الهوية السورية الجديدة/ أحمد عمر
لا يقصد بالهوية الجديدة بطاقة النخاسة التي سارت الشائعات بإصدارها بحثا عن شعب سوري أو إيراني جديد حسب الطلب، ولا التقسيمات السورية الطائفية والعرقية الجديدة … بل هي البحث عن هوية أعمق تمتد إلى “عشرات الآلاف من السنين” وهي النسبة التاريخية البعيدة ” والعريقة” التي يكرّرها إعلاميون من النظام هربا من التاريخ الإسلامي إلى الوثنية الأول. “فالشعيب” الوثني الذي يعبد الأسد يبحث عن أصول أكثر أصالة وتاريخية بعد أن تحطّم الصنم أو كاد. وقد وجدها في عيد أكيتو ! أول مرة سمعت بعيد النظام الجيد “اكيتو” كان من جريدة الأخبار اللبنانية في سنة 2014 التي زفت الخبر إلى الجمهور السوري الضائع و صدرت الخبر ب صورة لشاب يعانق صبية راقصة في مشهد يثير “اللعاب” التحتاني كما في أفلام السبعينات السورية الرخيصة . تقول مواقع آشورية أن أول سرقة للعيد المبعوث من القبور وقعت في سنة 2013 ويتهم فيها البابليون العراقيون الكردَ بسرقة العيد و تبنيه، وأنّ عمر العيد الحقيقي هو1373 وليس 6763! في هذه الأيام ، التي تفتقر الهويات الخاصة أو تشتدّ والافتقار والاشتداد وجهان لعملة واحدة، بسبب طغيان وبطش العولمة أو بسبب فالق الثورات والربيع العربي، يجدّ النظام في البحث عن جذور و تقاليد في الماضي البائد، فالنظام ليس عنده مشكلة فلافل أو مسبحة مثل إسرائيل التي تعاني من فائض في التاريخ العام وعوز أو طمع زائد أو حسد في التقاليد الخاصة !
قابل وقتها الصحفي صاحب التقرير في الجريدة المذكورة مشاركين بالاحتفال اكيتو ، كانوا باكين من الوجد والحنين على عيدهم المفقود والمبعوث من القبور وفرحين بالخلاص من عيدي الفطر والأضحى، عيد “الصحراويين”، والهجريين ( نسبة إلى الهجرة النبوية). ولم تتمالك ثلاث ممثلات من البكاء على المسرح فرحا بالعيد الذي اسمه اكيتو حسب المترجمين الغربيين فتاريخنا القديم مأخوذ من ترجماتهم المقدسة ..!
العيد زراعي، وموعده هو الأول من نيسان، عيد الكذب “حضرتك”. واقعيا سوريا بلد زراعي. حاول الثور الكبير صاحب الخط الأعوج، الوحش الملقب بالأسد تحويل سوريا إلى بلد صناعي، في بدايات انقلابه فهو من الناس الذين يعتقدون أنّ الحضارة هي الصناعة والآلة، فبدأ بمشروع مصنع الورق العملاق على أطراف الفرات الذي ما لبث أن تحول إلى مصنع للذباب والحشرات البشرية، وبقي الواقع أنّ سوريا بلد زراعي فخسرنا المصنع وتابعت الزراعة حياتها المتحشرجة واحتضارها بسبب الاحتكار. وبقيت سوريا الخصبة منتجة لأجود الاقماح لكن الشعب السوري قضى سنوات من عمره أمام الأفران ! فالأسد باحتكار القمح ومنع نقل الحبوب بين المدن والقرى كان يخبز الشعب في الفرن وبيت الطاعة والجوع قبل الخبز. ولم يكن إهمال الزراعة بقوانين قاسية ومنع الناس من التجارة بالقمح وبقية المنتجات مثل الشوندر السكري الذي كان يعطن أمام مصانع السكر من طول الانتظار و ساطور تحديد السعر، وتأخير مواعيد السماد الثمين بسبب الجهل أو البيروقراطية .. بل أنه منع استيراد الآلات الزراعية فالأرض تتوسع و الحمير والثيران لم تعد تصلح للحراثة لأنها صارت بمعظمها في مجلس الشعب .
