صفحات الثقافة

هل الرواية فنُّ العَيش؟/ ماريو فارغاس يوسا

 

 

ليست الحكاية ما يحدد، في الجوهر، الحقيقةَ أو البهتان في عملٍ روائي، وإنما الفكرة التي لم تُعَش بل كُتِبَت، تلك المخلوقة من الكلمات وليس من تجارب حيَّة. تُتَرْجَم الأحداث إلى كلمات عبر إخضاعها لتحويرات عميقة.

منذ كتابتي قصتي القصيرة الأولى، والناس تسألني عمّا إذا كان ما كتبته “حقيقة”. ورغم أنّ إجاباتي أرضت فضولهم أحياناً، إلّا أني كنتُ أُتركُ في كلّ مرّة، بصرف النظر عن صِدْق إجابتي، وإحساس بالشك يراودني في أني قُلتُ شيئاً لم يكن مصيباً تماماً.

وبصرف النظر عمّا إذا كانت الروايات تتحلّى بالدقَّة والصِّحة أو بالزيف، وما يشكّل هذا من أهمية لدى أشخاصٍ معينين من زاوية كونه أمراً جيداً أم سيئاً، فإنَّ كثيراً من القُرّاء، بوعيٍ أو من دون وعي، غالباً ما يقومون بالربط بين المسألتين. لقد حَرَّمَت محاكمُ التفتيش الإسبانيّة، على سبيل المثال، طباعة الروايات أو تداولها في المستعمرات الهسبانو- أميركية، رائين إلى أن هذه الكتب الحاوية لعوالم غير محسوسة، ومنافية للعقل، يمكن أن تشكّلَ أذىً يصيب صِحَّة الهنود الروحيّة.

بناءً على هذا التحريم، ولمدة 300 سنة، لم يقرأ هؤلاء الناس سوى الأعمال الروائيّة المُهرَّبة المحظورة فقط، وما كان لأوّل رواية أن تُنشر في تلك المستعمرات إلّا بعد الاستقلال (1816، في المكسيك). لقد أدّت عملية التحريم هذه التي باشرتها محاكم التفتيش “المقدّسة”، والتي طاولت جميع الأجناس الأدبيّة إضافة إلى كتب محددة، إلى سَنّ قانونٍ بلا استثناءات: جميع الروايات تكذب، جميعها تقدّم رؤيةً زائفةً للحياة.

منذ بضع سنوات، كتبتُ نصّاً ساخراً من هذا التعصُّب الاستبدادي. وإني أعتقد الآن بأنّ محاكم التفتيش الإسبانيّة كانت الجهة الأولى التي فهمَت – قبل النقّاد وحتّى الروائيين أنفسهم- طبيعة الرواية ونزعتها التدميريّة.

***

في الحقيقة، الروايات تكذب- هي لا يمكنها إلّا فعل ذلك-، غير أنّ هذا ليس سوى أحد أوجه المسألة. أما الوجه الآخر فهو: تعبِّر الروايات، من خلال الكذب، عن حقيقة افتراضيَّة لا يمكن التعبير عنها إلّا على نحوٍ مُبَطَّن ومُضْمَر، ناكرةً، في الوقت نفسه، أن تكون كذلك. يبدو أنّ لهذا التصريح وقْع الكلام الغامض. لكنَّه في الحقيقة بسيط للغاية. فالبَشَر ليسوا راضين أو مكتفين بما هُم عليه، وجميعم تقريباً – أكانوا أغنياء أم فقراء، عباقرة أم متوسطي الذكاء، مشاهير أممغمورين – يتوقون لأن تكون لهم حياة مختلفة عن تلك التي يعيشون. ولإشباع هذا التوق (على نحو بارع وماكر)، وُلِدَت الرواية. لقد كُتبت وقُرِأت لتمدَّ البَشَر بحيواتٍ لم تستسلم لحالة عدم امتلاكها. تحتوي بذرة كلّ رواية على عنصر الرغبة وعدم الاستسلام ذاك.

هل يعني هذا أنّ الرواية تترادفُ مع اللاواقع؟ أنَّ دوافع قراصنة “كونراد”، وأرستقراطيي “بروست” فاتري الهِمَّة، وشخصيات “كافكا” غير المُسمّين، وسِعَة المعرفة التي تحيط بشخصيات “بورخيس” الميتافيزيقيين في قصصه، حيث نسمو بذلك أو ننفعل؛ هل يعني هذا بأنْ لا شيء من ذلك له علاقة بنا، لأنه من المستحيل مقارنة تجاربهم مع تجاربنا؟ أبداً. على المرء أن يواصلَ هذه الطريق، بحَذَرٍ واحتراس – طريق الحقيقة والبهتان معاً في عالم الرواية – المليء بالفخاخ وملاذات الفرار من المألوف والبغيض، آخذاً بالاعتبار أنها في العادة سرابٌ ووَهْم.

