الهوية… من خارج السياق/ حسام عيتاني
تحيل الصعوبات التي تواجهها البلدان العربية التي شهدت ثورات في الأعوام الثلاثة الماضية إلى أسئلة عن البنى الاجتماعية وأثر الهويات والفوارق الطبقية، في إبعاد موعد نهاية الفترات الانتقالية ومباشرة مراحل بناء الدولة.
والتباينات الكبيرة بين المعطيات السياسية بين كل حالة وأخرى تجعل من العسير بل من غير المجدي، تناول دول الثورات العربية كلها في مجال واحد ووفق معيار ومنهج موحد. من دور الانقسام الجهوي والقبلي في ليبيا إلى مشكلة الأقليات في سوريا، على سبيل المثال، بون شاسع يبرر النظر الى كل حالة بمفردها.
ورغم ذلك، تبرز مسألة الهويات بمعانيها المختلفة كعقدة تلتقي حولها الكثير من المشكلات التي ما زالت تمسك بخناق الثورات. ومع الاعتقاد أن ما يجري في عالمنا العربي اليوم قد لا تنطبق عليه صفات الثورات التقليدية التي تمر في أطوار وحقبات عمل علماء السياسة والاجتماع والتاريخ على تحقيبها وفرزها (راجع مثلاً “في الثورة” لهانا آرنت و”تشريح الثورة” لكرين برينتن) والبحث عن قوانين ناظمة لها على طريقة كلاسكيي الماركسية – اللينينية، إلا أن ثمة مؤشرات كثيرة في الثورات العربية تقول إنها تتجاوز في عمقها أزمات العلاقة بين أنظمة استبدادية وجماهير متطلعة إلى العدالة والحرية لتبلغ حد أزمة التعريف الأولي في مجالات الهوية والانتماء كالدين والعرق وما يرافق ذلك من مآزق في تشكيل التوافقات الوطنية والسياسية، على ما نشهد في بلدان الثورات العربية قاطبة.
نزعم أن التأخر الحالي في مسار الثورات ينجم عن سوء فهم أو تفسير لطبيعتها. بل إن الوقت الحالي، الذي يعتبره البعض ضائعاً أو علامة على إخفاق المشاريع الثورية، حيث توقفت العمليات الانتقالية في بلدان الثورات العربية التي أطاحت الأنظمة القمعية، وفي البلد الذي ما زال يعاني من حكم ديكتاتوري عبثي (سوريا)، توقفت في منتصف الطريق تقريباً وراحت عوامل التفكك تُداخل ما بدا ذات يوم أنه جسم الثورة. الاقتتال بين الفصائل المسلحة في ليبيا؛ الحرب الطائفية الصغيرة في اليمن وتصاعد الارهاب “القاعدي”؛ النزعة التسلطية في مصر؛ التنظيمات الإسلامية المتطرفة في سوريا…إلخ مظاهر لأزمة نمو وعلامات استفهام لأسئلة لم يجر الرد عليها.
الهويات تبدو عنصراً مشتركاً في خلفيات الصور هذه كلها. الدين يطرح سؤالاً حاداً في كل دول الثورات العربية. ولا مراء في ان الجماهير يوم نزلت إلى الشوارع والميادين لإسقاط حكامها الفاسدين، لم تنشغل بهذا السؤال أو لم تعطه الأهمية التي يستحق. لكنه مثل كل المسائل التي لا تعالج كما ينبغي، يعود ليفرض نفسه بقوة أكبر من السابق. لقد أظهرت تجربة الانتخابات في مصر وليبيا خصوصاً، الحدود التي يمكن أن يبلغها الاقتراع من دون مكونه الديموقراطي. فاختيار الرؤساء والممثلين عبر الصناديق ليس إلا قمة جبل الديموقراطية. لكن هذه مسألة أخرى.
إلى جانب الدين الذي يُغطي العديد من التوترات الاجتماعية والتغيرات الثقافية الحادة التي تشهدها المجتمعات العربية، برز دور الأرياف المهمشة التي دفعت ثمن السياسات الليبرالية للأنظمة السابقة- بما فيها سوريا وليبيا حيث قبضت العائلتان الحاكمتان على مفاصل الاقتصاد المربح- وتخشى (الأرياف) أن يتكرر الأمر مع الحكومات الجديدة التي لم تستطع حتى اللحظة تقديم تصور لعدالة اجتماعية مقبولة. بل أن بعض البرامج التي تقترحها الثورات تثير حفيظة شرائح واسعة من معارضي الأنظمة السابقة لانحيازها الاجتماعي المفرط إلى جانب أصحاب رؤوس الأموال على حساب فقراء المدن والأرياف.
يعزز ذلك صدق وقوة نموذج من العدالة الفورية والسريعة توفرها القوى الدينية المتطرفة التي تخاطب القيم الأكثر محافظة في المجتمعات عبر إنزال العقوبة القابلة للمعاينة اللحظية بالمرتكبين والمتجاوزين، أمام السكان الذين وقع عليهم جور المجرم، إضافة إلى طمأنة المجتمعات المحافظة إلى استمرار كل اشكال السيطرة الأبوية السابقة، ما دون السلطة السياسية.
بين عدالة مباشرة وفورية وبرامج مرجأة ومشكوك فيها، لا مجال عند المواطن المنهك من الظلم والفقر والامية لترف الاختيار. ويجري ذلك تحت عباءة التدين و”كلام الله” و”سيرة السلف الصالح” مما لا يقوى الانسان المضطرب والمتعب على محاججته والرد عليه.
ولعل المشكلة الأكبر في الثورات العربية ليس اصطدامها بحائط الواقع، لكن، على العكس، ترددها في تحطيم هذا الجدار. وليست تورطها في الاحلام الثورية، بل قلة جذريتها وثوريتها التي اوصلتها الى خيارات مستحيلة.
وسط مناخ كهذا، تُصاغ مواقف سياسية وتسيطر جماعات مسلحة على مناطق شاسعة وترتفع رايات تزداد سواداً.
موقع 24