ومرت سنوات عجاف جفّت فيها غيوم السماء بعد تولي الأسد الجونيور . أمِل الناس إلا تتجاوز السبعة ،لأن ثمت تناغماً بين الأرض والسماء وعانى من التهميل المقصود، إلى أن أمطرت السماء براميل النار!!. ومن ذلك أنّ قَريبَين لي سجّل أحدهما على جرار زراعي للفلاحة في “اكتتاب” مدة ثلاثين سنة منتظرا الجرار “المخلص”، فسوريا كانت تعاني من شح في الآلات الزراعية و تزداد سكانا وتتوسع أرضا والآلات هي القديمة نفسها. يفاجأ النازح السوري إلى تركيا أو ألمانيا من تنوع الآلات الزراعية العجيبة فهناك آلات حصادة لجميع الأشجار الزيتون والعنب والقطن والذرة.. بينما بقيت الآلة الوحيدة التي تتطور صناعيا في سوريا هي فروع المخابرات وتحول الشعب إلى زبيب في السجون أو إلى خمر معتق على مائدة الرفاق الكفار.
أغلب الظن أن الفرح لن يطول بأكيتو، فالإيرانيون عقائديون وبدؤوا يفرضون أعيادهم الطائفية الحزينة اللاطمة مثل “الغدير” في المدن الساحلية . وأنّ سوريا المقاومة والمانعة تهجر مقاومتها وتعثر على الرقص في أعياد وأفراح منقرضة وبين الأشلاء والدماء، ولا يهمها أن تكون أشلاء أعدائها أو أشلاء مواليها فقد كان العرس والحفل واحداً من أهم أدوات الحكم، إذا سكت الطبل سقط الحكم!.
” كانت سوريا الأسد” المقاومة والمانعة غارقة في الأعياد ويمكن أن نذكر بالطرفة الشهيرة التي وردت على لسان ياسر العظمة في مسرحية غربة عن كثرة العطل الوطنية، حتى صرنا أبطالا في الهز و”النخ” . و النخ تعبير شديد عن الرقص المصحوب بالطأطأة والاستخذاء، العيدان الوحيدان اللذان كان يحتفل بهما جلّ الشعب هما عيد الأضحى وعيد الفطر من غير زينة رسمية مصاحبة! إلى جانب أعياد الطوائف الأخرى، فالدولة كانت تنفق على أعيادها الكذابة، ولم تكن سوى مسيرات إجبارية و فرصة للهرب من العمل الرسمي والبطالة المقنعة برقصة إلى مشاغل الحياة اليومية الثقيلة.
خمس وأربعون سنة ونحن نعيش الأول من نيسان الواعد بالفرح والأمن والاستقرار…!
الطبل والمزمار والرقص والشعارات كانت دوما فرصا للهرب من مواجهة الذات التي باتت منفية أو من فقر الهوية ، لذلك يندر بل يستحيل أن تجد روائيا أو حاكما في النظام أو من مواليه يكتب سيرة ذاتية أو رواية مثل “القوقعة” أو “الإخوة الأعداء” أو مذكرات مثل “بالخلاص يا شباب” .. كان ثمت روائي وحيد اسمه إبراهيم العلي يسرد وعنده مجموعة من الكتاب تتلقى جواهره وتسجلها “بأحرف من نور” ، ولما سئل ذات مرة : أين “الفنيات” في الرواية فقال : فنيات والعدو على الأبواب ! السجان يحرص على إخفاء جريمته ويبدلها بالشعارات فقط لا غير.
نذكر بأنّ العصابة الحاكمة التي بنت قصر المحافظ بحجارة القلعة الأثرية تحاول أن تبني تاريخا بحجارة عيد الأول من نيسان!
المدن