الواقع العربي: الازمة تتعدى السياسة!
ميشيل كيلو
هل يكفي تغيير النظم لتغيير الواقع العربي القائم، ولعكس اتجاهات تطوره، أو لبدء تطور سياسي / اقتصادي / اجتماعي / ثقافي معرفي من نمط جديد؟. هل يكفي أن يذهب هذا الحاكم أو ذاك، كي تصحح أوضاعنا وتزول بلايانا، ونبدأ السير على الطريق وفي الاتجاه المطلوبين؟. وهل مآسينا من طبيعة سياسية فقط، وهل هي قائمة في المجال السياسي وحده، أم أنها أكثر شمولا وعمقا وتنوعا وتشعبا مما تقوله الأدبيات وتزعمه الادعاءات؟
أعتقد أن أزمتنا على قدر من العمق والتشعب يتخطى حقل السياسة المباشر، على أهميته، إلى حقول ما قبل وما بعد سياسية، وأنها تغطي سائر مجالات وحقول وجودنا كدول ومجتمعات وسلطات ومواطنين. أعتقد أيضا أن السياسات العربية الموحدة الطابع المتنوعة الأشكال، التي مورست خلال نصف القرن المنصرم، تتحمل كامل المسؤولية عن وضعنا المزري الراهن، الذي لم يعد قادرا على معالجة مشكلاتنا بوسائله وأدواته وأفكاره وأحزابه، وأن حالنا قبل هذه السياسات وهذه النظم كانت أفضل بكثير منها اليوم، لأسباب بينها أن فكرة التغيير كانت شرعية ومستقبلية وقانونية وتحظى بتأييد شعبي حقيقي، وأن المواطن العادي، أبن الشعب البسيط، الذي أخرجته النظم الراهنة بصورة تكاد تكون مطلقة من السياسة والشأن العام، كان يعتبر نفسه معنيا بالمجال العام، بل وبإنجاز التغيير، وأنه صاحب دور مؤكد فيه، بموافقة السلطة وإلا فضد إرادتها.
بدأ التدهور العربي الحديث من نقطة محددة: مع الانفصال وهزيمة حزيران، ووصل إلى كل مكان وأمر: وتجلى في عجز النظم عن إحداث تحول يغير الواقع ويعيد تأسيسه خارج تقليديته وركوده وتفككه، ويأخذه إلى فعل تحديثي مستمر حامله الرئيس مواطن حر هو فرد في مجتمع مدني وعضو في دولة حق وقانون، يوظف قواه طواعية من أجل إنجاز تحول يطاول كل شيء على الصعيدين السياسي والمجتمعي. والآن، وقد وصل التدهور إلى صعد تتخطى السياسة وحقلها، وتصل إلى حقول وأنشطة تغطي جميع مجالات وجودنا كبشر وكمواطنين، وتغطي المجالات غير السياسية أكثر مما تغطي المجال السياسي، الذي تسبب بمصائبنا، وجعل عجزه وفشله تدهورنا شاملا لا يقف عند حد أو فكرة أو تنظيم أو دولة أو قطاع اقتصادي أو تكوين مجتمعي أو رؤية ثقافية أو فاعلية إنسانية: وتظاهر في كل شيء: من الاقتصاد إلى وجودنا الحضاري والمدني، إلى المجال الفكري والنفسي للمجتمع والفرد.
لا يكفي التغيير السياسي وحده، على أهميته، لإخراجنا مما نحن فيه، لسببين اثنين:
– ان التغيير الآتي لن يكون بالضرورة والقطع تغييرا نحو الأفضل، بل إنه سيكون تغييرا نحو الأسوأ إن استمرت الأوضاع التي أنتجتها وكرستها نظم العرب القائمة، أو ارتكبت قوى التغيير أخطاء جسيمة نتيجة قلة خبرتها أو خلافاتها، أو قوة الأبنية الاستبدادية القائمة في عمق ما تحت سياسي … الخ. ولعل الخوف مما يحدث في مصر اليوم، وقد يحدث في ليبيا غدا، وحدث في تونس بالأمس، يؤكد هواجس وقلق عدد متزايد من المواطنين العاديين حيال التغيير المنشود، الذي يبدو حتميا في كل مكان، لكن تعثره وغموض ما سينجم عنه يثير مخاوف المواطن العادي غير المسيس، الذي يفضل ما يعرفه على ما يتعرف عليه، حسب المثل السائر، خاصة إن كان المدخل إلى التغيير سيأخذ أكثر فأكثر طابعا عنيفا يخشى أن يشحن المجال العام بتوتر شديد ومتفاقم، قد ينفجر بعد انهيار النظام الأمني والدولة البوليسية القائمة، التي أحكمت قبضتها على العباد، وأضعفت قدرتهم على معالجة مشكلات الدولة والمجتمع، فكيف إذا كانوا سيواجهون مشكلات إعادة بنائهما على أسس لم تختبر كثيرا بعد، وليس لدى قوى التغيير من الأجيال الجديدة والصاعدة المعرفة الكافية بها وبالطرق الكفيلة بإيجاد حلول لها، علما بأن الجديد لن يواجه مشكلات بسيطة، بل سيجد نفسه غارقا تحت ركام هائل من أزمات ومآزق قديمة، مزمنة ومستعصية، أنتجها النظام القائم ورعاها، وحال دون حلها كي يجعله صعبا أو شبه مستحيل بالنسبة إلى من قد يحاولون ذلك بعد سقوطه.
– ان نصير التغيير، الذي قد يتولى السلطة سيجد نفسه في مواجهة مشكلات غير سياسية، أو بالأصح ما قبل سياسية، تتسم بدرجة من التعقيد تجعلها مشكلات تكوينية، يتوقف تنظيم المجال السياسي على حلها، مع أنها لن تحل بأدواته وحدها، رغم أهميتها. ويزيد من صعوبة المسائل أن هذه المشكلات تنتمي إلى مجال مجتمعي/ مدني ضعيف التبلور في بلداننا، مع أنه الأرضية التي لا يمكن بناء دولة حديثة في غيابها، أو ضعفها، فالمهمة إذن مزدوجة ومركبة، وسيكون من الصعب التصدي لها بنجاح إن بقي فعل التغيير سياسيا فقط، أو افتقرت السياسة إلى مقدماتها التي لا تنتمي جميعها إلى حقل السلطة. من هنا سيكون علينا، نحن العاملين في الحقل الثقافي، الوقوف طويلا أمام هذا التحدي الذي سيطرحه واقعنا علينا، بعد زوال نظم الاستبداد الراهنة، التي استخدمت السياسة من أجل إفساد الشأن العام وتقويضه وتفكيك الأبنية المجتمعية، المادية والمعنوية، التي يمكن إقامة الدولة والمجتمع المدنيين عليها. ويزيد الأمر صعوبة أن حامل التغيير سيجد نفسه مجبرا على معالجة مسائل مجتمعية قد لا يعي المواطن العادي شرعية العمل على إعادة إنتاجها في صورة مغايرة لصورتها التاريخية الموروثة، أو لتغييرها، فهو يتمسك بوجودها، بينما يريد تغييرا سياسيا سريعا وناجزا، متجاهلا أن نجاحه يتوقف على النجاح في معالجتها.
تتسم الأزمة العربية الراهنة بصفة خاصة هي أن السلطة القائمة جعلتها تتخطى أية سلطة، أو دولة، أو مجتمع، أو فكر، أو مواطنة، وحولتها إلى جملة أزمات معقدة ومتشابكة وذات قدرة على التوالد الذاتي. في هذه النقطة، تكمن فرادة أزمتنا، التي لم تعد قادرة على إبقائنا في القديم، لكنها تربك سعينا إلى بلوغ الجديد، فهي أزمة القديم والجديد، التي جددت السلطة القائمة قديمها باعتباره مشروع حداثة ولحاق بالعالم والعصر، فقوض معظم ما كان جديدا في واقعنا ووضعنا أكثر فأكثر خارج العصر وفي مواجهة العالم، وجعلنا فريسة سهلة الاقتناص، وجعلها أزمة لا سابقة لها في تاريخنا، الذي عرف جوانب منها لازمت بنيته التحتية لطالما تطلع إلى التخلص منها عبر تغيير في بنيته الفوقية، وحين وقع هذا، تبين أن قوى التغيير لا تحمل منه غير الصفة، وأنها أقامت وضعا يعيد إنتاج القديم في صور جديدة وبوسائل حديثة، لتضيف بذلك احتجازا سياسيا حديثا إلى احتجاز هيكلي موروث، أعادت إنتاج نفسها بدلالته عوض أن تقوم بتغييره.
لا سبيل إلى تخطي الأزمة الراهنة بغير دراستها في خصوصيتها الفريدة، دون إهمال أي جانب من جوانبها، لمعرفتها على حقيقتها بلا تهويل أو تهوين، وأدلجة وتسييس. إذا كانت الأزمة أكبر من الحقل السياسي، فهذا معناه أن التصدي لها بوسائل السياسة وحدها لن يكون كافيا. وكذلك الحال ان حدث بوسائل الاقتصاد أو أية وسائل تخص جانبا واحدا من جوانبها. هذا لا يعني طبعا أن السياسة لا شأن ولا دور لها في حلها، بل يعني أن حلولها ستكون جزئية ومحدودة، إن بقيت رهينة حقلها السياسي الخاص. بالمقابل، من الخطأ الاعتقاد بإمكانية أو احتمال إيجاد حلول لمعضلاتنا بوسائل السلطة العربية القائمة، إذا افترضنا خطأ أن هذه تريد أو تستطيع حلها. لا خلاص، كذلك، من أزمتنا، بمعونة برامج المعارضات العربية الحالية، التي تركز على جانبها السياسي/السلطوي، وتتجاهل بقية أوجهها، وتاليا حدتها وعمقها، وتفتقر إلى برامج وأدوات التعامل معها، إما لأنها هي نفسها محافظة، أو لغرقها في النزعة السياسوية.
ستبقى أزمة العرب الراهنة وستتفاقم، ما دامت السلطة الحالية قائمة. لذلك، يعد ذهابها شرط أي حل، وأي مستقبل شعبي وعربي، كائنا ما كانت صعوباته.
قال فيلسوف ألمانيا العظيم هيغل ما معناه: إن ثورة الواقع ستكون مستحيلة دون ثورة في الفكر تسبقها وتمهد لها. نحن، عرب اليوم، نقف على أبواب ثورة في الواقع لم تمهد لها بما فيه الكفاية ثورة في الفكر، مع أن تجديد واقعنا وتخلصنا من حالنا الراهنة يتوقف عليها. إن ثورتنا الواقعية تبشر بخروجنا من حقبة الاستبداد، لكنها لن تكون كافية لإعادة تأسيس وجودنا العام على أرضية مدنية وديمقراطية دون ثورة فكرية تنتظر من ينجزها، فهل يتقدم العقل النقدي العربي لتحقيقها، فيكون على مستوى التاريخ وضروراته، والشعب وتوقعاته؟
‘ كاتب وسياسي من سورية