“الهروب إلى أوروبا”: حالتان توثقان مأساة القاصرين/ وليد بركسية
غيث وعبدول، يافعان سوريان في الخامسة عشر من عمرهما، دفعتهما الحرب السورية البشعة إلى التشرد وحدهما في الطرق الأوروبية بحثاً عن الأمان، وجمعتهما صداقة استثنائية في اليونان قبل أن يفترقا، واختبرا البؤس والتشرد والضياع والفقر والعنف والموت، في قصة واقعية يرويها بشكل مميز، وثائقي “الهروب إلى أوروبا” الذي عرضته قناة “بي بي سي العربية” مساء الإثنين.
يهدف الفيلم إلى “شد الانتباه إلى موجة هجرة القاصرين الوحيدين وتوضيح أسبابها المختلفة عبر رواياتهم أنفسهم” وهو إضاءة بسيطة على مأساة الحرب السورية وتأثيرها على الأطفال، كما يقول مخرجه السوري فراس فياض في حديث مع “المدن”.
أتت فكرة الفيلم أساساً من تقارير المنظمات الأوربية التي تفيد بوصول أكثر من ٨٠ ألف طفل دون ذويهم إلى أوروبا: “هناك آلاف الأطفال قبل الصورة الشهيرة لإيلان، لكنهم لم يغرقوا بالفترة المناسبة سياسياً حتى تحوذ قضيتهم الاهتمام الكافي”.
يعتمد الفيلم في بنائه على الرواية الذاتية والمقاطع المصورة بالهواتف المحمولة، وأسندت مسؤولية التصوير فيه للأطفال أنفسهم. وكان تدريب الأطفال على التصوير والحديث أمام الكاميرا في اللحظات المناسبة أكبر التحديات التي واجهت فريق العمل. يقول فياض: “العملية أقرب إلى إعداد صانعي أفلام، وكان ذلك خيارنا الإخراجي لأنه يعطي مساحة كافية للشخصيات كي تعبر عن نفسها”.
يذكر هذا الأسلوب بأفلام مشابهة حول قضية اللاجئين مثل “رحلة هروبي” الذي عرضته قناة “دويتشه فيلله” الألمانية قبل فترة، ضمن موجة أفلام وثائقية أكثر شخصية وقادرة على التأثير ومستندة على قوة السوشيال ميديا والتقنيات الحديثة لإعطاء البطولة فيها للشخصيات نفسها دون وسيط. ويؤكد فياض أن الفيلم، تم تصويره قبل فيلم “دوتشيه فيليه” بعنوان “رحلة هروبي”، وعرض الشهر الماضي.
يقول فياض: “أؤمن بدور التكنولوجيا في إحداث فارق كبير إضافي من وجهة نظر الناس الذين لا يمتلكون أي صوت، كدورهم خلال الثورة السورية في كشف وتسجيل الانتهاكات، وهي ملهمة لصناعة أفلام مهمة سورية وعالمية، وبداية تشكيل موجة جديدة في الفن القائم على الواقع المحكي من قبل الناس، وكسر احتكار الإعلام وصناعة الأفلام والفن من فئة معينة، والمساهمة في مواجهة الفساد والأنظمة الديكتاتورية وتوثيق الحياة بأشكالها كلها، لكتابة تاريخ بوجهات نظر متعدد وواقعية، وليست نقلاً محكياً أدبياً لا يمكن التأكد من صحته”.
الفيلم ثمرة تعاون بين فياض والمنتج والصحافي الدنماركي هنريك غورينت والمونتير راسموس شميدت. وساهم في البحث والاستقصاء، الصحافيان السوريان علي الإبراهيم ومحمد بسيكي، واستمر العمل فيه نحو عام ونصف العام بدءاً من شهر آذار/ مارس 2015 في تركيا، وعرض قبل خمسة أشهر في الدنمارك والنروج والسويد، وفي مهرجان الإعلام الثالث بسلوفينيا أمام صحافيين استقصائيين، إضافة إلى نسخ إنكليزية وفرنسية وألمانية موجهة للجمهور العالمي.
يركز الفيلم على البطلين بعمق نفسي كبير، في دول مختلفة من تركيا إلى السويد، وبشكل عاطفي من دون ابتذال أو محاولة لاستدرار شفقة مجانية. يقول فياض: “اختيارنا قصة القاصرين تحديداً هي اختصار لمعنى الحرب”. وفي الواقع، يبدو أن البؤس الذي اختبراه خلال رحلة اللجوء القاسية وحيدين دون عائلة أو دعم، كان كافياً لإحداث الأثر المطلوب وإيصال رسائل الفيلم إلى الجمهور، خصوصاً أن المجال مفتوح أمام غيث وعبدول للحديث عن مشاعرهما وآمالهما وعن الفاجعة الشخصية لكل منهما، والتي لا تنتهي بمجرد الوصول إلى السويد أو ألمانيا.
تترك تلك المعالجة، المشاهد في حالة ارتباط مع ما يشاهده كونه لا يتعامل مع أرقام بل قصص حية بتفاصيل مثيرة، كالنوم في المساجد أو اتصال غيث هاتفياً بوالدته الباقية في سوريا وهو يخبرها بأنه تناول طعاماً جيداً رغم أنه لم يأكل، أو حلم عبدول بلقاء عمه في السويد لأنه آخر من بقي له من عائلته لكن ذلك الأخير يرميه في مركز لرعاية الأحداث.
عملية البحث عن البطلين بدأت مطلع العام ٢٠١٥ عبر شبكة من الأصدقاء الصحافيين والمعارف، كما تجول فياض لثلاثة أشهر في مناطق إنطلاق اللاجئين إلى أوروبا (أزمير وبودروم واسطنبول ومرسين) والمناطق الحدودية كالريحانية وباب الهوى، وقابل خلال جولته نحو ١٥ طفلاً وطفلة وأجرى مقابلات أولية معهم لفهم خلفيات قصصهم.
والحال أن تركيز فياض في الفيلم لا ينصب على الرحلة بحد ذاتها، بل، على ما تركته هذه الرحلة من أثر على الطفلين: “كانت لدي رغبة بالتركيز على وجهيهما وطبائعهما، وكيف غيرتهما رحلة يمكن مقاربتها بالرحل الأسطورية التاريخية، حيث كانت العائلات تدفع أطفالها إلى السفر ليعودوا رجالاً. الفرق هنا، أن البطلين سافرا مجبرين بسبب الظروف المأساوية، واتخذا قراراً بالرحيل للخلاص”.
في السياق، يرصد الفيلم الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال خلال رحلتهم الخطيرة، من قبل جهات متعددة كعصابات التهريب والشرطة الأوروبية وحتى زملاء السفر. ولا يترك الفيلم الجمهور أمام قصة مجتزأة من سياقها، بل يعرض ماضي البطلين. فعبدول الآتي من دمشق، هرب من فرق التجنيد الإجباري للأطفال التي يقوم بها النظام السوري تحت مسمى اللجان الشعبية. أما غيث الآتي من الشمال السوري فهرب من البراميل المتفجرة والهجمات الكثيفة للطيران والمجموعات المتطرفة، وقد خسر والده نتيجة القصف.
يستعرض الفيلم أسباب عدم البقاء في دول الجوار السوري، والتي تتفاوت بين الاستغلال وإنعدام فرص الدراسة ورعاية الأطفال الوحيدين. وفي ذلك دعوة تلك الدول إلى مساعدة الأطفال اللاجئين كي لا يتحولوا إلى كارثة اجتماعية لاحقاً بسبب التخاذل والإهمال. وذلك كله يحيل إلى الحديث عن نتائج الحرب السورية على المستوى السياسي وضرورة محاسبة المتسببين بها، “فصناع الحرب يبنون دوافع التهجير القسري للناس الرافضين للخضوع وسلطة السلاح والعنف والدكتاتورية”.
المدن
الفيلم الوثائقي الهروب إلى أوروبا : رحلة يافعين سورييَن إلى أوروبا