ماذا يعني القول بأنَّ الرواية تكذبُ دائماً؟ ليس كما اعتقدَ ضُباط أكاديميّة ليونيسيو برادو العسكريّة ومجنَّدوها، حيث، بحسب المظهر على الأقلّ، جرت أحداث روايتي الأولى “زمنُ البطل”، وحيث تم إحراقها هناك فعلاً بتهمة الافتراء على تلك المؤسسة. وليس، كما فهمت زوجتي على نحوٍ خاطئ، بعد قراءتها روايةً أخرى لي هي “العَمَّة جوليا والكاتب”، أنني رسمتُ لها صورةً فيها، مما أدّى بها إلى نشر كتابٍ خلاصته استعادة الحقيقة التي جرى تغييرها في الرواية. بالطبع، لقد احتوت القصتان على ابتكارات، وتحريفات، ومبالغات أكثر من الذكريات، ولم أسعَ عند أي مرحلة من مراحل الكتابة لأن أكونَ مخلصاً أدبياً لشخصيّة وحَدَث معينَين سابقين على الرواية ودخيلين عليها. في الروايتين المُشار إليهما، كما في جميع ما كتبت، بدأتُ بتجارب ما زالت حيَّةً في ذاكرتي ومتكيفة مع مخيلتي، ومن ثَمَّ اجترحتُ أمراً

تخييلياً تحلّى بقدرٍ هائلٍ من عدم الصدق كاستجابةٍ لتلك المادة الكُليَّة.

لم تُكتب الروايات لتسرد الحياة، بل لتحويلها بإضافة شيء ما إليها. فالواقع في الروايات القصيرة للكاتب الفرنسي ريستيف دي لا بيرتون(1) واقعٌ فوتوغرافيٌّ قدر الإمكان، كتابةٌ بيانيّةٌ (كاتالوغ) للعادات الفرنسيّة في القرن الثامن عشر. ورغم ذلك، وداخل ذلك التعداد والإحصاء وبذل الجهد والكدّ بكل ما في الكلمة من معنى لوصف تلك العادات، بحيث كان كلُّ شيء يضاهي الحياة الحقيقية؛ فثمّة أمرٌ آخر، مختلف، أدنى وأقلّ وثوريّ – حقيقة أنَّ في هذا العالم لا يقع الرجال في حبّ النساء بسببٍ من صفاء طلعتهن، ورشاقة أجسامهن، ومواهبهن الروحيّة، وغيرها؛ ولكن لجمال أقدامهن حصراً.

***

يعمل جميع الروائيين، وإنْ بأولويات أو التزامات أو إدراكات وانتباهات أقلّ، على إعادة خلق الواقع – بتجميله وزخرفته أو بالحطِّ والانتقاص منه – كما فعل المدهش ريستيف بالبراءة المبهجة. هذه الرِّقة، أو تلك المادة البسيطة الخام، في علاقتهما بالحياة – حيثما قام الروائي بتجسيد هواجسه وما يستحوذ على تفكيره – يدللان على تكوين أصالة الإنجاز الروائي ويقومان بتعيينه. وهذا يعتمد بعمق على مدى التعبير الكامل عن حاجةٍ عامةٍ ما، وعدد القُرَّاء، عبر الزمان والمكان، القادرين على معاينة منطقة الغامض فيهم، حيث تكمن الشياطين مع تسريبات الحياة المحرَّمة. أكان بمقدوري، في رواياتي، اقتراف جريمة متماسكة تامة بحق ذكريات فعليَّة؟ بالطبع. ولكن، حتّى وإنْ أنجزتُ هذه الخطوة المضجرة ببراعة بالسرد البسيط لأحداث واقعية ووصْف أناس تتناسب سيرهم الذاتية مع أنماط شخصياتهم تَناسُب القفّاز لليد، إلّا أن رواياتي لن تكون، بهذه الطريقة، أقلّ صدقاً أو عديمة الصدق عَمّا هي عليه.

