اميركا ..ماذا فعلتِ بنا؟
دلال البزري
كما ورث “الاخوان المسلمون” عن عهد مبارك عقلية الحكم الاستبدادي، كذلك ورثت “جبهة الانقاذ” المناهضة للإخوان ذهنيتهم وطريقتهم في معارضة حكم مبارك. وعلى رأس هذا الكنز الموروث، العلاقة مع الولايات المتحدة؛ وكانت زيارة وزير الخارجية الاميركي الى مصر فرصة ذهبية لتبلور هذه الذهنية في صفوف المعارضة “الرسمية”، “الإنقاذية” للإخوان. فما أن حلّ جون كيري على أرض الكِنانة، حتى تدفّقت المواقف والتصريحات والمقالات والتظاهرات المندّدة بالوزير الاميركي، المذكّرة بالامبريالية ومصالحها، الرابطة بين هذه المصالح وبين “الدعم السافر للاخوان”. الى حدّ ان احد اقطابها، “الفلولي” عمرو موسى، اضطر هو الآخر الى تلبية دعوة زملائه في “جبهة الانقاذ” بمقاطعة اللقاء الذي كان يفترض ان يجمعهم مع كيري؛ فأرسل “مندوبين عنه”. تماماً كما كان عليه “الإخوان” ومعهم كل المعارضة الأخرى أيام مبارك: عداء مطلق للغرب، لأميركا تحديداً، له الأولوية في كل البرامج والاجندات… ومفاوضات سرية معها.
والغريب ان هذه النغمة التقت مع معزوفة إعلامية “فكرية”، تديرها عقلية “الممانعة”، تنطلق من أولوية هذا العداء، لتساند النظام السوري في حربه ضد شعبه: وقوامها ان كل هذه الثورات إنما هي “مؤامرة امبريالية صهيونية”، هدفها إقامة حكم اسلامي إرهابي تفتيتي في المنطقة، يحقّق مشروع الإثنين…
وهي ارتفعت نبرتها مع وفاة “الناصر” (هكذا اسمته احدى الأقنية) هوغو شافيز، الذي احتشدت الملايين من ابناء شعبه لوداعه….بمعنى آخر، ان معاداة الامبريالية بالمطلق تخلق شعبية جارفة بين الشعوب. وان كل من يطمح الى الزعامة أو القيادة، عليه الغرف عميقاً من هذا الخزان. نتفهم هذه الدوافع السياسوية لدى الطامحين؛ فهم من طبيعة ما يرنون اليه، أي السلطة، ليس في رأسمالهم المعنوي غنيمة أغلى من المعاداة المطلقة لأميركا. فهل نريدهم ان يمتنعوا؟ فننتحرهم سياسياً؟
ولكن أن ينجرف في هذا السَيل “الأنتي أميركي” كتّاب ومحلّلون ومثقفون…. فهذا ما يدعو الى شيء من العجب. يبدون وكأن ما جرهم اليه واحد من اثنين: إما مسايرتهم للمعارضين “الرسميين” من السياسيين، أو للكراهية الشعبية لأميركا، التي تكاد تكون “فطرية”. في الحال الأولى يكونوا وعاظ سلاطين معارضين، بغفلة أو بوعي منهم. وفي الثانية يكونوا شعبويين، اي يكتبون ما يحب الشعب ان يقرأه، على أساس ان “الشعب دائما على حق”. وفي كلا الاحتمالين، فان كل هذا “الصمود” في حب كراهية اميركا، خصوصاً بين حاملي القلم، له مردود تراجعي: أن تذهب بعض الاقلام، بفضل هذا “الحب”، الى حدّ الايحاء او التلميح بأن اميركا هي التي جاءت بالاخوان المسلمين الى الحكم… فهذا تغييب للشعب، باسم الشعب. انه، خصوصاً، تغييب لدرجة الأسلمة التي بلغها عشية الثورة، والتي سمحت للاخوان، المتكلمين باسم الله، بأن يربحوا جائزتها، أي السلطة.
قد يكون حب كراهية أميركا مشروعاً لدى البراغماتيين من بين التواقين الى إزاحة الاخوان والجلوس مكانهم. ولكنه ليس جديراً بحاملي القلم. سيما وان في متن تمسكهم بهذه الرؤية لأميركا عقلا مفوَّتا، يعود الى فترة الستينات، والحرب الباردة والصراع بين معسكرين، باطل أميركي، وصالح سوفيات. هذا التقسيم لم يكن، وفي وقتها، مطابقا للواقع. أما الآن فهو ابن إرث مغشوش عن حقبة ماضية. طبعا يساعد على إحيائه التفوق والهيمنة الاميركيَين؛ وللذين يمنعان النظر الى إرادات أخرى بالهيمنة، لا تقلّ شراهة.
أما أن يكون العار، كل العار في الاولوية التي تعطيها اميركا لمصلحتها في تعاطيها معنا، فخلفه طهرانية تتخابث، ومظلومية تضيّق العقل. ومآل الاثنين غيبوبة…
أميركا أميركا… ماذا فعلتِ بنا؟
المدن