صفحات الرأي

عن العقل القومي ومظلومية الأمم/ عصام الخفاجي

 

 

تغويني رؤية الرئيس دونالد ترامب القومية بالعودة إليها من منظور مختلف هذه المرة، إذ أحاول وضعها في سياق تاريخي. أقنع ترامب ناخبيه بأن أميركا أصابها الوهن. منطقه بسيط يدغدغ مشاعر المواطن البسيط: وهن سببه ابتعاد المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن عن هموم المواطن البسيط وتركيزها على ودّية العلاقات مع العالم، مضحّية بذلك بالمصالح الوطنية. انخراط أميركا في تيار العولمة الذي يقتضي حرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال جعلها بلداً خاضعاً لاستغلال الصين والمكسيك وغيرهما من الدول التي أغرقت أسواقنا ببضائع رخيصة الثمن. وتيار العولمة هذا جعل معظم المؤسسات الصناعية الأميركية الكبرى لا تلتفت إلى المصلحة القومية حين يتعلّق الأمر بتعظيم أرباحها، إذ انتقلت إلى الخارج ملقية بالملايين من مواطنيها في أحضان البطالة.

هنا يكمن الإغواء. فلو استبدلنا أسماء البلدان الظالمة والمظلومة وأسباب الظلم ودور من يساعد الظالم على ظلمه سنجد رئيس أثرى وأقوى دولة في العالم يفسّر العالم كما فسّره سياسيونا ومنظّرونا. يصف ترامب حال بلده كما وصفت نظم تعليمنا تاريخ شعوبنا وأسباب انحطاطها ولكن بالمقلوب. وتلك لحظة فريدة في التاريخ الحديث.

بريطانيا وفرنسا وأميركا هي الاستعمار، كما عرّفناه وتشبّعت به عقولنا منذ الصغر وصار مبرّر عدائنا التاريخي للغرب. تنظير غزا العقول والقلوب منذ الخمسينات على الأقل وصار المرتكز الأساس لعشرات النظم التي حكمت ثلاث قارات، وكان أحد روّاده النظام الذي أرساه الراحل جمال عبد الناصر. تنظير يقول إن الاستعمار أغرق أسواقنا ببضائع رخيصة دمّرت حرفنا وصناعاتنا وتسبّبت في إلقاء ملايين الحرفيين والصناعيين الصغار في أحضان الفقر والبطالة. تقدّمه هو سبب تخلّفنا وتخلّفنا هو سبب تقدّمه.

لا مجال هنا لعرض الأبحاث التي دانت وحشية الاستعمار، لكنّها بيّنت في الوقت نفسه أن هذا التفسير لا يصمد أمام التدقيق التاريخي قدر ما يتجاوب مع الشحنات العاطفية المسبقة لدى متلقّيه.

ترامب صار ماويّاً (نسبة إلى ماو تسي تونغ) الذي نقّح شعار ماركس «يا عمّال العالم، اتّحدوا» وحوّله إلى شعار «يا شعوب العالم الفقير، اتّحدي»، معلناً أن التناقض الأساس في عالمنا هو بين الشعوب الفقيرة والشعوب الغنيّة. الصين والمكسيك صارتا الدولتين اللتين ستستعمران أميركا إن لم نضع لغزوهما حدّاً. ومثلما مثّل رأس المال الصناعي الأميركي بالنسبة لترامب الطرف المحلي الذي سهّل غزو الاستعمار بلدَه، أعلن ماو تسي تونغ الحرب على «الكومبرادور»، أي التجار الذين تخصصوا في استيراد البضائع الغربية سعياً وراء الربح السريع فأغرقوا السوق الوطنية بالسلع الغربية ودمّروا اقتصاد الصين.

تجنّب ماو الإجابة عن سؤال لا بد أنه خطر على باله: لماذا نجح المستعمرون في تدمير الاقتصاد الصيني، وهم لعبوا دوراً تدميرياً بالفعل، وعجزوا عن ذلك في اليابان المجاورة؟ وتجنّب ترامب الإجابة عن سؤال لماذا تنجح الصين في إضعاف الصناعة الأميركية ولا تنجح في إضعاف صناعة كوريا الجنوبية القريبة منها أو في إضعاف الصناعة الألمانية وكلتاهما أقل تطوّراً بكثير من مثيلتهما الأميركية؟

ليس ترامب ماويّاً، ولا ماو هو السبّاق إلى صياغة نظرية الأمم التي تغتني عبر إفقار أمم أخرى. لا أقصد مماثلة النظم السياسية – الاقتصادية بالتأكيد، لكننا نجد أصول هذه النظرية في النازية وتحديداً في النظرية التي بلورها الأخوان شترايسر وتبنّاها هتلر في إنجيله «كفاحي». تمييز نظرية الأخوين شترايسر عن أفكار هتلر مهم هنا مع أنّهما احتلّا مواقع مهمة في الهرم النازي. ثمة تطابق مذهل بين نظريتهما ونظريات ماو تسي تونغ ونظريات التحرر الوطني. إذ لم يدع هذان إلى مطاردة اليهود بوصفهم عرقاً غير آري، كما نظّر هتلر، بل بوصفهم ممثّلين لرأس المال المالي الذي تنبغي محاربته لأنه يشلّ رأس المال الصناعي المنتج. كانت نظريتهما تقول إن النازية لا تختلف مع الماركسيين حول فكرة الصراع الطبقي، لكن الأخيرين «لا يدركون» أن الوضع الراهن في ألمانيا يجعلها أمة بروليتارية تصارع طبقياً أمماً رأسمالية. هنا يصبح اليهود مقابلاً للكومبرادور في نظرية ماو تسي تونغ ولأرباب الصناعة الأميركيين في نظرية ترامب.