ليست الحكاية ما يحدد، في الجوهر، الحقيقةَ أو البهتان في عملٍ روائي، وإنما الفكرة التي لم تُعَش بل كُتِبَت، تلك المخلوقة من الكلمات وليس من تجارب حيَّة. تُتَرْجَم الأحداث إلى كلمات عبر إخضاعها لتحويرات عميقة. إنّ الواقع (المعركة الملطخة بالدماء التي اشتركتُ فيها، وجه الفتاة القوطيّ الجانبي التي أحببتها) يشكّلُ أمراً ثابتاً وواحداً، بينما العلامات التي تصف ذلك كلّه بلا عَدد. فمن خلال اختيار علامة منها وتنحية الباقي، فإنَّ تفضيلات الروائي تُجهز على الاحتمالات الأخرى، أو أُصول ما يقوم بوصفه. لذلك، يعمل الروائي على تغيير الطبيعة، وما يصفه منها يتحوّل إلى ما هو موصوف بالكتابة.

إني أُحيلُ هنا على حالة الكاتب الواقعي فقط، تلك الجماعة الأدبيّة، أو المدرسة، أو النهج الذي أنتمي إليه، والتي تتصلُ أعماله بأحداثٍ يمكن للقُرَّاء ملاحظتها على نحو معقول ظاهرياً عبر تجربتهم الشخصيّة في الواقع. وربما، في الحقيقة، يُظهر هذا بأنَّ الرابط بين الواقع والرواية لا يشكّل حتّى موضوعاً لروائي الوقائع العجائبية، الذي يصف عوالم متناقضة وغير موجودة بشكلٍ أكيد. في الحقيقة إنه موضوع، ولكن على نحوٍ آخر. يتحوّل “اللاواقعي” في الأدب العجائبي، بالنسبة للقارئ، إلى رمز أو مَجاز واستعارة، وبكلمات أخرى إلى إعادة تقديم وإظهار للوقائع وللتجارب التي يستطيع مطابقتها كاحتمالات ممكنة في الحياة. المُهمّ هو هذا: ليست طبيعة الحكاية “الواقعية” أو “العجائبية” ما يؤشر على خط الحَدّ الفاصل بين الحقيقة والزيف في العمل الروائي.

وفقاً لهذا التحوير الأوّل وبناءً عليه (سِمَة الكلمات داخل الأحداث)، هنالك تحويرٌ آخر لا يقلّ رئيسيّةً: الزمن. فالحياةُ الحقيقية التي تتدفق بلا توقف، ودون افتقارٍ لقانون خاص بها، تتصفُ بالتشوُّش والفوضى، حيث تتداخل كلُّ قصة وتمتزج بكلِّ القصص، ومن ثَمَّ لا تكون هناك بداية أو نهاية. الحياةُ في العمل الروائي محاكاةٌ يُجْتَرَح فيه لللانظام المُدَوِّخ نظاماً، وتنظيماً، وسبباً، وتأثيراً، كما له بداية ونهاية. ولا يتحدد مجال الرواية ونطاقها باللغة المكتوبة بها فحسب؛ وإنما بخِطّتها أو برنامجها الزمني، بالكيفيّة التي يسري الوجودُ فيها ويحدث – توقفاته وتسارعه والمنظور المتسلسل زمنياً الموَظَّف من السارد لوصف ذاك الزمن المسرود.

إضافةً إلى المسافة الموجودة بين الكلمات والأحداث، هنالك دائماً فجوةٌ هائلة بين الزمن الواقعي والزمن الروائي. فالزمن الروائي خُلِقَ كتدبيرٍ أو حيلة لبلوغ تأثيراتٍ نفسيّة معينة وتحقيقها. في هذا الزمن يمكن للماضي أن يلحقَ بالحاضر (التأثير يتقدّم على السبب) كما في قصة أليخو كاربانتييه (2) “رحلة إلى المنشأ”، حيث تبدأ بموت رجل عجوز وتستمر إلى أن يُدركَ الرحمَ الأمومي. أو يمكن فقط أن يكون ماضياً متحركاً لا يتلاشى حقيقةً داخل الماضي القديم أو يذوب فيه أبداً، ومن النقطة التي يسردُ منها الروائي، وهذه من تقنيات معظم الروايات الكلاسيكيَّة. أو يمكن أن يكون حاضراً ممتداً متأبداً بلا ماضٍ أو مستقبل، كما في أعمال صموئيل بيكيت. أو متاهة، حيث يتواجد الماضي والحاضر والمستقبل، يُبطلون ويلغون بعضهم بعضاً، كما في رواية فوكنر “الصَخَب والعُنْف.”

***

للروايات بداية ونهاية، حتّى في تلك المتصفة بالأكثر استرسالاً وتفككاً فإنَّ للحياة معنىً ممسوكاً، لأننا نحضر عبر منظور لا يخضع أبداً لشروط الحياة الواقعية التي ننغمر بها. هذا الأمر عبارة عن ابتكار وتلفيق من جانب الروائي، يَدّعي بأنه يعيد خلق الحياة بينما يعمل، في الحقيقة، على تداركها وتنقيحها. الرواية تخون الحياة، بِفِطْنَةٍ أحياناً، بوحشيَّةٍ أحياناً أخرى، وذلك بضغطها في كبسولة عبر نسيجٍ من الكلمات تختصرها في مقياس تدرجيّ ووضعها في متناول القارئ. وهكذا يكون بمقدور القارئ أن يحكم عليها، ويفهمها، وفوق كل شيء أن يعيشها متحوطاً ومتحصناً من اتخاذها حياةً حقيقية.

ما الفرق، إذَن، بين عملٍ روائي وتقريرٍ صحفيّ أو كتاب في التاريخ؟ أليسوا جميعاً مجموعة تآليف من الكلمات؟ أليسوا، ضمن الزمن الزائف من حيث القيمة، يضغطون الزمن الحقيقي الساند والرافد الذي لا شاطئ له ويختصرونه؟ إنه سؤال مقاومة مجموعة أنظمة حين يصير الاقتراب من الشيء الحقيقي: الرواية تتمرد على الحياة وتخالفها وتتخطاها، والأنواع الأخرى تستحيل لتكون عبيداً لها بلا انقطاع. إنَّ فكرة التزام الحقيقة أو الخِداع يكون توظيفها مختلفاً في هذين المجالين. ففي الصحافة أو التاريخ تعتمد الفكرة على إقامة علاقة وَصْل بين ما تمت كتابته، والحقيقة الماثلة في الواقع: فكلّما كانت أقرب كانت أصدق، وكلّما ابتعدَت باتت أكثر زيفاً. أن نقول بأنَّ كتاب Michelet (3) “تاريخ الثورة الفرنسيّة”، أو “فتح البيرو” لـ Prescott (4) هما كتابان “روائيان” إنما هو ضربٌ من النقد، وإشارة إلى أنهما يفتقدان الجديَّة. وتوثيق أشتات من التاريخ في “الحرب والسلام” بالاستناد الواثق إلى حروب نابليون سيكون مضيعةً للوقت – إنّ حقيقة الرواية لا تعتمد على الوقائع الحادثة بحذافيرها

على ماذا تستند الرواية، إذَن؟ إنها تستند على قواها الذاتيّة المُقْنِعة، على قوة التواصل المجردة الخاصّة بتخيلاتها، على براعة سِحرها. كُلُّ روايةٍ جيدة تقول الحقيقة وكُلُّ رواية رديئة تكذب. فأن تقول الرواية “الحقيقة” يعني أن تجعل من تجربة القارئ وهماً، و”أن تكذب” هو أن تعجز عن بلوغ الخديعة وإتمامها. فالرواية، بذلك، نوعٌ كتابيٌّ لا أخلاقيّ، أو بالأحرى إنَّ أخلاقيتها ذات نسيجٍ خاص بها، أخلاقية تكون الحقيقةُ فيها والزيفُ عبارة عن مفاهيم تجميليّة حِسِّيَّة حصراً.

ربما تُفْهَم ملاحظاتي السابقة بأني أشير إلى أنّ الرواية افتعالٌ مجانيّ لا مبرر له، أو هي شَطَطٌ ومغالاةٌ وتلاعُبٌ مجرد. على العكس تماماً؛ إنَّ جذور الرواية تغوصُ في التجربة الإنسانيّة وتنغمرُ بها، ومنها تستمدُّ سَنَدها ودعامتها، تتغذّى بها وتغذّيها، في الوقت نفسه. فتكرار موضوعة معينة في تاريخ الرواية يشكّلُ المجازفةَ أو الخطر الذي تتعرّض له إذا ما سَلّمنا بما تقوله الرواية، أدبياً، وإذا ما صَدّقنا الحياة كما جاء وصفها في الروايات. فالكتب التي تناولَت الفروسيّةَ عملَت على بلبلة عقل دون كيخوته ووضعته على درب مطاعنة طواحين الهواء، وكذلك مأساة “إمّا” في رواية “مدام بوفاري”، فما كانت لتوجد هذه الشخصيّة التي صاغها فلوبير لو لم تتعمد أن تكون مثل بطلات الروايات الرومانسيّة التي قرأتها.

بتصديقنا مسألة تماثُــل الحقيقة مع الرواية يكون لكُلٍّ من شخصيتيْ ألونسو كويجانو (5) وإمّـا بوفاري أن يصيبهما اختلالٌ فظيع. هل نُدينهما بسبب ذلك؟ لا، فقصة كُلٍّ منهما تتحرك وتُصيبنا بالخوف؛ إذ إنَّ قرارهما الحاسم المستحيل بأن تعيشا الخيالَ يبدو أنه يجسِّد لنا سلوكاً مِثالياً يُشَرِّفُ الجنس البشري. وأن يبتغي المرء أن يكون مختلفاً عَمَّا هو عليه إنما هو الاحتياجُ الإنساني وطموحه للتفوق والامتياز. ولقد أدّى هذا إلى الأفضل والأسوأ في التاريخ الموثق، بما في ذلك الأعمال الروائيّة.

عندما نقرأ الروايات لا نكون ما نحن عليه فقط، ولكننا، إضافة إلى هذا، الكائناتُ المسحورةُ وسط ما يعمل الروائي على نَقْلنا إليه. الانتقال هو التحوُّل – انقباض أو انكماش حيواتنا الخانق ينفتحُ، وانطلاقتنا لأن نكون آخرين تبدأ بالتصاعد، ونكتسب تجارب بديلة تقوم الرواية بنقلها لتصبحَ تجاربنا نحن. عبر حُلمٍ مدهش، وتجسيدٍ للخيال، تعمل الرواية على تكملتنا، كما تعثرُ الكائناتُ المشوَّهة المثقلَة بما هو قبيح وشنيع، بانشطارها كونها تملكُ حياةً واحدة، على إمكانية تحقيق الرغبة في آلافٍ أخرى من الحيوات. هذه الفجوة بين الحياة الحقيقية والرغبات والأوهام إنما تشير إلى أنَّ حقيقة الرواية هي الأغنى والأكثر مدعاة للتغيُّر.

في قلب جميع الأعمال الروائيّة ثمّة احتجاجات تتوهج. ولقد خلقها مؤلفوها كونهم لم يكونوا قادرين على عَيشها، وواجه قُرّاؤها (والمؤمنون بها) في تلك الأشياء المخلوقة الخياليّة الوجوهَ والمغامرات التي يحتاجونها لتجميل حيواتهم الخاصّة وتعزيزها. تلك هي الحقيقة المُعَبَّر عنها من خلال الكَذِب في الرواية – الكَذِب الذي هو نحنُ أنفسنا، الكَذِب الذي يواسينا ويعمل على تجميل استمرارية حياتنا وإحباطاتنا. كيف وكم، في هذه الحالة، ستحظى بالثقة شهادةُ روايةٍ ما أو بَيِّنَتها عن المجتمع الذي أنتجها؟ أكان هؤلاء الناس على هذه الحال حقاً؟ لقد كانوا كذلك فعلاً، ولكن بمعنى أنهم هكذا أرادوا أن يكونوا، كيف عاينوا أنفسهم وهم يَعشقون، ويُعانون، ويَبتهجون. تلك الأكاذيب لا تعمل على توثيق حيواتهم وإنما تشير إلى شيطانهم الذي يسوقهم – الأحلام التي تُسْكرهم وتجعل حيواتهم أكثر احتمالاً وقبولاً. إنَّ مرحلةً زمنيّةً ما لا تُسْكَن بكائناتٍ من اللحم والدم فحسب؛ ولكن بالكائنات المتخيلة أيضاً التي تحوَّلَت لتكونها من أجل كَسْر الحواجز التي تَحِدُّ من حريتها.

الأكاذيب في الروايات ليست بلا مبرر – إنها تفي باحتياجات الحياة. وهكذا، حين تبدو الحياة مليئة وكاملة، والناس، وقد استنفدوا جميع إيماناتهم واستسلموا لمصائرهم، فإنّ الروايات لا تُسدي أي خدمة. فالثقافات الدينيّة تنتج الشِّعرَ والمسرح، وليس الروايات. الرواية هي فن المجتمعات حيث يعاني الإيمانُ فيها أزمات معينة، حيث تكون الحاجة شديدة للإيمان بشيءٍ ما، حيث تمَّ استئصال الرؤية الموحِّدة والموثوق بها والكاملة لتَحِلَّ محلّها رؤيةٌ أُخرى مُهَشَّمَة غير خَلّاقة في رؤيتها إلى العالم الذي نعيش فيه وإلى ما بعد هذا العالم.

جميع الروايات، بعيداً عن كونها لا تدعو للأخلاق، إلّا أنها توفِّر في جوهرها ملاذاً حيال ارتيابٍ ما أو شُكوك معينة. فحين تدخلُ الثقافة الدينيّة في أزمات، وتبدو الحياةُ عاريةً من أيّ مشاريع رابطة ومُلْزِمة، تتحوّلُ العقيدة والمبادئ إلى فوضى وشَواش. هذه هي اللحظة الأفضل للرواية. إنَّ أنساقها الفنيّة تعمل على توفير الملاذ، والأمان، والانطلاق الحُرّ لتلك الشهوات والمخاوف التي تتسبب بها الحياة الحقيقية ولا تقدر على إشباعها أو الحيلولة دونها. الرواية بَديلٌ مؤقت عن الحياة. والعودة إلى الواقع الحقيقي لهي إفقارٌ قاسٍ، وتأكيدٌ على أننا أقلّ مما نحلم أن نكون. وهذا يعني أنّ الرواية، بِحَثِّها للخيال وتثويره، يحدث عندها إشباعٌ للاستياء الإنسانيّ المؤقت وعدم الرضا، كما يدفعُ إليه، في الوقت نفسه.

محاكم التفتيش الإسبانيّة أدركت الخطر. إنَّ سَوق الحيوات وصياغتها عبر الرواية، والتي لم يعشها المرء في الحقيقة الواقعية، لهو ضربٌ من التوق الشديد، وعدم التوافق أو التكيُّف مع واقعٍ من الممكن أن يتحوّل إلى حركات تمرّد، إلى سلوكاتٍ غير مستسلمة أو خاضعة للمؤسسات. يمكن للمرء أن يفهم جيداً لماذا لا تثق الأنظمةُ الساعية لأن تتحكَّم بالحياة كُليّاً بالأعمال الروائيّة، وتُخضعها للرقابة. فالنشوء الحادث في داخل ذاتٍ ما لتكون ذاتاً أخرى، حتّى وإنْ بالوَهْم، إنما هو طريقة في أن تكون أقلّ عبوديّة، واختبارٌ لمخاطر حيازة الحُرّيّة.

– Is Fiction the Art of Living

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) Restif de la Bertonne (1734- 1806): روائي وكاتب فرنسي. له أربع روايات ومجموعة قصص وكتابات شارحة للمجتمع في زمنه. وُصِفَت أعماله بالواقعية الاجتماعية والتخييل الجنسي. (ويكيبيديا).

(2) Alejo Carpentier (1904- 1980): روائي كوبي ولد في هافانا، عمل في الصحافة، وكان أحد موقعي البيان ضد الطاغية ماتشادو فأودع السجن. رحل إلى فرنسا وعمل هناك في راديو باريس. سافر وألقى محاضرات في فنزويلا وأقام فيها 14 سنة ليعود إلى بلده في 1959 بعد انتصار الثورة الكوبية. من أعماله الروائية: “تقسيم المياه”، و”صيد الإنسان”، و”عصر الأنوار” – ترجمها للعربية منصور أبو الحسن -، و”حرب الزمن”، و”الخطوات الضائعة” – ترجمها للعربية سالم شمعون -، و”مملكة هذا العالم” – ترجمها للعربية محمد علي اليوسفي. (المترجم).

(3) Jules Michelet (1798- 1874): مؤرخ فرنسي. له من الكتب: “إنجيل الإنسانية”، و”حياة جان دارك”، و”السِّحْر”، و”الشعوذة والخرافة”. (ويكيبيديا).

(4) William H. Perscott (1796- 1859): مؤرخ أميركي تخصص بدراسة عصر النهضة الإسبانية المتأخر، وبداية الإمبراطورية الإسبانية. من كتبه: “حُكم فردناند وإيزابيلا الكاثوليكيين” (1837)، و”تاريخ فتح المكسيك” (1843)، و”تاريخ فتح البيرو” (1847). (ويكيبيديا).

(5) Alonso Quijano: الاسم الأصلي لشخصية دون كيخوته. (المترجم).

المترجم: إلياس فركوح

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى