الوصاية الدينية للدولة السلطوية/ خليل العناني
لا تفوّت الأنظمة المتغلبة فرصةً لممارسة قهرها، وفرض وصايتها على الأفراد والمجتمع، إلا واستغلتها. وفي أحايين كثيرة، تكون ممارسة الفعل القهري هدفاً بحد ذاته، من أجل إثبات الوجود وفرض الخوف والهيبة في نفوس المواطنين، حتى وإن لم يكن هناك ما يبرّره فعلياً. وعند ممارسة القمع، تتلاشى المسافة الفاصلة بين المجالين، العام والخاص، لدى هذه الأنظمة، ويكون الحضور السلطوي الأساس. ويتجلى الفعل القهري، حين تمارس هذه السلطة نوعاً من الوصاية الدينية والأخلاقية والقيمية على المجتمع، في حين أنها أبعد ما تكون عن ذلك. وتمثل هذه الوصاية إحدى الأدوات التي تعتمد عليها السلطويات، في تعزيز حضورها في الخيالين، الفردي والجماعي، على حد سواء، من خلال تكريس نفسها سلطةً أبويةً، تعرف مصلحة الفرد والمجتمع أكثر منهم. والأنكى أن ممارسة هذه الوصاية لا تأتي فقط من خلال القنوات الرسمية للدولة، وإنما عبر ممثليها ومسؤوليها، مثلما فعل رئيس أحد الأحياء المصرية، قبل أيام، حين قاد حملة بوليسية، تداهم المقاهي وتعتقل المواطنين الذين يجاهرون بالإفطار في نهار رمضان. وهي الحملة التي أثارت استهجان وسخرية كثيرين على صفحات التواصل الاجتماعي، بسبب تهافتها.
لا يخجل النظام السلطوي في مصر من أن يقوم بمثل هذه الحملات، تحت يافطة الحفاظ على فروض الدين وشعائره، في وقتٍ يمارس فيه كل أنواع الموبقات السياسية من انتهاك للحرمات، واعتقال وخطف للأبرياء، واغتصاب للأموال والممتلكات، وإزهاق للأرواح، وذلك مثلما يحدث الآن بشكل متكرر في أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز والمعتقلات. فحسب التقرير الجديد لمركز “النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب”، فإن أكثر من ألف شخص تم قتلهم في العامين الأخيرين، فضلاً عن مئات من حالات الخطف والاختفاء القسري والتعذيب داخل السجون والمعتقلات المصرية. وحسب جميع الإحصائيات والبيانات المحلية والدولية، فإن مصر تعيش واحدةً من أسوأ فتراتها التاريخية على الإطلاق، من حيث معدلات انتهاك حقوق الإنسان وما يرتبط بها.
“لا تخجل السلطة الحالية في مصر من ممارستها وصايتها الأخلاقية والدينية، في وقت تبدو فيها غارقةً حتي أذنيها في ممارساتٍ لا أخلاقية ولا قيمية”
لا تخجل السلطة الحالية في مصر من ممارستها وصايتها الأخلاقية والدينية، في وقت تبدو فيها غارقةً حتي أذنيها في ممارساتٍ لا أخلاقية ولا قيمية، ليس أقلها الظلم والقهر، فضلاً عن حماية (ورعاية) الفساد والمحسوبية والرشاوى التي تكاد تكون نمطاً مؤسسياً ثابتاً في أجهزة الدولة المختلفة. بل الأدهى أن تتم ممارسة هذه الوصاية الدينية من خلال أفرادٍ يرون في أنفسهم تجسيداً للسلطة الأبوية القاهرة، من دون أن يكون هناك تصريح أو تعميم بذلك من هذه السلطة. وهي ممارساتٌ لا تتناقض فقط مع أبسط قواعد القانون والدستور الذي يكفل الحريات الفردية، وأهمها حرية الاعتقاد والممارسة، وإنما مع المنطق الذي جاء به النظام الحالي الذي يدّعي التخلص من “الحكم الديني” للإخوان المسلمين الذي كان سائدأ قبل انقلاب 3 يوليو حسب ادّعاءته. لذا، لا يخلو فعل السلطة الحالية، وكل من يرتبط بها، من نفاقٍ سياسيٍّ واضح وفاضح، فيما يخص مسائل الحريات. فلم يحدث في أثناء حكم جماعة الإخوان أن تم تسيير دورياتٍ لاعتقال الناس، أو مطاردتهم على المقاهي، على الرغم من الادعاءات التي تنتهي بسعى “الإخوان” إلى “أسلمة الدولة”. وهو ما يتناقض أيضاً مع ما يدّعيه ليبراليو النظام أن التخلص من “الإخوان” جاء نتيجة محاولتهم التضييق على الحريات الفردية. لذا، لم يكن مفاجئاً ألا نسمع أياً من هؤلاء الليبراليين ينتقدون الوصاية الدينية والأخلاقية التي يمارسها النظام الحالي على الجميع، والتي وصلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من القمع والعقاب على حرية الرأي والتفكير والممارسة.
بكلماتٍ أخرى، فإنه في ظل سعي الأنظمة السلطوية إلى تأكيد نفسها وحضورها، فإنها تسمح لنفسها بالخوض في كل ما له علاقة بالفرد، وتتدخّل في أدق تفاصيل حياته اليومية، من خلال فرض سلطتها الوصائية والأبوية على سلوكه وأفعاله. وهو ما يتم، سواء من خلال مأسسة لهذه السلطة، كما الحال في بعض البلدان التي لديها أجهزة لفرض الممارسات الدينية ومراقبة سلوك مواطنيها، أو من خلال أفراد يرون في أنفسهم الممثلين الشرعيين لهذه السلطة، فيقومون بفرض وصايتهم على غيرهم. وهنا، يتم فرض نوعٍ من التسلط الديني، ليس قطعاً بهدف احترام الشريعة، أو تطبيق الدين على المجتمع، وإنما بالأساس لفرض منطق السلطة وشرعنة الوصاية على الأفراد. من هنا، يصبح أي رفض لهذه السلطة ومنطقها كأنه رفض للدين وقواعده. وهي حال أشبه بما يطرحه بعض الإسلامويين المتشدّدين الذين يسعون إلى فرض رؤيتهم وأجندتهم الدينية والإيديولوجية على المجتمع، من دون إعطاء مساحة للنقاش أو الإقناع.
السلطوية الدينية هي امتداد طبيعي للسلطوية السياسية. وغالباً يحدُث أنه، بعد نجاح الأنظمة السلطوية في تثبيت أركان حكمها، أن تتنقل إلى فرض تسلطها القيمي والأخلاقي على المجتمع. فكل مجالٍ أو مساحةٍ فرديةٍ أو اجتماعيةٍ هي مجال للتدخل والضبط، وأحياناً الإكراه. وما دام أن المجتمع قد سمح للسلطة بأن تقمعه سياسياً، وألا تحترم رأيه أو اختياراته، فإنه قطعاً لن يكون من الصعب عليها أن تجبره على قبول وصايتها الدينية والأخلاقية.
العربي الجديد