الهدنات والمصالحات في سوريا ومآلاتهما الإستراتيجية/ غياث بلال
في خضم انشغال السوريين بأخبار القتل اليومي والتدمير العنيف لمدينة حلب ببنائها وإنسانها, وانشغال العالم بمؤتمر جنيف ومجرياته ونتائجه, يعمل النظام السوري بهدوء على تنفيذ إستراتيجية جديدة تحت مسمى “المصالحة الوطنية” أثبتت نجاعتها في تحقيق اختراقات لم يستطع الحل العسكري والأمني إنجازها حتى اليوم.
ففي مدينة المعضمية -على سبيل المثال وليس الحصر- لم يتمكن النظام السوري من إعادة السيطرة عليها رغم حصارها عدة أشهر، ومحاولته اقتحامها عدة مرات عبر قوات النخبة لديه (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) مع العلم أن موقعها الجغرافي يعد حرجا من الناحية العسكرية, فهي محاطة من ثلاث جهات بقوات تعد معادية وتقع في مرمى مدفعية الفرقة الرابعة المتمركزة على جبال المعضمية القريبة.
إلا أن الحاجات الملحة جدا للإنسان تكون أحيانا أقوى من الاستبداد وأقوى من القتل المباشر, حيث قد تجبره على الاستسلام أو -على الأقل- تجبره على الانحناء, في الوقت الذي فشلت فيه آلة الترهيب والتعذيب في كسر إرادة هذا الإنسان.
فمدينة المعضمية هي إحدى المدن التي تعرضت لحصار شديد، حيث اضطر الكثير من الأهالي هناك لأكل القطط والكلاب والحشائش, كما أنه تم تسجيل حالات وفاة لستة أطفال وثلاث نساء ورجلين مسنين من الجوع بين شهري أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٣.
بعد أن باءت جميع المحاولات لإدخال المساعدات الغذائية إلى داخل المعضمية بالفشل, بدأ النظام يضغط من خلال تحريك بعض من تجاوب معه داخل المدينة باتجاه توقيع اتفاقية هدنة تقضي بإعادة المعضمية إلى “حضن الوطن”، حسب تعبير رئيس لجنة المصالحة في النظام.
تتضمن هذه الاتفاقية شروطا تقضي بإخفاء مظاهر التسليح وضبط السلاح داخل المدينة، وإغلاق الجبهة العسكرية من خلال إنشاء خط فاصل يتمركز فيه حاجز عسكري مؤلف من قوات مختلطة من النظام وعناصر الجيش الحر.
كما أنها تتضمن إعادة مظاهر الدولة داخل المعضمية كالبلدية والخدمات العامة, وكذلك تشكيل لجنة تنسيق لشؤون المدينة مع النظام, سيكون من أولى مهامها الترتيب لزيارة محافظ ريف دمشق للمدينة برفقة أجهزة إعلام النظام, رغم أنها من الناحية العسكرية لا تخضع لسيطرة النظام حتى الآن.
بعد التفاهم الأولي حول هذه الاتفاقية اندفع أكثر من عشرين ألفا من أهالي المعضمية المهجرين والمشردين لينضموا إلى ثمانية آلاف شخص كانوا موجودين فيها, مما زاد حجم العبء التنظيمي والإداري على المجلس المحلي والقائمين على الشأن العام في المدينة هناك.
كما أن عودة الأهالي بهذا الشكل ستزيد من حجم الكارثة البشرية في حال عودة النظام لسياسة الحصار والتجويع في مرحلة لاحقة.
ولدى سؤال بعض العائدين عن سبب عودتهم رغم معرفتهم بإمكانية محاصرة المدينة مرة أخرى, كان جوابهم بأنهم يفضلون الموت في بيوتهم مع احتفاظهم بشيء من الكرامة على حياة الذل والفقر والتشرد التي عانوا منها بعد نزوحهم من المدينة.
معظم مدينة المعضمية اليوم مهدم بالكامل، ومعظم أهاليها فقدوا مصادر أرزاقهم، والكثير من العائلات فقدت معيلها, مما يجعل استمرار الحياة فيها مرتبطا بضغط الحاجة الشديدة التي تضع نفسها على رأس سلم الأولويات قبل أي اعتبار آخر.
في خضم هذه التطورات، بدأ المقاتلون في المدينة بالتحول إما لمجموعات عمل مدني تعمل على مساعدة الأهالي أو مجموعات معزولة يحاول البعض تحميلها المسؤولية الكاملة عما آلت إليه الأوضاع.
على المدى البعيد ستعمل هذه الاتفاقية على إخراج المدينة من دائرة الصراع, بما سيؤدي إلى تحويل المقاتلين إلى جيوب معزولة فاقدة أي قدرة على المناورة, أو ستؤدي إلى خروجهم من المدينة.
المعضمية هي واحدة من عدة مدن مثل برزة وببيلا والمخيم, استطاع النظام أن يبرم معها اتفاقيات هدنة بشروط مشابهة في الإجمال لتلك المذكورة أعلاه, كما تجري في هذه الأثناء المفاوضات مع العديد من مدن وأحياء دمشق وريفها الخارجة عن سيطرة النظام.
أما المدن التي رفضت الدخول في عملية التفاوض فكان نصيبها قصفا شديدا ومكثفا بالبراميل بما أدى إلى مفاقمة الكارثة الإنسانية فيها بشكل كبير، كما حدث في داريا على سبيل المثال.
