الوعي القومي العربي في ظل الحكم العثماني مقارنة مابين عبد الرحمن الكواكبي وفرح انطون
عبير حيدر
يعتبر عصر النهضة العربية أهم مرحلة حددت موقف العرب من الآخر، لاسيما أن الآخر أصبح نموذجا للتقدم. وبالتالي جميع المفكرين العرب دون استثناء من المصلح الديني إلى العلماني تأثروا بالتجربة الغربية، وحاولوا أن يجيبوا على سؤال: كيف تقدم الغرب لكي يسيروا على غراره. وهذا المناخ طبع كلّ مثقفي الدولة العثمانية من عرب وأتراك وألبان وغيرهم، لهذا سنجد أن المصلح الديني الإسلامي راح يفتش عن العلم والدستور في الغرب على أنه جزء من الإسلام. فإذا كان المصلح الإسلامي أراد أن يؤسلم التجربة الأوربية، فإن المثقف العلماني أراد أن يستعيد التجربة كاملة دون أن يعني ذلك أن المثقف العربي لم يكتشف المصالح الحقيقية للغرب في بلاده.
لهذا طرحنا في بحثنا هذا السؤال التالي:
1- كيف تعامل كلّ من المصلح الديني والمثقف العلماني مع التجربة الغربية وكيف ساهمت في تبلور وعيهم الذاتي، وما هي أوجه المقارنة من حيث التشابه والاختلاف.
2- ما الذي استعاده كل من المفكر الديني والعلماني من الغرب وما الذي تركه.
لهذا اخترنا كلا من عبد الرحمن الكواكبي نموذجا للمصلح الإسلامي وفرح انطون نموذجا للمفكر العلماني ..
عبد الرحمن الكواكبي وفرح انطون بين الرابطة العربية والرابطة العثمانية
وجد المفكرون العرب مثل نجيب عازوري وعبد الغني العريسي والكثير غيرهم، وخاصة في كل من سوريا ولبنان وهما تحت الحكم العثماني المباشر، ضالّتهم في المنتديات والصحف والجمعيات (القحطانية، المنتدى العربي…) لنشر الوعي وغرس بذور الحرية في نفوس أبنائها ساعدت فيما بعد في تبلور الوعي القومي العربي.
كان للظروف الداخلية المحيطة والخارجية أكبر الأثر في رسم حدود هذا الوعي، من الاستبداد الحميدي (1876-1908) الذي أطبق على الحكم بيد من حديد، حيث ألغى الدستور ونشر بوليسه السري في كل مكان فلاحق المفكرون وكتم الأصوات وتحوّل عمل الجيش من حماية الدولة إلى التجسس، إضافة إلى قهر واستغلال الناس من قبل فئة الإقطاعيين التي تشابكت مصالحهم مع السلطان العثماني.
فترة الانحطاط العثماني هذه تزامنت مع بداية تغلغل الأفكار الجديدة القادمة من وراء البحار(الغرب) إلى الشرق من حرية ومساواة وحق الشعوب بتقرير المصير، بالإضافة إلى الأثر الفاعل للبعثات والإرساليات التبشيرية التي انتشرت في الدولة العثمانية حيث ساهمت في بعث الآداب العربية واللغة العربية. فبدأ المثقفون العرب يدركون عظمة تاريخهم ودورهم التاريخي في التمدن الحضاري للغرب وبدأ هذا الشعور ينمو رويدا رويدا…هذا المناخ ساعد في بروز العديد من المفكرين السوريين واللبنانيين الذين وعوا تمايزهم عن العثماني فلهم لغتهم الخاصة وتاريخهم المشترك فبدؤوا يطالبون بحقوق وطنهم في ظل الإمبراطورية العثمانية.
