أثارت وقتها إعجابنا جميعا؛ وكان الرجل في غاية اللطف، ينشد وهو يهتزّ في أعطافه، ويدعونا إلى التصفيق (صورة من البحتري الشامي الآخر ابن منبج، على ما يروى من طريقته في الإنشاد). ولم أكن أعرف الرجل من قبل ولا سمعت به. ثمّ بلغني نبأ وفاته عام 1978 وأنا وقتها في مصراتة في ليبيا حيث كنت أدرّس الفرنسيّة. لم أنس الرجل ولا قصيدته، وقد سألت عنه بعض أصدقائي السوريّين، ورووا لي نوادر غير قليلة عنه. وأشادوا ببعض قصائده ممّا لا أعرفه. أمّا قصيدته هذه، وأنا أتمثّل هنا ببعضها، فنوع من اللعب عناصره المطر والريح والمرأة والشاعر (المتكلّم). وقد أدارها الشاعر على لفظة «الماء». والماء من الجاري المستعمل في شعر العرب، وفي المأثور من كلامهم. وهم يقولون «كلام كثير الماء» و»ما أكثر ماء شعر فلان» و»ماء الصّبابة» و»ماء الهوى»…

ونعرف من تاريخ الشعر العربي أنّ صورة «ماء الملام» للشامي العظيم أبي تمّام، ظلّت تتأرجّح بين الرّفض والقبول. فعابها ابن سنان واستدرك على الصولي والآمدي، وبيّن أنّ مقابلة اللّفظ باللّفظ لا تحسن في المواضع التي يعترض فيها القارئ فسادا في المعنى أو خللا في اللّفظ كهذه الاستعارة قال: «وليس يحسن بنا أن نقابل اللّفظ باللّفظ في موضع الكلام، قياسا على مقابلة اللّفظ باللّفظ في قوله تعالى «وجزاء سيّئة سيّئة مثلها»…والعلّة في الجميع واحدة وهو أنّ المجاز لا يقاس عليه…».

وظلّ القوم إذن يتجاذبون هذه الصّورة ويتنازعونها من دون أن تخدعهم بساطتها الظّاهرة. فقد عدّ ابن الأثير هذا «التّشبيه» «من التّشبيهات المتوسّطة التي لا تحمد ولا تذمّ. وهو قريب من وجه وبعيد من وجه «وعلّل سبب القرب بأنّ الملام مختصّ بالسّمع، لأنّه قول يعنّف به الملوم، فنقله أبوتمّام من حاسّة السّمع إلى حاسّة الذّوق». وذهب الشّهاب الخفاجي إلى أنّ بيت أبي تمام عِيبَ لأنّ العرب «تستعير في كلامها لكلّ ما يحسن منظره وموقعه ويعظم قدره ومحلّه فتقول ماء الوجه وماء الثياب وماء السّيف وماء الحياة وماء النّعيم…».

وذكر ابن سنان أنّ المراد بـ«الماء» في قولهم كلام كثير الماء وماء الشباب، وثوب له ماء، إنّما هو الرّونق والطّلاوة. وهاتان صفتان لا يوصف بهما «الملام» لأنّه مذموم مستقبح. وأوضح ذلك في تعليقه على قول يونس بن حبيب في تقديم الأخطل: «إن الأخطل أكثرهم ماء شعر»، فمثلما لا يحسن أن يقال: ما شربت أعذب من ماء هذا الثّوب، لا يجمل أن يقال: ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة»، لأنّ هذا القول مخصوص بحقيقة الماء، لا بماء هو مستعار له». و»حقيقة» الماء عند ابن سنان، في هذا السّياق، هي صفات أحبّوها في الماء مثل، الرّونق والطّلاوة والحسن والبهجة والإشراق والسّحر؛ وليس الماء في ذاته. ومن هذه الصّفات اشتقّوا صفات أحبّوها في الشّعر المستساغ مثل السّلاسة والسّهولة والانقياد واللّين.

إنّ لفظ «الماء»، في هذه القصيدة، هو من المأثور اللغوي، مثل ماء الوجه وماء الحسن وماء السيف، بل في أخرى لا يتبادر منها إلاّ الظّاهر بنفسه مثل ماء الذّهب وماء الفضّة وماء الورد وماء الزّهر، لفظ مموّه يلبّس المضاف إليه ويزخرفه ويزوّره؛ إذ يضفي عليه التّركيب سمات جديدة هي خلاف ما هو عليه. فلا يعود هذا الّلفظ يدلّ على ما وجد له أصل، ممّا ظنّوا أنها معاني الماء على الحقيقة، شأنه شأن لفظ «الدّمع» بسائر مشتقاته وتراكيبه مثل دمع الإناء: امتلأ ودمعة الكرم: الخمرة والمكان الدّامع: الذي يتحلّب منه الماء والدّمّاع: ما يسيل من الشّجرة إذا قطعت، أو الثّرى يتحلّب ندى، والدّمعان: القدح يمتلئ فيفيض… بما يغري بالقول إنّ بنية العربيّة في المطّرد من هذه الاستعمالات التواضعيّة، بنية مجازيّة، تؤكّد أن العربيّة لغة شاعرة من نفسها. ولا تفسير لذلك سوى أنّها كانت لغة المقدّس الشّعريّ في الجاهليّة، فالمقدّس الدّينيّ (القرآن).

على أنّ غياب بعض الدلالات، لا يستتبع القول بأنّ للماء عندهم حقيقة محدّدة، وأنّ دلالته لا تخرج عن الرّونق الذي ينسجم وحقيقته. فهذه الدّلالة إنّما مأتاها الشّعر وما استتبّ في مخيال العرب من رموز الماء «الرّائق الخالص الذي لم ينقلب في نفسه ولا عرض له ما يقلبه» بعبارة الجاحظ. ومن التّمحل أن نعدّها جمودا منهم على معنى الكلمة الوضعيّ؛ بل هي ليست المعنى الوضعيّ في أيّ من هذه الأبيات التي ساقوها احتجاجا لأبي تمّام أو عليه. إنّما هي جملة من المعاني الحافّة قدحتها فيهم هيئة من التّراكيب الإضافيّة والعلائق اللّغويّة الخفيّة. وفي قصيدة الحريري جاءت أكثر في هيئة تركيب استعاري. و«ماء الشّوق» ليس «ماء البين» ولا هو «ماء الصّبابة» ولا هو «ماء الكلام» أو «ماء الشّباب» أو «ماء السّيف» أو «ماء الهوى» حتّى إذا حملنا «الماء» فيها على أنّه» الدّمع «فهو ليس ذات الدّمع؛ ولا ذات الحزن أو البكاء، أو على دلالة « الرّونق» فإنّ لكلّ اسم ثان في هذه التّراكيب رونقه الخاصّ به. وليس أدلّ على ذلك من السّياق الذي ينتظم هذه الأسماء. من ذلك اقتران «الماء» بالطّلل (عالم الجدب والمحل) من جهة، وبالصّبابة من جهة أخرى، أي عالم الذّات؛ وما يعتمل فيها من الشّوق ورقّة الهوى والولع الشّديد. أو اقترانه بالحيرة، فهو ماء يعتريه ما يعتري الانسان، في حال مخصوصة، فيتردّد ويجيء ويذهب ولا يدري كيف يجري فيتجمّع في أديم الخدّين. وهذا ونحوه يرسم صورا للماء رجراجة مضطربة، فهو في بعضها يسيل ويتفرّق، أو يدور في باطن العين من دون أن يجري، وهو في بعضها الآخر ينضمّ ويتألف حتّى ليخيّل إلينا أنّه متحرّك وهو ساكن أو ساكن وهو متحرك. وربّما لا تفسير لذلك سوى الماء نفسه، فهو لا يحمل في ذاته لونا ولا شكلا؛ ولذا تنعكس فيه صور شتّى ولو كان له لون وشكل، لما أمكن أن يعكس أيّ صورة.

حين أشرعتِ المظلّه/ للسماء المستهلّهْ

قد تخوّفتِ وحقٌّ / أن تخاف الماء شعلهْ

فتجمّعتِ لهيبا / تحت أفياءِ المظلّه

غصنُ نارٍ قد تحدّى / شبقَ الغيثِ المولّه

فانبرى الإعصارُ يطوي/ في مهبّ الجوّ ثقله

حاملا شوق الغيوم الغرّ للحسنِ المؤلّه

تتمنّى قطرات / منه لو فازت بنهله

هي ظمأى ربّ ماءٍ / ظامئ لم يروِ علّه

وتسيرين ويأبى الغيث إذعاناً وذِلَّه ‏

فأثار الريح حتى حشدت في الأفق حَمْله ‏

وطغى منها هبوب هزّ أركان المظلة ‏

قد لواها لأمام فأراني الشعر غزله ‏

وثناها لوراء فنشقت الثغر فلّه

‏هذا لعب شعري أو لغوي. والإنسان «أومو ليدنس» أي «لاعب». و«اللعب» بالمعنى النبيل للكلمة؛ إنّما سنده الخصائص الشّكليّة التي يمكن أن تُعتمَد في التّمييز بين النّصّ البسيط والنّصّ المركّب، مثل ثبوت أدوار التّخاطب وتغيّرها فيه من حيث الخارج. والسؤال: من هو المتلفّظ في النصّ؟ أهي الذات « ذات المتكلّم» باعتبارها أنا منغلقة على نفسها أم هو «اللاعب»؟

المسوّغ لهذا السؤال أنّ الذات تشغل في وضعيّة المخاطَب «أنتَ» وهو في سياق النصّ أشبه بضمير منفصل يراد به التمييز أو هو المخاطَب الذي ينتزعه المتكلّم من نفسه ويخاطبه التفاتا أو تجريدا جريا على معتقد العرب القدامى في أنّ في الإنسان معنى كامنا هو حقيقته أو حقيقة إحساسه، وله أن يخرجه مجرّدا عن كيانه، كأنّه غيره، بل هو غيره؛ ولكنّه لن يبرح الخطاب أبدا شأنه شأن الإيقاع. أمّا وضعيّة الغائب «هو» التي يحيل عليها النصّ، فمردّها إلى أسلوب الالتفات الذي توخّاه المتكلّم، وقد عدل من الغيبة إلى الخطاب. وعليه فإنّ «هو» في السياق الذي نحن به تساوي «أنتَ».

لكأنّ الأمر قائم على حوار قائم أساسه لعبة الالتفات (استبدال ضمير بآخر أو المراوحة بين التكلّم والخطاب والغيبة. فالصحو يتدخّل هو أيضا ما أن يكفّ المطر:

فانحنى يمسحُ عنها/ ويواسيها بقبله

هامسا: لا تعبئي بالغيث إنّ الغيث أبله

وإذ يختفيان، أي تحتجب المرأة وتذهب في سبيلها؛ ينبري المتكلّم (الشاعر)، وتكون للمرأة مظلّة الشعر:

وعليها شهقاتي/ نسجتْ منها مظلّه

كاتب تونسي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى