انتصارات الثورة وحصاد النتائج
أمجد طالب
عندما هبت نسائم الربيع العربي في المنطقة بدأت الثورة تدغدغ أحلام السوريين في الداخل والمهجر، إلا أن ذاكرة الثورة الموؤودة في ثمانينيات القرن الماضي كانت لا تزال حاضرة في تلك الأحلام التي أصبحت حقيقة بجميلها وقبيحها وواقعاً نعيشه كل يوم في عام شعر الكثيرون من السوريين أنه الأقصر في حياتهم لكثرة أحداثه وإن كان فعلاً الأقصر لما يزيد عن خمسة آلاف سوري اختزلت أعمارهم رصاصات الغادرين، وكثيرون آخرون شعروا أنه الأطول وهم يعدون الدقائق في عتمة الزنازين عندما لا يكونون مشغولين بعد ضربات الجلادين.
لقد فوت السوريون فرصة ثمينة للثورة في عام 2000 عند وفاة الدكتاتور السابق، لذلك لم يترددوا بعد 11 عاماً من النزول إلى الشوارع للمشاركة بثورة كانت كل العوامل المهيئة لاندلاعها متوفرة. وكانت انطلاقة هذه الثورة أسرع بكثير من سابقاتها بالرغم من القمع الشديد الممارس من النظام، وانتشرت الروح الثورية وسيطرت على الحياة اليومية للمواطن السوري الذي إن لم يكن يتحدث في السياسة كان يشاهد المحطات الفضائية ليتعرف على المعارضين السوريين وأفكارهم ويسمع منهم تعليقاتهم وتوجيهاتهم وأصبح يعرف أكثر عن وضع حقوق الإنسان إدارة الدولة ومفاهيم الديمقراطية والمواطنة والدولة في عرس للديمقراطية يذكرنا أيضاً بربيع دمشق الذي تأخر حتى اليوم بسبب عدم وجود ثقة شعبية بالقدرة على تغيير النظام في تلك الأيام.
سأحاول في هذه المقالة سرد بعض إنجازات الثورة ومقارنتها مع أهدافها والبحث عن أسباب النجاح والإخفاق أملاً بإيجاد الطريق نحو تحقيق كامل الأهداف.
ربما كان الانتصار الأول والأهم هو سقوط هيبة الدكتاتور وزوال الخوف من قلوب السوريين الذين انتقلوا من الخوف من مجرد ذكر اسم الدكتاتور إلى السخرية منه ولعن روح أبيه. وعلى الرغم من تعمد النظام إظهار بطشه ووحشيته مستخدماً الرصاص المتفجر لقتل المتظاهرين والتعذيب البهيمي في السجون استمرت الثورة وازداد عدد المشاركين فيها. يتبع ذلك انتقال الثورة إلى الجيش عن طريق عصيان الأوامر بإطلاق النار والذي ابتدأه المجند خالد المصري في 23 آذار، ثم فرار المجندين من خط المواجهة لمشاركة المدنيين في المواجهات ضد قوات الأمن وما تلاه من انشقاقات لجند وضباط مع سلاحهم ليشكلوا حركة الضباط الأحرار بقيادة المقدم الهرموش والجيش الحر بقيادة العقيد الأسعد.
زاد من أهمية ذلك انتقال الخوف إلى بيت النظام بعد أن فقد مسكنه الأول في قلوب الجماهير السورية. فقد ظهر الرعب في عيون بشار الأسد في كل كلماته ومقابلاته التي لم يجرؤ على توجيه أي منها إلى عموم الشعب، وكان واضحاً بشدة في صوت بثينة شعبان في مؤتمراتها ومقابلاتها الصحفية. بالإضافة إلى تهافت النظام إلى الإعلان عن إصلاحات، وإن كانت غير جدية كرفع حالة الطوارئ ومنح الجنيسة للأكراد المكتومين وزيادة الرواتب وتغيير الحكومة. تحمل هذه “الإصلاحات” اعتراف النظام ولو بشكل غير مباشر بالمشاكل التي كانت موجودة في سوريا ولطالما أنكرها كالفساد المستشري والفقر والمسألة الكردية ومشكلة الجفاف في المنطقة الشرقية بالإضافة إلى مشاكل التمييز ضد المسلمين في الدولة.
لا يقل أهمية عن ظهور المعدن الحقيقي للشعب السوري البطل ما أبداه لاحقاً من وعي ساعد في انتصاره على الفتنة؛ وأقصد بذلك الفتنة الطائفية التي حاول النظام بثها، وربما كان هذا أهم انتصارات الثورة التي أظهرت أحقية الشعب السوري بمطالب ثورته الي آمن بها بحق في الحرية والعدالة الاجتماعية. لقد حاول النظام مجتهداً جر المتظاهرين إلى حمل السلاح ضد الجيش لكن فشله في ذلك ساهم في حرمان النظام من وجود ما يدعيه من عصابات مسلحة يستطيع أن يواجهها، بالإضافة إلى أن هذا ساهم في دفع المزيد من المواطنين إلى المشاركة بهذه الثورة الشعبية.
نظراً لعدم سماح النظام لوسائل الإعلام بتغطية الأحداث في سوريا، كان لزاماً على المتظاهرين الذين يصنعون الحدث أن يوثقوه بالفيديو وينقلوه إلى وسائل الإعلام باعتماد كامل على الذات، ما زاد من ثقة الشعب بنفسه وإصراره على التحدي، وقد تحسن مستوى الإعلام الشعبي وتطور بشكل ملحوظ في سرعة ودقة نقل الأخبار وانتشار رقعة التغطية، كما تطور في أسلوب التوثيق عن طريق الكلام في الفيديو المصور أو تصوير لافتة توثق الحدث بالإضافة إلى تصوير معالم من المدينة لإثبات المكان، وهذا أدى أيضاً إلى ازدياد اهتمام السوريين بوسائل الإعلام الحديثة ومشاركتهم بكتابة التعليقات والتحليلات ما ساهم في رفع الوعي السياسي للمواطنين.
تبع ذلك ظهور فن خاص بالثورة، فقد ازدهرت الحركة الأدبية وازداد الإقبال على قراءة إنتاج الكتاب السوريين، خاصة عند دخول شباب جدد ساحة الكتابة وربما لم يعلموا من قبل أنهم يمتلكون هذه الملكة. كما ازدهرت الكتابة باللهجة العامية التي ربما يراها المحافظون تردياً للمستوى الثقافي إلا أنها برأيي تعبر عن تطور في اللغة وربما كانت جزءاً من الثورة الفكرية التي نعيشها. ترافق هذا طبعاً بازدهار الحركة الفنية غناءً وتمثيلاً ورسماً وحتى النكتة شهدت نهضة لا تقل عما شهده باقي أشكال الفن.
هذا الإعلام الشعبي القوي المدعوم بالفنون الثورية تسبب في انتشار الثورة عالمياً وكسب التضامن بل الإعجاب من قبل شعوب العالم كافة، وهذا يعود بشكل أساسي إلى استمرار سلمية الثورة كمنهج في مواجهة أشنع أشكال القمع والتنكيل. لقد انتصر إعلام الثورة بالرغم من التعتيم الذي مارسه النظام ومحاولاته التشويش عليه بنشر الإشاعات ثم فضحها على أساس أنها من فبركات ما يصفه دائماً بقنالات الفتنة المغرضة وقيامه هو بفبركة الفيديوهات ونسبها إلى الثورة.
لم يكن أمام النظام إلا الخضوع للضغوط الشعبية المتعاظمة، وإن كان رأسه في بداية الثورة قد وصف الاستجابة للضغط الشعبي بأنه مظهر ضعف، إلا أن قوة الحراك أجبرت النظام الذي تدعمه الكثير من دول العالم العربية والأجنبية على الركوع أمام نضال الشعب السوري. وأهم أشكال هذا الخضوع كانت أولاً الاعتراف بوجود المعارضة والحركة الاحتجاجية ثم الدعوة إلى الحوار معها وانتهاءً بتوقيع اتفاقية إرسال المراقبين الدوليين.
أخيراً، وربما يكون هذا من أهم انتصارات الثورة على النظام؛ استقلالية الخيار الثوري: حيث لم تتلق الثورة أي دعم من أنظمة الدول المهتمة بالشأن السوري. وعلى الرغم من أن هذا أشعر السوريين في كثير من الأوقات بالعزلة وبالتآمر من دول العالم، إلا أنه كان دافعاً نحو الثقة بالنفس والاعتماد على الذات في الوصول إلى الهدف المنشود.
تهدف الثورة بشكل عام إلى تحقيق الحرية الاجتماعية والسياسية، الكرامة الإنسانية والمواطنة، الديمقراطية والتعددية السياسية، والعدالة الاجتماعية، وسيادة القانون… وغيرها من أحلام أي إنسان يشعر بإنسانيته وحقه بالمواطنة في مكان عيشه. ربما كانت هذه الأهداف لتتحقق في بداية الثورة عن طريق الإصلاحات التي كان بإمكان النظام تنفيذها حيث كانت المطالب فعلاً لا تتجاوز إصلاح النظام، لكنه بعد تفويته الكثير من الفرص والمهل وإمعانه في القتل والإجرام لم يعد بالإمكان تطبيق هذه الأهداف إلا عن طريق إسقاط النظام بالكامل ومحاسبة رؤوسه، وذلك يتطلب مرور البلاد بفترة انتقالية يقودها أشخاص من خارج النظام. ويتطلب قدرة استثنائية على السيطرة على البلاد في تلك المرحلة التي ستشهد حتماً فلتاناً أمنياً وعمليات انتقامية وتصفية حسابات. فما هي المبادئ التي يجب أن يتمسك بها الثوار للحفاظ على مكاسب الثورة الحالية وضمان استقرار البلاد عند سقوط النظام وما هي الاستراتيجية الواجب اتباعها لإكمال المسيرة؟
يجب أن تنطلق رؤيتنا لمستقبل الثورة من إدراكنا لعوامل نجاحها واستمراريتها والأخطاء التي وقعت فيها فتسببت بتراجعها وكيف يحافظ النظام على بقائه إلى اليوم. عوامل النجاح التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه اليوم كانت بشكل عام إصرار الشعب السوري على المضي قدماً في الثورة وإدراكه لخطورة التراجع عنها والتزام الثوار بسلمية الثورة وعدم وجود أي تدخل أجنبي ومشروعية المطالب وشمولها لكافة فئات وطبقات المجتمع من غير المستفيدين من النظام الفاسد.
لا شك أن الإصرار البطولي للشعب السوري أمر مستمر لا داعي للنقاش بشأنه، أما الالتزام بالسلمية فقد كان مهدداً في كثير من الأوقات بالخضوع لضغوط النظام السفاح وإن لم يتجاوز إلى الآن أحداثاً متفرقة كانت بأغلبها دفاعاً عن النفس، وعلى الرغم من أنه كان خياراً استراتيجياً للثورة ولا يزال الثوار يرددونه في المظاهرات في كل المناطق السورية إلا أن فقدان الأمل بنجاح الحراك السلمي بعد مرور قرابة العشرة أشهر على الثورة وعدم وضوح المكاسب التي حققها الحراك السلمي يرجح احتمال التحول نحو التسليح. لقد حصلت عدة حوادث عنف خاصة في المناطق الساخنة كحمص وقد شاب العديد منها جانب طائفي كان يمكن أن يعصف بالثورة كلها لولا تدارك القيادات الميدانية الواعية للوضع بسرعة. نعلم أن النظام يجتهد في إذكاء الفتنة الطائفية والتشجيع على العنف، ولم يتورع عن ممارسة هذه الجرائم ونسبها إلى الثوار ﻷسباب واضحة، وعليه فإن الوعي الشعبي لفائدة التسليح للنظام من جهة ولفائدة النضال السلمي للشعب من جهة أخرى بالإضافة إلى إدراك الشارع بأن انتصارات كبيرة قد تحققت في زمن قياسي بفضل هذا النضال سيشجع على الحفاظ على السلمية والتصدي لألاعيب النظام وهذا بشكل أساسي واجب الواقفين على المنابر الإعلامية من مديري صفحات الفيسبوك والسياسيين، وما أدل على خطورة السلمية على النظام ومنحبكجيته إلا أنهم يرددون عبارة “سقطت السلمية” كلما رأوا واحدة من إشاعات النظام أو من العنف الذي حصل أثناء الثورة فهم يرون فيها تفوقاُ أخلاقياً للثورة وعاملاً لقطاع واسع من الشعب.
يعتبر التدخل الخارجي الموضوع الأكثر تداولاً بين السوريين داخل وخارج سوريا يصل إلى حد تخوين مشجعي التدخل لرافضيه والرافضين لمشجعيه. كما أن هناك رأي وسط بين الطرفين يطالب بالحماية الدولية المتمثلة بإرسال مراقبين دوليين وصحافة عالمية مستقلة إلى سوريا، وهذا الرأي على الرغم من أنه الأكثر قبولاً في الشارع إلا أنه الأكثر رفضاً من طرف النظام؛ الذي يرى في عدم التدخل فرصة لارتكاب المجازر بحق الشعب كما يرى في التدخل فرصة لاكتساب شرعية فقدها في الداخل، بالإضافة إلى تحويل ساحة المواجهة إلى خارج سوريا، أي بين سوريا وآخرين بعد أن كانت شأنا داخلياً. لم تُخف دول العالم المعنية أنها لن تقوم بالتدخل العسكري في سوريا وأن على جامعة الدول العربية المبادرة لحل الأزمة بالإضافة إلى أن كلاً من روسيا والصين ترفضان بشكل واضح حتى إدانة النظام السوري في مجلس الأمن. لقد قامت الجامعة العربية فعلاً بعرض مبادرة كان تحقيق البندين الأولين منها (إطلاق سراح المعتقلين وسحب الجيش من المدن) كافياً لإسقاط النظام إلا أن الشارع السوري رفضها قبل أن يرفضها النظام وتعرضت الجامعة للهجوم من قبل المعارضين وصفحات الفيسبوك على الرغم من أن الجامعة عملياً لم تهتم لأي من الثورات العربية عدا السورية وقد اتخذت قرارات حاسمة فعلاً ﻷول مرة منذ زمن طويل. يعلق عزمي بشارة على هذا الموضوع بشكل موسع أكثر في آخر لقائين له العام الماضي على قناة الجزيرة ويرى أن رفض المبادرة العربية وطلب التدخل الأجنبي أخطاء تسببت بهدر دماء السوريين الذين ينتظرون من لن يأتي.
لقد تسبب التعويل على الخارج، سواءً كان سورياً أو عربياً أو إسلامياً أو عالمياً، باستنزاف الثورة وضياع الكثير من الوقت بانتظار العامل الخارجي الذي سيفقد الثورة بشكل أساسي خياراتها المستقلة ويعطي القرار للخارج الطامع بمكاسب في سوريا. بالإضافة إلى أنه عملياً يعني عدم الثقة بقدرة الشارع السوري على النجاح في الثورة.
أضيف إلى ذلك المطالب بتوحيد المعارضة والتي تعني ببساطة أن على رأي ما أن يسكت مقابل أن يسري الرأي الآخر، وهذا مخالف من حيث المبدأ للديمقراطية التي نطمح لها، والتي تخضع لاختبار حقيقي الآن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تسبب بتشتيت العمل السياسي المعارض وضياع الجهود في أمر لا فائدة ترجى منه أصلاً، فلكل مجموعة من السياسيين منطلقاتهم الفكرية ورؤيتهم للحل في سوريا ولا يمكن أن تختزل كل وجهات النظر تلك بجسم واحد.
نصل إلى العامل الأهم في استمرار ونجاح الثورة: المطالب الثورية وشموليتها، والتي تتطور بحسب المستجدات الميدانية، فالثورة التي بدأت ثورة للكرامة تتحدى الظلم وتنادي بالحرية بدأت تبتعد عن هذه القيم الرفيعة إلى الاكتفاء بشتم رأس النظام ولعن روح الدكتاتور السابق والمطالبة بإعدام الرئيس. وهذا أمر نبهنا إليه إعلام النظام، فهم يعرفون علل الثورة ويشيرون إليها دائماً ويرون أوجه الخطأ التي يجب على الثورة أن تتفاداها. إضافة إلى ذلك ظهرت هتافات تشتم غير المشاركين بدءاً من “الي ما بيشارك ما فيه ناموس” إلى الأغاني التي تصف أهالي حلب بالاهتمام ببطونهم وعدم الاكتراث بما يجري في سوريا إضافة إلى عبارات طائفية تداولتها صفحات المنحبكجية بكثافة. تسميات الجمعة واحدة من العوامل التي حملت أثراً سلبياً كبيراً على الفكر الثوري والمطالب الثورية وكانت تمثل وجهة نظر واحدة في الحراك وسببت حالة امتعاض في الشارع. ومادة دسمة لإعلام النظام وفتوراً للروح الثورية.
لقد تشتت النضال الثوري والعمل السياسي في أهداف جانبية وصراعات داخلية تسببت بتراجع في انتشار الثورة لعدة أشهر ولم ينجح شيء في استعادة الثوار لثقتهم بأنفسهم إلا نجاح إضراب الكرامة ولو جزئياً ووصول بعثة المراقبين العرب إلى سوريا. وقد حان الوقت للجدية في العمل السياسي من طرف المعارضين وطرح حلول عملية لا تصل بنا إلى طريق مسدود، كما يجب على الثوار احترام الحلول المطروحة على الساحة وإعطائها الفرصة كي تنجح فالسياسيون المعارضون هم أيضاً سوريون ويتميزون بخبرة ودراية أكبر بكثير من الشباب الثائر.