يسعى النظام من خلال إستراتيجية الهدنات إلى البرهنة أمام العالم على قدرته على إعادة ضبط المدن والمجتمعات الخارجة عن سيطرته، وإعادة تدوير عجلة الدولة فيها وبنائها من جديد, بما ينفي مبررات من لا يرى لسوريا مستقبلا مستقرا في وجوده.
من جهة أخرى، فإن سياسة الهدنات هذه تحمل في طياتها أبعادا إستراتيجية بعيدة الأثر على التوازن العسكري في جبهات ريف دمشق, حيث إنها ستعمل على المدى المتوسط على تفتيت الجبهة العسكرية في دمشق وريفها بما يؤدي إلى عزل فصائل المعارضة -وخاصة المسلحة منها- في جيوب معزولة أو إشغالها في العمل الإغاثي والتنظيمي من أجل إعالة آلاف اللاجئين الراجعين لمدنهم وتأمين المأوى والغذاء لهم.
ومن الناحية العسكرية، سيتم قطف ثمار هذه السياسات بعد عدة أشهر عندما يعمل الأهالي أو بعضهم على الوقوف في وجه الجيش الحر من أجل تجنيب المدينة براميل وصواريخ النظام وتجنيب أبنائهم مشاق الجوع والحصار بعد أن استطاعوا أن ينعموا بشيء من الاستقرار، كما أن النظام قد ينجح تحت وطأة الحاجة والفقر في تجنيد بعضهم لإعانته على تحقيق أهدافه.
لا شك في أن وحشية النظام وسياسات التجويع هي السبب الرئيسي في تصاعد الأزمة الإنسانية ووصولها لما وصلت إليه اليوم، إلا أنه لا بد أيضا من الإشارة إلى عدة عوامل أسهمت في تصعيد الأزمة وزيادة حدتها يمكن إيجازها في ما يلي:
– استطاع النظام استهداف العلاقة القائمة بين الثوار والمقاتلين من جهة وبين الحاضنة المدنية لهم من خلال إشعار المدنيين بعجز الثوار عن تأمين أبسط احتياجاتهم اليومية أو امتلاك القدرة على فك الحصار المضروب عليهم، من جهة أخرى.
كما أن المعارضة السياسية في الخارج على اختلاف منظماتها وأسمائها لم تستطع تحقيق نجاحات تستحق الذكر على هذا الصعيد، مما أسهم في تعميق الشعور بالخذلان وفقدان الأمل لدى المدنيين في المناطق المحاصرة.
– وكذلك الإغراق في المحلية في التفكير والتخطيط والتنفيذ كانت أحد أهم أسباب تدهور الأوضاع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام على العموم.
فالثورة بدأت محلية في كل حي وفي كل قرية بدون قرار ناتج عن سياسات تنظيمية أو حزبية, مما أسهم في زيادة قدرة الثورة على الانتشار والاستمرار في المراحل الأولى, إلا أن إدارة المناطق المحررة على كافة المستويات لا زالت مغرقة في المحلية حتى اليوم, مما عاظم قدرة النظام في خنق المناطق المحررة, وزاد من خياراته في التعامل معها.
وما نشهده اليوم من هدنات منفردة هنا وهناك هو دليل على استمرار تغلب هذه الذهنية في التفكير والعمل، كما أن المعارضة السياسية بأجسامها وهيئاتها وتنظيماتها المختلفة لم تتمكن حتى اليوم من تغطية العجز الناجم عن فقدان التنسيق الأوسع على نطاق المنطقة الجغرافية فضلا عن المحافظة أو القطر.
هناك ضرورة ملحة اليوم تقضي بإعادة ترتيب الأولويات لدى كافة الجهات المعارضة والدولية ذات الشأن بما يضع ملف فك الحصار وإيصال المساعدات الإغاثية والإنسانية على رأس هذه الأولويات, حيث إن إهماله سيؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار المعارضة الداخلية في دمشق وريفها، من خلال تفتيت الأرضية التي تعمل عليها وتمزيق حاضنتها الشعبية, التي باتت اليوم بحاجة إلى من يحتضنها ويخفف عنها محنتها.
كما أن تجربة المعارضة مع النظام في ملف الهدنة وإخراج المحاصرين في حمص لا تدعو للتفاؤل بمستقبل هذه الهدنات, مما سيفرض على المناطق التي دخلت في عملية التفاوض وإبرام اتفاقيات الهدنة أن تأخذ في الحسبان أن الهدنة من وجهة نظر النظام هي أمر مرحلي مؤقت، الغاية منه إعادة إحكام السيطرة على المناطق الثائرة من خلال اللجان الشعبية.
فالنظام لا ينظر لعمليات الهدنة إلا على أنها تأخير لعملية الاستهداف الممنهج لهذه المناطق في وقت لاحق, حيث إنه لا يزال يتحكم في مداخل ومخارج المدن, ولا يسمح بإدخال غير كميات محدودة من الإعانات والسلال الإغاثية، مما يعطيه إمكانية إعادة رسم الأوضاع على الأرض عندما يشعر بالأمان والثقة الكافيين لفعل ذلك.
وعند ذلك لن يجد النظام ما يمنعه من محاسبة كل من تمت تسوية أوضاعه وسلم سلاحه قبل ذلك, خاصة في غياب أي ضمانات لأي جهة ثالثة أو آليات محددة تضمن استمرار الهدنة وعدم انقلاب النظام عليها.
الجزيرة نت