سنتناول شخصيتين ساهمتا في النهضة ووعي الآخر هما الكواكبي وفرح انطون، فرغم تشابه الظروف العامة المحيطة بكل منهما، من ضعف الدولة العثمانية والحكم المركزي وبروز الأطماع الأوروبية، التي خسرت الامبراطوية في مواجهتها كل من بساليا ومصر وتونس. لكن كلا منهما عبّر بطريقته الخاصة عن وعيه الذاتي بالانتماء وبالمستقبل. فتراوحت الأصوات في تلك الفترة ما بين داعية إلى إحياء التراث الإسلامي كطريق للخلاص وأخرى منادية بالعلمانية والحداثة والعقلانية متأثرة بالأفكار الأوربية وبنهضة الغرب.
نشأ الكواكبي في حلب التي اعتبرت في تلك الفترة العاصمة الشرقية للدولة العثمانية، شكلت مركزا لإقامة القناصل الأجانب بحكم قربها من الآستانة، قبلة أنظار البعثات التبشيرية والتعليمية، ساهم هذا بطريقة ما في نشر الكثير من الأفكار التنويرية1،كل هذا لعب دورا في إطلاع الكواكبي على أفكار فلاسفة أوروبا الحداثيين رغم أن المنبع الأساس لأفكاره ظلّ القران والسنّة، أتقن العربية والتركية، حرر أول جريدة عربية “الشهباء” 1877 في حلب، وقد أغلقت لاحقا ولوحق وصودرت أملاكه رافضا المناصب مقابل توقفه عن نقد السلطنة العثمانية.
أما انطون فتخرج من مدرسة كفتين في طرابلس الشام وكانت تعتبر من المعاهد الوطنية في لبنان أتقن العربية والفرنسية وهذا ساعده على التعرف على مفكري الغرب لاحقا فترجم لهم إلى اللغة العربية أهم أعمالهم .بالإضافة إلى تعمقه في التراث العربي الإسلامي، فوجد ضالته في ابن رشد وترجم له في جريدته (الجامعة) وشرح فلسفته واعتمد بعض أفكاره لدعم خطابه العلماني.
إذن كيف نظر كلّ من المفكّرين إلى الحكم العثماني؟
الكواكبي :
هاجر الكواكبي إلى القاهرة 1899م وكانت ملتقى الكثير من المفكرين والمهاجرين السوريين الهاربين من بطش السلطة العثمانية، فنشر مقالاته (طبائع الاستبداد) وأصدر كتابه (أم القرى)، حاملا الكلمة سلاحا بوجه الاستبداد الحميدي والجهل الذي خيم على بلاده خاصة وعلى عامة المسلمين.ففي كتاب (أم القرى) الذي يأخذ شكل المدينة الفاضلة، يجتمع ممثلو المسلمين في أصقاع العالم لعقد مؤتمر في مكة، وكل يتحدث من زاوية رؤيته عن سبب انحطاط الأمة وسبل تطورها مجمعين على أن الاستبداد أساس التخلف وضعف الأمة. ويقول في هذا الصدد (إن اصل الداء هو الاستبداد…فالمستبد في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ..يضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته )1
انطلق الكواكبي من فكرة إصلاح الأمة، وكان من الطبيعي بوصفه مسلما أن يبدأ بإصلاح الإسلام الضروري لإصلاح الأمة لأنه أساس الإصلاح السياسي والاجتماعي. فكون الحاكم مسلما لا يبرر ظلمه واستغلاله، ولا أدل على هذا قوله (كأن كون الأمير مسلما يغني عن كل شيء حتى العدل، وكأن طاعته واجبة على المسلمين وإن كان يخرب بلادهم ويقتل أولادهم ويقودهم ليسلمهم لحكومات أجنبية….)2.
كيف أراد الكواكبي أن يصلح الإسلام؟
الكواكبي لم يدع للثورة على العثمانيين فطريق الحرية هو الإصلاح الديني، الحجر الأساس الذي تبنى عليه باقي الإصلاحات.
نظر الكواكبي إلى الإسلام نظرة قديمة وذلك بالعودة إلى الأصول، وكان من الطبيعي أن يدعو للعودة إلى الأصول حتى يحرّر الإسلام مما علق به من خرافات وبدع وعلم كلام وتصوف، اعتقادا منه أن الإسلام الأول هو الإسلام الحقيقي ويقصد به الإسلام الراشدي، يؤكد هذا قوله: (وهكذا خرج الدين من حصانة أهله، وتفرقت كلمة الأمة، فطمع بها أعداؤها…)3.
لماذا اعتبر الكواكبي أنّ الإسلام الأول هو الإسلام الحقيقي؟ لسبب بسيط انه يريد من الإسلام أن يكون رابطة ما قبل تحوله إلى شيع ومذاهب وفرق اعتقادا منه أن هذا التنوع في الإسلام هو الذي أدى إلى ضعف المسلمين. يتحدث الكواكبي : (إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد…لا يخفى عليكم أن أهل الجزيرة …وقد نشأ الدين فيهم وبلغتهم فهم أهله وحملته وحافظوه وحماته وقلما خالطوا الأغيار)4. لكن هذه نزعة طوباوية لا تأخذ التاريخ بعين الواقع، إذ لا يمكن لأحد أن يعود بالتاريخ إلى الوراء فالتاريخ لا يعيد نفسه/ فضلا عن ذلك، فإن الكواكبي كان يعتقد إن المرحلة الراشدية هي التعبير الأمثل عن الشورى الديمقراطية، وبالتالي ليس للشعب دور في تحقيق الديمقراطية وتغيير السلطة وإنما يتم هذا بفعل علماء الأمة العقلاء. هو القائل (إن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وحكم ..وقد جعلت أصول حكومتها : الشورى الأرستقراطية )1. وهذا أمر أيضا لا يتطابق مع الواقع إذ لم يكن الحكم آنذاك شورويا، بدليل حكم (عثمان بن عفان)هو حكم أسرة أموية وقامت الثورة عليه بسبب هذا. فإحياء التراث الإسلامي يوحد المسلمين، ولا يمكن هذا دون التفكير بالعرب بسبب تنافر أخلاط المسلمين وعدم وجود رابطة قومية تجمعهم، يحدثنا هنا : (فمسلمو جزيرة العرب ليس فقط تجمعهم الرابطة الدينية لكن أيضا الجنسية وهذا يختلفون به عن باقي المسلمين، فلهم الفضل في حفظ الإسلام..)2.
لهذا طالب بالجامعة الإسلامية ويكون قائدها عربيا، يقول :(إقامة خليفة عربي قرشي مستجمع للشرائط في مكة)3.tالمسلمون لا يجمعهم إلا شهر الحج، أمّا المسلمون في جزيرة العرب تجمعهم الجغرافيا ورابطة الدين والتاريخ واللغة. فحين خرج الدين من العرب منذ ألف عام استحكم الضعف بالمسلمين. فحبّه للعرب والإشادة بتاريخهم وعراقتهم وعظمة لغتهم ومحاولة إعادة دورهم للتاريخ، وبأن الأتراك لم يقدموا أي عمل جليل للإسلام إلا بإقامة بعض الجوامع و قتلوا وشردوا العرب لا يعني أن الكواكبي كان قوميا عربيا. لأن شعوره جاء نتيجة للاستبداد التركي وتعصبهم لأنفسهم ضد العرب، فالأتراك يذكرون الأمثال المسيئة بحق العرب : فهم العبيد والشحاذون والقذرون والأجلاف..الخ، ومقابل هذا يشبه العرب الأتراك بالقمل والجراد كمثال للظلم والفساد 4.
هذا يعبر عن بغض شديد متبادل بين الطرفين، يعبر عن نزعة شعوبية شبيهة بمشاعر العرب ضد الفرس في العصر العباسي بالإضافة لهذا فالدعوة إلى وجود أمير عربي في الوقت نفسه الذي يدعو فيه إلى الجامعة الإسلامية لا تعني انه قومي عربي لأن مفهوم الخلافة مفهوم إسلامي قديم وليس معاصرا، ومن الصعب على مفكر إسلامي رغم تأثره بالغرب أن يكون قوميا لأنه لا يستطيع أن يتحرر من وعيه الذاتي الإسلامي.
لماذا فكر الكواكبي على هذا النحو؟
لقد تأثر الكواكبي بالتجربة الغربية. فقد تأسس وعيه على وعي الأخر، حيث كان ينظر إلى التجربة الأوروبية الماثلة أمامه بعين الإعجاب ويريد أن يجعل منها تجربة إسلامية، والدليل هو المقارنة ما بين أخلاق الشرقي والغربي، في النهاية مال إلى أخلاق الغربيين.
(فالغربي قوي النفس محب للحياة وحريص على القوة ومحب للعلم أما الشرقي فهو ضعيف القلب واللطف مع الخصم ولا يغضب ولا يغار إلا على العرض والشرف.الغربي يستحلف أميره على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة. الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات، الغربي يعتبر نفسه مالكا لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكا لأميرهم، الغربي له على أميره حقوق والشرقي عليه لأميره حقوق، الغربيون قضائهم وقدرهم من الله أما الشرقيون من شفتي المستعبد، الغربي ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس والشرقي سريع التصديق…الخلاصة : الشرقي ابن الماضي والخيال والغربي ابن المستقبل والجد)1
فالكواكبي الذي عانى من استبداد السلطة العثمانية والتي سحبت منه سلطة الأشراف ظلت مشكلته الرئيسية هي مشكلة الحكم.
وهنا يظهر بشكل أوضح تأثره بالتجربة الغربية حين رأى إن النموذج الأمثل للحكم هو (الديمقراطية التي سماها الشورى) أي ساوى بين المفهومين، طالب بالحكم الدستوري المقيد لكن القائم على أساس إسلامي، وبهذا حاول التوفيق بين النظم السياسية الغربية ومبادئ الشورى الإسلامية، إذا الغرب ذكر المفكر المسلم بما ينطوي عليه دينه من إمكانية تكرار نفس التجربة في الشرق.
نجد أن الكواكبي في كتاب طبائع الاستبداد قد تحرر من نزعته الطوباوية في أم القرى فجاءت مقالاته تعبر عن مطالب سياسية واضحة، فالدور الأساسي لتمكين المستبد والاستبداد هو لعملاء السلطان من وزراء ورجال دين وغيرهم الذين تشابكت مصالحهم الخاصة مع مصالحه2.
ولهذا أراد أن يحرر الأمة من أي استخدام للدين والعلم في تمكين استبداد السلطة، فالتحرر من الاستبداد لا يكون إلا بالتحرر من الجهل بالعلم وبالدين بالعودة إلى أصوله، لهذا دعا الكواكبي للفصل مابين الدين والسياسة، ففصل مابين الخليفة الذي يشرف على الأمور الدينية للمسلمين جميعا (لا يتدخل في شيء من الشؤون السياسية والإدارية في السلطنات والإمارات قطعيا..)3.
وما بين حاكم مدني يقضي بالأمور السياسية والمدنية كلها، حماية للدين من مثالب السياسة.
وهنا نجد الأثر الأكبر للغرب في فكره، فالكواكبي لم يجد حرجا في دعوة الغرب لمساعدة الشرق وأيضا دون أي إحساس بالدونية لأن فضل الشرق سابق على الغرب.
فيدعو للغرب قائلا : (رعاك الله يا غرب، وحياك وبياك، قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت، وكفيت،..وقد اشتد ساعد بعض أولاد أخيك، فهلا ينتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك السور،..فيشكرون فضلك والدهر مكافأة )1
لكن هل كان إعجابه بالغرب إلى درجة طلب مساعدته للنهوض بالشرق مانعا من إدراك أطماع الغرب؟ بالتأكيد لا، فالكواكبي كان من الأوائل الذين تحدثوا عن أطماع الغرب واستخدم كلمة الاستعمار.
يذكر ذلك (الغربي يعرف يستأثر فمتى رأى فيكم استعداد واندفاعا لمجاراته أو سبقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطا كبيرا. كما يفعل الروس بالبولنديين وكما هو شان دول الاستعمار..)2.
وبنفس الوقت يعتبر الشرق أخا للغرب، هذا دليل على نظرة الكواكبي الإنسانية، لأنه طالب المساعدة من أحرار الغرب وفرق ما بينهم والحكومات المستعمرة.
فالكواكبي عبر عن تناقضات عصره، فهو يحار بين وعي ذاتي نما بمحيط إسلامي، فالتجربة الإسلامية الغنية والمليئة بسلبياتها وإيجابياتها ماثلة أمامه. وهو متأثر من جهة أخرى بكل نجاحات التجربة الأوروبية على الصعيدين الإنساني والعلمي فرغب بإعادتها في الشرق، لكن هو مفكر يعيش في إمبراطورية كبيرة مشاكلها عديدة.
لهذا مرة هو عربي ينادي بإعادة الخلافة للعرب ومرة عثماني حين يرى الأطماع الاستعمارية ومرة إسلامي ينادي بالجامعة الإسلامية3.
لكن في النهاية ظلت لديه الرابطة الإسلامية هي الأساس والبديل عن الرابطة العثمانية لأنه بالأساس كان معاديا للعثمانيين واستمر كذلك حتى دفع حياته ثمنا لأفكاره الحرة، فقد قيل إن أعوان السلطان الأحمر* قد دسوا له السم فمات بعد نصف ساعة 1902م على اثر احتسائه فنجان القهوة في مقهى (يلدز) قرب حديقة (الازبكية ) بالقاهرة.
فإذا ما انتقلنا إلى مفكر آخر ذا سمات مختلفة عن الكواكبي ألا وهو فرح انطون فسنجد أنفسنا أمام مفكر يمثل احد نماذج التأورب أو التغربن بكل معنى الكلمة دون أن يجد حرجا في الإعلان عن ذلك.
فكر فرح انطون :
فرح انطون بالأصل مفكر سوري مسيحي، فقد كان الطابع الغالب على المثقفين المسيحيين التأورب أصلا، فرزق الله حسون ** الحلبي كان متأثرا بالتجربة القيصرية الروسية. والصابونجي* متأثر بالإنكليز، ناهيك عن أولئك الذين تأثروا بالفرنسيين كأديب إسحاق**.
هاجر انطون أيضا إلى مصر أيضا، كأغلب مفكري عصره الذين اضطهدوا من قبل السلطان عبد الحميد، وأصدر مجلته “الجامعة ” من القاهرة 1899م، وكان من الطبيعي وهو يقطن في دولة تقوم على نظام الملة ويعمها الجهل والتخلف والانقسامات أن يكون علمانيا. اعتبر أن رسالته كوطني هي توعية أبناء الشرق، فحوّل صحيفته “الجامعة” إلى منبر تعرف من خلالها قراؤه على روائع الأدب المترجم والفلسفة الغربية والعربية.
كيف نظر انطون إلى الإمبراطورية العثمانية ؟
حال الشرق لا يصلح إلا بالإخاء، قائلا :(لا يتكلف البصير الناظر الآن في أمور الشرق مشقة شديدة الحكم بان هذه المبادئ (حرية الفكر والقول والعمل) هي السفينة التي يتوقف عليها نجاة الشرق..فدخول الإخاء إلى الشرق مقدم على دخول الحرية)1.
لكن الرابطة الأساسية عند انطون ليست القومية العربية إنما جنسية الدولة (العثمانية ). يقول في هذا الصدد 🙁 (دولتنا العثمانية العزيزة على كل عثماني هي جزء من هذا الشرق العزيز على العالم اجمع بالنظر لما له في التاريخ من أثار عظيمة..)2
لكن حفاظه على فكرة العثمانية ليست دفاعا عن الدولة ولاعن حالها بل دفاع عن رابطة تتجاوز الانتماءات الدينية لذلك هو القائل 🙁 لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم، إلا في ظل مجتمع متطور ومتجانس، ومفاهيم حضارية جديدة)3.
لكن علمانية انطون لم تكن فقط من اجل التقدم على طريقة الغرب ولكن محاولة منه لتأكيد المساواة بين أبناء الدولة العثمانية، بحيث لا يكون الانتماء الديني أساس للتمايز. إذن فالرابطة العثمانية هي التي تجمعه مع أفراد هذه الأمة وليس الرابطة الدينية أو العربية.
لكن تأثر فرح انطون بالآخر الذي هو الغرب، لم يمنعه من رؤية أطماعه بالدولة العثمانية وآماله التوسعية والاستعمارية، فدعوته لإصلاح الدولة لم يكن فقط من اجل نيل حقوق فردية لكن لتشكل قوة بوجه أطماع الغرب لأنه امن بان خلاص الشرق يتوقف على صلاح هذه الأمة. وكان معتزا بمسيحيته معتبرا أن المسيحية الحقيقية هي مسيحية الشرق لهذا كان يؤكد دوما :(فنحن المسيحيين الحقيقيين ..)4.
لكن اعتزازه بمسيحيته الشرقية كانت بعيدة التعصب والتدين لأنه كان ينظر إليها كإرث ثقافي.
ويظهر هذا أكثر بموقفه من الصراعات التي نشبت بين الأسقف السوري واليوناني على كرسي بطريركية إنطاكية، فهنا يقدم مصلحة الدولة على مصلحة الطائفة لهذا يؤكد عليها بالإسراع بالموافقة على الأسقف السوري لأنه هو جزء من هذه الأمة بعكس اليوناني. يتحدث هنا عن هذا :(السوري ابن الدولة واليوناني دخيل عليها ..)1.
كيف أراد انطون أن يصلح الدولة العثمانية ؟
إذن المشكلة عند فرح انطون هي البحث عن طريق التقدم والترقي العثماني، فهاجسه هاجس ذاتي يرى تحققه في تجربة الآخر، ولهذا فان معجم الخطاب لديه مليء بمفاهيم الحداثة الغربية كالعلمانية والوطنية والمساواة والإخاء والعدل.
فأهداف الثورة الفرنسية (الإخاء، الحرية، المساواة)حاضرة في كل مطالبه الإصلاحية. ففي مقالة بعنوان الإخاء والحرية يتحدث عن (إن نجاة الشرق هي بإدخال الحرية السياسية إليه ..لكن الإخاء هي قوة الجذب والحرية قوة الدفع فدخول الإخاء إلى الشرق مقدم على دخول الحرية )2
كيف لا يكون هذا وهو يعتبر الثورة الفرنسية أعظم حدث في القرن التاسع عشر حيث وضعت أسس الحرية في العالم بأجمعه ونبهت الشرق والغرب إلى حقوقهم .
فلا نتعجب إذن من انطون حين يرى بالجنسية (المواطنة ) الحل الذي يجمع أبناء الأقوام والأديان المختلفة في الدولة العثمانية. فالشعور الوطني مفقود في الشرق ولا يستطيع الشرقيون أن يفهموه، لهذا كان شعاره الدائم (الله والوطن) هما الأساس لأمة واحدة فالإيمان بالله واحد بين كل الأديان فيقول هنا :(هو أساس الفضائل كلها وعامل مشترك بين كل أجزاء الإنسانية)3
وحبّ الوطن يوحد مصالحهم وأمالهم وتقربهم من بعضهم (هو جزء من الإيمان كما يقول العرب ورباط آخر يربط عناصر كل امة مهما اختلفت مطالبها ..)4 .
ويبقى العلم والتربية والثقافة الطريق لغرس هذه المشاعر ونشر هذا الوعي، لهذا نجد أن خطاب انطون خلا من أي فكرة تدل على تعصب ديني أو قومي. فرغم تأكيده صفة العثمانية كانت بعيدة عن التعصب. لأنه يؤكد عليها كرابطة وطنية في دولة متعددة القوميات يعزز هذا قوله: (جميع العثمانيين امة واحدة )5.
وأيضا : (ما نريده أن ننشئ بإخلاص الجامعة الوطنية العثمانية لتكون سفينة النجاة للجميع )6.
لهذا لم يكن انطون مع الجامعة الإسلامية كغيره ، ففكرة الجامعة الإسلامية فكرة ما قبل حداثوية .
ولأنه وجد في الرابطة العثمانية مصلحة للمسلم فهي تحقق له مكانة سياسية واجتماعية ودينية وأيضا للمسيحي لأنه يفضل الرابطة العثمانية كصفة للدولة على الرابطة الإسلامية لأنه اعتبر أن الدين يستخدم كغطاء تستخدمه السلطة لكي تجذب الشعوب المختلفة التي لا يوجد ما يوحدها غير العامل الديني لكي تحقق غايات سياسية .
فيقول: (إذا علم الشعب أن غرضهم السياسة لا الدين والدفاع عنه وإعلاء كلمته على كلمة أي دين غيره فانه قلما يتأثرون لكلامهم أو يتبعهم…)1.
فالتعصب للأمة وللجنسية يلعب دور الموحد بين شعوبها المختلفة وهذا يختلف عن التعصب الديني الذي يفرق بين أبناءها المختلفي الانتماءات الدينية.
بالإضافة أنه اكتشف أن التقرب الأوروبي منه ليس إلا لتحقيق مصالح الغرب في الشرق، لكن رغم هذا ظل مفهوم الأمة لدى فرح انطون شبه غامض، فمرة يرانا شرقا فهو القائل :(وأنا الشرقي قلبا ونفسا )2. وأيضا قوله :(لا تحتاج هيئتنا الشرقية إلى أمر جديد .لا يعوزها إلا شي واحد هو حسن اختيار الحكام )3. ومرة يرانا امة عثمانية، ومرة يرى الوطنية بوصفها تعبيرا عن الأمة، كما مر معنا سابقا وهذا يعود إلى أن فكرة الأمة في ذلك الوقت قد أخذها من أوروبا في الوقت الذي كان فيه مفهوم الأمة الأوروبية متطابق مع العرق والجنسية.
لهذا لم نجد لديه مفهوم العرب أو العروبة كمعبرة عن شعور قومي فكلمة عربي لديه. كان يخص بها أهل جزيرة العرب حث يتحدث عن أخلاقهم بقوله (البداوة والحرية صنوان)4 ويؤكد هذا حين يتحدث عن انتشار جريدته الجامعة يميز ويقول أنها تقرأ من قبل العناصر العديدة المختلفة من (سوريين ومصريين وعرب وجزائريين وتونسيين وهنود ..الخ . لأن مفهوم الأمة في إمبراطورية متعددة القوميات كالدولة العثمانية لا يتطابق مع مفهوم الأمة الأوروبية.
وكما واجه الكواكبي مشكلة الحكم من منطلق مفهوم الإسلامية المتأثرة بالمفاهيم الغربية
ووجد الحل بالشورى الأرستقراطية، فإن فرح انطون واجه نفس المشكلة لكنه قدم أفكاره دون أي غطاء واضحة، جريئة. يقول 🙁 فليس بغير المفاهيم الغربية يستطيع العرب والمسلمون أن يضعوا حداً لتخلفهم ويلحقوا بركب الحضارة. إن المجتمع الغربي، الذي يرتكز على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والأخوة، والديمقراطية، استطاع أن يحقق نهضة علمية حديثة، ويصهر الأقليات الدينية في بوتقة واحدة تجمع بين الملل والأديان والطوائف والاثنيات في مجتمع متجانس. وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه لنتطور ونخرج من السلفية )1. فالسلطة ديمقراطية دستورية، لا تواجد للدين فيها، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست علاقة مستبد بمستبد به بل علاقة حرّ بحرّ. يوضح بهذا الصدد 🙁 أن يمد الحاكم إلى المحكوم يد بيضاء..إنما ينهض الشرق بمستبد عادل …)2
فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم يجب أن تسودها الحرية، لكن لا يقصد الاستبداد الذي ينشر الرعب والذعر في نفوس مواطنيه، لكن الذي يمنع بالقوة النهب والقضاء على الفوضى بحفظ الأمن ونشر العدل بين الناس بإقامة بالعدل بين مختلف الناس.
لهذا فان إصلاح الدولة العثمانية هو عمليا إصلاح للحكم العثماني وبالنهاية رفض للاستبداد الحميدي. فهو الذي دفع أصلا فرح انطون لهجرة بلاد الاستبداد والقهر إلى مصر اعتقادا إن مصر هي بلد الحرية. يقول في هذا الصدد :(الآن مصر سائرة سيرا حثيثا في سبيل المدنية والعمران، ومستعمرتها السودانية الواسعة قد عادت إليها والحرية السياسية قد أطلقت فيها فانتعشت بها النهضة العلمية والأدبية )2
إذن : آمن انطون بان أساس الإبداع الفكري هو الحرية السياسية وكان موقنا بتأثير الكلمة في إحداث التغيير وخلق جيل الجديد أطلق عليه لقب (النبت الجديد) حاملا ثقافة جديدة تتجاوز الخلافات الدينية والمذهبية توحد بين كل العثمانيين، هذا الجيل الذي يؤمن بالمساواة وحقه العيش بحرية سيكون هو المنافس الحقيقي للأجنبي في كل المجالات الاقتصادية والفكرية والسياسية.
– الخاتمة –
وبعد الإطلاع على كل ما حمله كل من الكواكبي وانطون من قيم ومفاهيم في وجه الاستبداد .
نجد أن هناك اختلافا وتشابها بين المفكرين من حيث وعيهما الذاتي ووعيهما بالآخر.
يكمن التشابه :
في انطلاق كل من المفكرين من أن الغرب هو معيار التقدم. بالإضافة لهذا شكل إصلاح الدولة العثمانية هاجس حقيقي لدى كل منهما. أيضا كان لدى كل من الكواكبي وانطون وعي بأطماع الغرب وخطره على الدولة العثمانية بالرغم من إعجابهما بالغرب وإدراكهما الحاجة له.
هذا بالنسبة لما يجمعاهما كمفكرين عانيا من نفس الاستبداد والظلم ولم يحملا غير الكلمة سلاحا.
أما الاختلاف :
نجد إن العلمانية واضحة وضوحا مطلقا لدى انطون فيما هي ملتبسة عند الكواكبي وفي الوقت الذي كان فيه فرح انطون يدافع عن الرابطة العثمانية كان الكواكبي ينادي بالجامعة الإسلامية .
أيضا كان فرح انطون واضحا في مسألة الديمقراطية ولم يستخدم مفهوم الشورى أصلا في حين مال الكواكبي إلى الخلط بين مفهوم الشورى والديمقراطية والحديث عن الشورى الأرستقراطية .
كان موقف الكواكبي من الأتراك يعبر عن نزعة شعوبية وتعصب واضح بينما فرح انطون عبر عن موقف وطني عام لا تمايز فيه بين الشعوب المكونة للإمبراطورية .
كان فرح انطون متحررا من الأساس الديني في تفكيره وحصره في علاقة خاصة بين الشخص وربه. بينما الكواكبي اعتبر من المصلحين الدينيين.
لكن في كل الأحوال لا يمكننا إلا القول بأن كلا من عبد الرحمن الكواكبي وفرح انطون عبرا عن صرخة حرية في وجه الظلم ما تزال تدوي حتى يومنا هذا بدليل إن الفكر العربي المعاصر مازال يستلهم من أفكارهما.