الفكر القومي يصوّر الأمة ضحية. ولكن ليس ثمة قائد قومي نجح في إثارة جمهرته بالاكتفاء بالشكوى التي تظهره ضعيفاً. تفسير الاستغلال والشكوى من الاضطهاد هو شغل المنظّرين لأن النظرية مرادف للعجز. أما القائد فهو الذي يترجم «الحكي» إلى فعل. على امتداد التاريخ، كان ثمة سيل من الكتاب والإعلاميين والمنظرين وأشباههم يتولّون الحقن المكثّف للعقل الجماعي بالشعور بالظلم ليدخل القائد إلى المسرح بوصفه منقذ الأمة التي أصابها الوهن واستغلّها الآخرون. والمفارقة أن معظم من نظّروا للنظم القومية كانوا يبشّرون بالقائد القوي الذي ينهي عهد التنظير مدشّناً عهد الفعل. التنظير القومي يحتقر نفسه ويحتفي بالفعل الحسم. هكذا تتحول العدوانية التي يحتويها الفكر القومي قوةً تدميرية في التطبيق، إذ يحدّد القائد عدو الأمة وفقاً لما يرى، فيقتنع أتباعه بأن المفاوضات والديبلوماسية من شيم الضعفاء وأن لدى القائد وسائل حسم تخرق المألوف.

وخرق المألوف هو ما يضفي هالة على الزعماء القوميين بين جمهورهم. وغالباً ما نجحت النظم القومية في تحقيق نتائج إيجابية يحسّها المواطن العادي في المدى القصير، لكن الدمامل التي تزرعها تلك الحلول سرعان ما تنفجر لتغرق الجميع. وهذا هو الثمن الذي دفعه الألمان والعراقيون والشعوب التي تعرّضت لعدوانهم في ظل سيادة النازية والبعث، وهي ويلات تركت بصماتها على المجتمعات حتى بعد سقوط النظامين وأنظمة أخرى مشابهة.

عدوانية وشعبية القوميين الصاعدين لا في أميركا وأوروبا فحسب بل في روسيا والهند وإيران وتركيا وغيرها، ستلقيان بظلالهما على حياتنا بهذه الدرجة أو تلك. بشاعات الصراعات الدموية بين الدول الكبرى باتت شبه مستحيلة في العصر الراهن. لكن ظاهرة انبعاث النزوع القومي في عالم يتعولم هي بحد ذاتها واحدة من مفارقات التاريخ. ولئن انطوت صفحة الحروب القومية بين الدول المتقدمة بعد أن خبرت شعوبها عبثيتها، فإن الحروب الداخلية الدموية في بلداننا تتغذّى وستتغذّى على التنافس القومي بين تلك الدول، حتى وإن كانت جذور حروبنا تضرب في بنى مجتمعاتنا المتعفّنة.

سندخل التاريخ كما دخلته هوية القبيلة وستدخله هويّات الطوائف والأديان. نسخر اليوم من مجتمعات قائمة على كيان القبيلة التي يتضامن أبناؤها ويحرّمون عدوان أحدهم على الآخر ويحللون العدوان على القبائل الأخرى ويمجّدون الانتصار عليها. ونفخر بأن العالم الحديث يقوم على كيان الفرد الذي ينخرط في علاقاته مع الآخرين متكافئاً معهم أياً يكن انحداره العرقي أو الديني أو الطبقي. وسيسخر القادمون من البشر من أجدادهم الذين كونوا جماعة اسمها القومية ترسم خطوطاً تحيط بهم وتسمّيها الوطن على من يريد دخوله حمل كرّاس كانوا يسمّونه جواز سفر. سيستغربون أنهم كانوا يحرّمون عدوان أحدهم على الآخر ويحللون العدوان على الأوطان الأخرى ويمجدون من ينتصر عليها. وسيفخرون بأن الفرد صار ينخرط في علاقاته مع الآخرين متكافئاً، أياً يكن انحداره الوطني.

وبما أن الهويّة لا تتعرّف أو تتكون إلا في مواجهة هوية أو هويّات مختلفة، فلعلّ ترسّخ الهوية العالمية ينتظر مجابهة البشر لهويّة مقابلة أخرى هي هوية سكّان الكواكب الأخرى. من يدري؟

* كاتب عراقي

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى