اليسار في الزمن الثوري
فواز طرابلسي
تحمل الثورات العربية إلى اليسار مزيجاً من التحدي الوجودي والفرصة التاريخية. والفيصل بين الإثنين هو قدرة اليسار على التعلّم من الدروس البليغة التي تحملها العملية الثورية، وبلورة مشروعه ودوره فيها، وتدبّر كيفية الرد على تحدياتها. فلعل في ذلك ما يدفع اليسار إلى مغادرة مندبة النقد الذاتي، كفارة ذنوبه التي لا تنتهي، والاستعاضة عنها بمراجعة للماضي تسهم في فهم أفضل للموقع والدور في الحاضر وتساعد في صياغة إطلالة جديدة على المستقبل. هذا اذا كان بين اليساريين من يريد تجاوز تيارين في أوساطهم: يسار دعم الاستبداد بحجة المسألة الوطنية، ويسار الرهان على التدخل الخارجي سبيلاً إلى تحقيق الديمقراطية.
أسهم اليسار، وشبابه خصوصاً، إسهاماً متواضعاً وإن يكن ذا أثر في الانتفاضات. ففي تونس ومصر واليمن، كان الشباب اليساري في طليعة المبادرين للنزول الى الشوارع واحتلال الساحات والميادين واطلاق شعار اسقاط الحاكم ونظامه. وتمكن هؤلاء الشباب من كسر حاجز الخوف، وتقدموا الصفوف مواجهين القمع والرصاص. في المغرب مثلاً، برزت حركة 20 فبراير التي أطلقت الموجة الشعبية الضاغطة من أجل الاصلاحات. وقد شذّت الحالة السورية بعض الشيء بسبب دور الاحزاب الشيوعية المتحالفة مع النظام، فبرز اليساريون وهم بالدرجة الاولى أولئك المنشقون عن تلك الاحزاب والناشطون بالصفات الفردية أو في مجموعات وتنظيمات صغيرة.
ومع أن اليساريين فازوا بعدد متواضع من الاصوات ومن المقاعد في الانتخابات النيابية في تونس ومصر، فقد بقي الوجه الابرز لنضالهم حاضراً في مواقع الضغط الشعبي لتفكيك انظمة الاستبداد ومؤسساته وتشريعاته واستكمال تحقيق اهداف الثورة.
انتفاضات ضد النيوليبرالية
إن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي حرّك عشرات الملايين من العرب من المحيط الى الخليج خلال العام ٢٠١١ ولا يزال يحركهم ويدفعهم لبذل لانواع التضحيات وصولاً إلى بذل الدم بسخاء، هو العلامة الفارقة على الطابع الديمقراطي والشعبي للانتفاضات وهدفها الجذري الأبرز. يعلن الشعارُ الشعبَ مصدراً للسلطات، ويعلي السيادة الشعبية على كل سيادة اخرى، فردية كانت أو سلالية أو حزبية أو عسكرية أو حاكمة بإسم الاجتهاد الديني. ويقطع بعجز الانظمة العربية القائمة عن إصلاح نفسها بنفسها مؤكداً أن السبيل الوحيد لتحقيق إرادة الشعب هو تغييرها بالقوة، قوة الشعب.
إلى جانب شعار «الشعب يريد» ارتفع شعار مكمّل له، لم يقلّ عنه شيوعاً، هو «عمل، حرية، خبز» الذي وضع حق العمل والعدالة الاجتماعية في صلب العملية الديمقراطية. الجديد في هذا الشعار هو المطالبة بالـ«العمل». ذلك أنه يشير إلى البطالة باعتبارها أحد الدوافع الرئيسة للانتفاضات، والمحفّز الحاسم لدور الشباب فيها. ومعلوم أن العالم العربي يحمل الارقام القياسية العالمية من حيث نسبة الشباب (١٥-٢٤ سنة) بين السكان، ونسبة البطالة إلى السكان (٣٠٪ على الأقل)، ونسبة البطالة بين الشباب (٤٤٪ من اجمالي العاطلين عن العمل). وتشير بطالة الشباب بدورها إلى الطابع الريعي المتزايد للاقتصاديات العربية في ظل العولمة الرأسمالية والاملاءات النيوليبرالية. وليس أدل على فضيحة تلك الاملاءات من أن يسارع مديرا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – تحت وطأة الثورتين التونسية والمصرية – إلى الاعتراف بأن نمو الناتج المحلي لا يقدم حلاً لمشكلة البطالة، علماً أنه كان المقياس الذي فرضته المؤسستان على مدى ربع قرن باعتباره المقياس الابرز لقياس الجدوى الاقتصادية ! وتزداد الفضيحة ضخامة اذا علمنا امرين: الاول، أن المؤسستين اللتين تتحكمان بحياة البشر المالية والاقتصادية، كانتا تقدمان تونس ومصر تحديداً كنموذجين يقتدى بهما من حيث النجاح الاقتصادي في ظل «الاصلاحات الهيكلية ». والثاني، أنه يتعين توفير ٥١ مليون فرصة عمل في العالم العربي بحلول العام ٢٠٢٠، حسب تقديرات «وكالة التنمية» التابعة للامم المتحدة للعام ٢٠٠٩. فأي اقتصاديات تلك التي تقدر على إنتاج فرص عمل بهذه الكثرة؟ وأي تحدّ أكبر من هذا التحدي لثورات يراد لها، ولمن سوف يحكمون بإسمها، أن تبقى محصورة في الحيّز السياسي وحده.
حقيقة الامر أن الانتفاضات تشكل موجة من المقاومات الشعبية المشتركة لمفاعيل النيوليبرالية بعد أكثر من ربع قرن على مباشرة تطبيقها في المنطقة. وهذا ما يفسّر، إلى جانب عوامل اخرى، شمولها هذا العدد من البلدان العربية في وقت واحد.
ولا فصل هنا بين دوافع اجتماعية ودوافع سياسية. فقد ترافقت وتيرة تطبيق الاجراءات النيوليبرالية مع تركّز متزايد للسلطة والثروة في أيدي العائلات والمجمعّات المافيوية-الامنية المرتبطة بالقطاع المالي-العقاري-المقاولاتي، سواء في الانظمة الدكتاتورية العسكرية المتحدرة من حركات التحرر الوطني، أو في الانظمة الريعية السلالية المسيطرة على الاقتصاديات النفطية. ولم يكن صدفة أبداً أن يؤدي هذا التزاوج بين الاستبداد والنيوليبرالية إلى تغليب الدور القمعي للدولة على أي دور آخر كوسيلة رئيسة للضبط الاجتماعي والسياسي. فهو سمة مشتركة بين أنظمة البلدان التي طبّقت فيها إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد. وترافق تركّز الثروة، والتخلي عملياً عن أي جهد تنموي، في ظل نمو الحرمان والتهميش والفقر، مع تنامي الهدر ونهب المال العام، ومع إعادة تصدير عائدات النفط والغاز إلى المراكز الرأسمالية حيث توظّف في تمويل المديونية الاوروبية والاميركية، أو في دعم عملاتها أو الاستثمار في القطاعات المختلفة، هذا عندما لا تجري استعادة البترودولارات الخليجية عن طريق تمويل الحروب ومبيعات السلاح بارقامها المليارية والمواد الاستهلاكية الفاخرة الفاحشة.
لقد كشفت فضائح الحكام العرب المخلوعين، والعشرات بل المئات من مليارات الدولارات التي راكمها كل منهم، همجية تسخير السلطة السياسية في سبيل الاثراء عن طريق نهب المال العام وفرض العمولات على المشاريع الاقتصادية واقتطاع حصص مباشرة من عائدات النفط، والسيطرة على الصناديق السيادية، ناهيك عن التهريب وتبييض الاموال. حدث كل هذا في الوقت الذي حادت فيه الحملة ضد «الفساد» عن فضائح وهموم تلك المنهبة. إذ جنحت للترويج للخصخصة بحجة ترهّل البيرقراطيات الحكومية، ووظفت نظريات «الموازنات المتوازنة » كمبررات للاعفاءات الضرائبية على رجال الاعمال والاغنياء وإلقاء المزيد منها على الجمهور بواسطة الضرائب غير المباشرة، فيما قضت سياسات «التقشف» على دعم الدولة للسلع والمواد الاساسية وقلّصت دورها في التوزيع والرعاية الاجتماعيين إلى حدوده الدنيا.
الديمقراطية هي الطريق الى الاشتراكية
في عالم عربي هذه بعض تداعيات وقع العولمة النيوليبرالية عليه، وتلك تحديات ثوراته الشعبية، لا بد لليسار أن يستعيد مشروعه المجتمعي كاملاً وأن يعيد به إنتاج استقلاله الفكري سبيلاً للوصول إلى استقلاله السياسي والتنظيمي والسلوكي. هذا إن هو أراد البقاء على قيد الحياة والمنافسة في كسب الرأي العام والجماهير الشعبية التي يفترض به تمثيل مصالحها الأكثر جذرية.
وحتى لا نتجاهل السؤال التقليدي «ماذا يعني أن تكون يسارياً الآن؟»، يمكن القول أن اليساري هو من يحاول الربط بين قيمتي الحرية والمساواة. وهو الذي يعي، في ظروف بلادنا الخاصة، أن تحقيق الديمقراطية السياسية مهمة تاريخية متكاملة تتطلب تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات جمهورية ديمقراطية مدنية. واليساري هو من يدرك، بناء على الدروس الاليمة للتجربة اليسارية ذاتها، أن تجاوز سلبيات الديمقراطية السياسية لا يتم بدكتاتورية تقمع الحرية دون أن تحقق المساواة، وإنما بتعزيز الحرية بالمساواة، أي بتحرير الديمقراطية من سطوة رأس المال وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية.
بهذا المعنى، فمبرر وجود متجدد لليسار في العالم العربي هو دفع الثورات الديمقراطية إلى نهاياتها المتساوقة، وتطعيم الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية عن طريق المساهمة في حلّ التناقض بين المساواة السياسية للمواطنين في الدولة واللامساواة بينهم في المجتمع، وهي اللامساواة الناجمة عن الفوراق والامتيازات الطبقية بينهم.
إن الديمقراطية هي الطريق إلى الاشتراكية. والحد الأدنى المشترك بين الاشتراكيين لمدلول المفردة هو الاقتناع بأن هذا النظام الرأسمالي ليس نهاية التاريخ، ولا هو خاتمة الطموح الانساني. بل إن التاريخ نفسه، بما فيه انجازات الرأسمالية ذاتها، بات يسمح بتجاوز الرأسمالية. فقد بلغت البشرية درجة من التطور وفرت من الموارد، والثروات، والمعارف ما يسمح بسدّ الحاجات الاساسية لجميع سكان المعمورة من عمل، ومعاش، وسكن، وعلم، وصحة، وبيئة نظيفة وآمنة. وإن العقبة الاساسية أمام تحقيق تلك المهمة التاريخية هي الملكية الفردية ومبدأ الربح، الركيزتان الاساسيتان للنظام الرأسمالي. وليس أدلّ على هذه الحقيقة من الارقام التي تتداولها وكالات الامم المتحدة للتنمية من أن عشرة بالمئة فقط من ثروات أول مئة من أغنياء العالم كفيلة بسد تلك الحاجات.
على أن هذه الحقيقة لا تعفي الاشتراكية والاشتراكيين من التحدي الاكبر الذي تكشفت عنه تجارب «الاشتراكية المتحققة». نقصد كيفية حلّ المعادلة التاريخية الصعبة، معادلة زيادة إنتاج الثروة من أجل تأمين المزيد من العدالة والمساواة في توزيعها. لا توجد وصفات جاهزة، بل توجد محاولات حل تستحق الدرس منها تجربة حزب العمال البرازيلي في الحكم خلال العقدين الاخيرين.
مشروع لعصر العولمة
إن استعادة اليسار لمشروعه المجتمعي كاملاً، يضعه أمام امتحان ادواته النظرية لانتاج المعارف عن عصر العولمة بآليات تشغيله واتجاهاته الرئيسية وخصوصاً عن وقعه المميز على المنطقة. والمفارقة الملفتة هنا هي ضعف الجهد الفكري والاقتصادي حول موقع المنطقة العربية من العولمة باختلاف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل أولى نقاط الاستدلال على هذا الطريق هي النقاط التالية:
أولا، تعيين الاطار العام لخصوصية صلة المنطقة بالعولمة من خلال وجود ركيزتين للامبريالية المعاصرة فيها: ١) آليات الاستحواذ على الموارد والثروات الطبيعية – النفط والغاز خصوصاً – وإعادة تصدير عائداتها الى المراكز الاوروبية والاميركية؛ ٢) انفراد المنطقة دون سائر مناطق العالم، بوجود مشكلة من بقايا العهد الكولونيالي هي الاستعمار الاستيطاني العنصري لفلسطين، المستمر في قضم الاراضي والاستيطان على كامل فلسطين التاريخية إلى يومنا هذا، عدا عن توسعيته واحتلاله اراضي الجوار.
ثانياً، استكشاف الطبيعة المتناقضة للعولمة بظواهرها الجديدة من مَنْهَبة الفقاعة المالية واخطارها التدميرية، إلى نقل الصناعات إلى بلدان الجنوب للقرب من المواد الاولية والأيدي العاملة الرخيصة، وهي ظاهرة لم تسهم في الحد من البطالة والفقر في بلدان الجنوب التي استقبلت الصناعات المنقولة، بل أطلقت موجات غير مسبوقة من الهجرة في تلك البلدان نحو بلدان الشمال. ومن تناقضات العولمة المثيرة للجدل توحيدها العالم، في الزمان والمكان، عبر ثورة الاتصالات والمعلوماتية المذهلة من جهة، وتذريره في الآن ذاته الى كيانات وولاءات ما دون الدولة من جهة ثانية.
ثالثا، استجلاء الوجه الجديد لأممية تَعِد بأنماط جديدة من التضامن والترابط بين بلدان الجنوب. نعني عولمة بديلة، تقوم على التقاء المصالح بين المتضررين من الامبريالية المعاصرة ومن احتكار الشركات العابرة للجنسيات ومن آليات التبادل والتطور غير المتكافئين بين اجزاء العالم، عولمة بديلة تطمح لبناء عالم يتسع لما فيه من عوالم، متحرراً من العنصرية والمجاعات والفقر والحروب وخطر الفناء النووي، عالم يوفر الحد الادنى اللائق من الحياة لجميع أبنائه، بدلا من ضمان الثراء الفاحش الهادر للواحد بالمئة على حساب التسعة والتسعين الباقين.
ديمقراطية علمانية ذات همّ اجتماعي
لا جديد في القول ان الثورات الراهنة محط نزاع على مستويين:
المستوى الاول هو النزاع الناجم عن التدخّل الخارجي، متعدد الاشكال والاطراف، الساعي للحفاظ على الانظمة القائمة ولو بالقوة عندما يتعلّق الامر بدائرة أمن النفط. ولكنه يتكيّف مع الانتفاضات الجارية في أقطار اخرى، من أجل استيعابها وانتزاع نصلها الحاد عن طريق التضحية برموز الحكم، والارتضاء بمقادير من التعددية السياسية والاعلامية، مع الحفاظ على الركائر العسكرية للسلطة، وعلى أولوية الجهاز التنفيذي والعمل على إخراج الجماهير من دائرة الفعل والضغط. ولا تمانع قوى التدخل الخارجي هذه في تجديد الاطقم الحاكمة طالما أنها تضمن المصالح الامنية والجيواستراتيجية للامبريالية المعاصرة وتنفذ السياسات الاقتصادية سارية المفعول.
اما مستوى النزاع الآخر، فهو مع قوى سياسية إسلامية ترى في الانتفاضات، وفي حيازة أكثريات برلمانية، الفرصة الذهبية للارتداد على ما تبقى من تشريعات مدنية وعلمانية في الدول العربية المعنية. هذا عدا عن استعدادها التنازل عن موجبات الحد الادنى من التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني من أجل كسب الشرعية الخارجية، الأوروبية والأميركية، ناهيك عن انحيازها النيوليبرالي، ومحافظتها الاجتماعية، وسعيها لإحلال المعارك الرمزية محل الحل الفعلي للقضايا الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة.
في المقابل، حري باليسار التمسك بأبرز رسالة تبثها الانتقاضات ومفادها أن التحويل الديمقراطي يجب أن يتم بواسطة الشعب، وبقوى الشعب الذاتية، ومن أجل الشعب. وترجمة ذلك هو إرساء المشروع الديمقراطي لليسار على الأسس التالية:
١. تشريع المساواة السياسية والقانونية للمواطنين ورفض التمييز بينهم على أساس الجنس والدين والمذهب والاثنية .
٢. انبثاق السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية وخضوعها لها ومسؤوليتها تجاهها، وسيادة مبدأ فصل السلطات.
٣. اعتبار الحقوق الاجتماعية – العمل، والمعاش، والسكن، والتعليم، والصحة، والبيئة النظيفة الآمنة – حقوقاً طبيعية من حقوق الانسان. ذلك أن الديمقراطية التي لا توفر عملاً ولا تضمن خبزاً تدعو أول غاصب للسلطة إلى وأدها.
٤. الحياد الديني للدولة على هيئة تدبير سياسي يحقق عدم تدخل المؤسسات الدينية في شؤون الدولة، وعدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسات الدينية. ويترجم هذا الحياد في رفض زجّ المقدس – القائم على معادلتي التحريم والتحليل؛ وحقوق الله مقابل واجبات الانسان – في السياسة التي تقوم تعريفاً على الاجتهادات والخلافات وتعدد الخيارات. وتؤكد هذه النظرة أن العلمانية ملحق من ملحقات الديمقرطية، لا العكس، تعتمد المرجعية الزمنية والمدنية للتشريع، أي صدوره عن مؤسسات السيادة الشعبية، سواء أكانت المجالس التمثيلية أو الاستفتاءات الشعبية. ويقتضي الالتزام العلماني، في هذه المرحلة الانتقالية بالذات، إقران أي تنازل يقدّم للتشريع الديني في الاحوال الشخصية بتشريع مدني اختياري مقابل.
منظور جديد للوحدة العربية
انه لأمر ذو دلالة كبيرة أن يؤدي سقوط الحكم الفردي في ليبيا وتونس إلى إعادة تفعيل سريعة لمشروع الوحدة المغاربية بين بلدان المغرب العربي. لقد توجّت الوحدات العربية المسخّرة للسيطرة الداخلية تاريخاً من الفشل لصيغ «القطر القائد » و«الوحدات الاندماجية» والتوحيد القسري ولو بالحرب، كما في حالة اليمن، أو تشريع الانفصال في صفقة تحافظ على سلطة الحاكم فيما تبقى من البلاد، كما في حالة السودان، عداك عن الفشل في الحفاظ على المشاريع الوحدوية أو حتى العجز عن تحقيق وحدة سورية والعراق عندما كان هناك حزب قومي واحد يحكم البلدين.
لا بد من منظور جديد للوحدة العربية يحررها من إشكالية الهويات ومن الاستبدادية. ذلك أن المدى العربي لا يزال هو المدى الوحيد لتحرر المنطقة والسيطرة المشتركة على مواردها، وثرواتها، ومقدراتها، ومصائرها، وتحقيق التنمية الفعلية لصالح جميع ابنائها وانتزاع مكانة تليق بهم وبها بين الأمم. وهذه أهداف تتزايد الحاجة إليها والعوامل المساعدة على تحقيقها في آن معاً نظراً لما يفرضه عصر العولمة من تحديات تدفع باتجاه بناء التكتلات الاقليمية. في سبيل تحقيق ذلك، تملك البلدان العربية – إضافة الى اللغة والتراث والتاريخ المشترك – من الثروات الطبيعية العظيمة الأهمية — من نفط وغاز ومعادن ومياه – ما يكفي لتحقيق تنمية إنسانية قائمة على قيمة العمل والانتاج تهدف لتوفير الحد الادنى من الحياة اللائقة لكل مواطنيها، بأقل كلفة على القوى البشرية.
ويرى هذا المنظور في الوحدة العربية مشروعاً طوعياً قيد البناء، يتحقق عبر مسار زمني من التعاون والتكامل ويعيد الاعتبار للمصالح والتطلعات المشتركة للشعوب. فيبدأ من تنمية التبادل التجاري بين الدول العربية، وهو من أخفض المعدلات في العالم، ويمرّ عبر خطوات على طريق التكامل الاقتصادي وبناء السوق المشتركة قبل أن يتوّج المسار بأشكال مختلفة من التكامل السياسي والمؤسساتي.
والعالم العربي قابل بالمقدار ذاته لأن يتسع لكل مكوناته البشرية بغض النظر عن الانتماءات والفوارق الاثنية والاقوامية والدينية والمذهبية. فقد انتهى أيضا التصوّر الذي يقرن الوحدة الوطنية بالمركزية السلطوية. وما أدى إليه من ممارسات عمقت عوامل التفتيت الداخلي، واستدرجت النزعات الاهلية والدعوات الانفصالية وما تمخض عنها من حروب واقتتال.
في سبيل تعاقد جديد بين مكوّنات الشعوب العربية، يحمل اليسار إسهاماً من نقطتين: تقول الاولى إن تكريس المواطنة المتساوية يشكل حلاً ضرورياً ولكنه ليس هو دائما الحل الكافي للتعاطي مع جدل الاكثرية/الاقلية. فكيفما تقلبّت أدوار التمييز والغلبة بينهما، فقد لا تستقيم في بعض الاحيان دون تصحيح المظالم التاريخية باقتران المواطنة بالاعتراف بحقوق الجماعات في تقرير المصير.
ويقترح اليسار في النقطة الثانية أن ارتداد الناس إلى الانتماءات الاولية (عائلية، مذهبية، دينية، مناطقية، اثنية، الخ) كخط دفاع أخير عن النفس، غالبا ما يتم للاحتجاج على تمييز ضدهم فيما يتعلق بالموقع من السلطة، والسيطرة على الموارد الطبيعية، وتوزيع الثروة، وخدمات الدولة. ويتم هذا الارتداد، وربما بشراسة أكبر، عندما يتعلق الامر بالدفاع عن امتيازات ومواقع استئثار وامتياز مكتسبة في السلطة والثروة من خلال تلك الانتماءات الاولية. من هنا، فإن تأمين الحقوق الاجتماعية الاساسية، وتحقيق التنمية المناطقية المتوازنة، والتوزيع العادل للثروة ولخدمات الدولة يعد عناصر مكمّلة للحلول القائمة على المواطنة المتساوية والحق في تقرير المصير.
التنظيم والوسائل
كشفت الانتفاضات الشعبية عن مدى قصور نمطين من أنماط التمثيل الاجتماعي-السياسي: الاحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع الاهلي. لقد اهترأ دور الحزب الطليعي الانقلابي، القائم على التراتب الأوامري الداخلي، وعلى العلاقة الاستعلائية التربوية تجاه الشعب قبل أن تجهز عليه الانتفاضات. لكن خصائصه هذه تجلّت على نحو همجي غير مسبوق في الممارسات الدموية خلال الانتفاضات.
لقد آن أوان الاحزاب الجماهيرية، الممثلة لكتل من المصالح والمعبّرة عن التطلعات الشعبية عبر البرامج والسياسات، أحزاب هي وسائل وليست أهدافاً بذاتها. ولكن يبقى على الاحزاب الجديدة أن تظهر الكثير من التخيل والابتكار في مجال الديمقراطية الداخلية، واستنباط الوسائل النضالية المتلائمة مع المعارك والمنافسات في ظل الانظمة الانتخابية والديمقراطية.
لقد وضعت الانتفاضات المنظمات غير الحكومية أمام امتحان يراجع ربع قرن من مممارسات لم تخضع لمراجعة جادة. ففي حين برزت معظم منظمات حقوق الانسان في أدوار جد ايجابية، بدت الانتفاضات كأنها «تصحيح بواسطة الممارسة » في موضوع التحويل الديمقراطي خصوصاً. فوضعت صيغة «الشعب/النظام» في مواجهة صيغة «الدولة/المجتمع المدني» التي غلب عليها التفسير النيوليبرالي. وأعادت الانتفاضات تجميع قضايا المجتمع وإقامة الصلات فيما بينها، في مقابل تذريرها إلى دزينة من القطاعات المتفرقة في فكر وممارسة المنظمات غير الحكومية. أضف الى هذا أن عمل العدد الاكبر من هذه الاخيرة اقتصر على التبشير بالديمقراطية والتدريب والتربية عليها في تجاهل لشروط تحقيقها عبر الفعل السياسي أو استبعاد دور الضغط الشعبي في ذلك.
عبّرت الثورات عن مشاركة فئات اجتماعية لا تتسع لها الأطر الحزبية والنقابية، القائمة على الاساس المهني أو السياسي، ولا تكفي منظمات حقوق الانسان للتعبيرعنها وتمثيلها كالطبقات الوسطى، والشباب، والنساء، والعاطلين عن العمل، الفقراء ومهمشي الارياف وسكان العشوائيات، وغيرهم. تتجه هذه الشرائح نحو أشكال جديدة من الحركات الاجتماعية تستحق الدراسة. والاهم هنا هو أن الانتفاضات قدمت مساهمات ثمينة للعمل الشعبي من خلال ابتكارها اشكالاً من التنظيم والتحرّك القاعدية من تنسيقيات الاحياء وائتلافات شبابية ولجان شعبية للعمل البلدي وهيئات للعاطلين عن العمل وسواها. والملفت جداً ان هذه الاشكال الحداثية ترافقت مع إعادة استنباط كافة الأشكال والهيئات التقليدية للتضامن والتكافل الأهليين، الريفي منه والمديني.
وأخيراً، زخرت الانتفاضات بإبداعات العبقرية الشعبية من أشكال للنضال استخدمت من الموارد والأدوات ووسائل الاعلام والاتصال والإيصال أرقاها، وأحيت في الآن ذاته من عناصر ثقافتها الشعبية الأبدع والأكثر تأثيراً وتعبئة للناس وتأجيجاً للمشاعر من حىاء وغِناء وإنشاد ورقص جمعي. على أن العبقرية الشعبية ليست هي الخاتمة بل هي الإلهام الدائم.
سوف نتناول موضوع العلاقة بين قضية فلسطيني الصراع العربي الاسرائيلي من جهة وبينالانتفاضات الديمقراطية العربية في نص لاحق لضيق المجال عن تناول مفصّل لهذا الموضوع الحساس.
مجلة بدايات