انفجار الهويات القاتلة…لماذا “كراهية الإسلام” في الغرب؟/ فخري صالح
لا يسعى كتاب «كراهية الإسلام – كيف يصوّر الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» إلى النظر في السياسة العملية للغرب، وبصورة أساسية الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه العالمين العربي والإسلامي، بل إلى الحفر على الرؤى النظرية والفكرية التي تقيم في خلفيات هذه السياسة.
إنه استئناف على الدراسات، التي قدمها عدد من المفكرين والباحثين، الذين ينتمون إلى العالمين الإسلامي والعربي، وكذلك بعض الباحثين في الغرب ممن حاولوا تفكيك رؤية الغرب لنفسه. ومن هنا جاء عنوان الكتاب الذي يحاول أن يضع اليد على كيفية تصوير الاستشراق الجديد للعرب والمسلمين.
لكن «الاستشراق الجديد» يقطع مع «الاستشراق القديم» بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية؛ ذلك أنّ جوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها بوصفها قطبًا عالميًا وحيدًا وأوحد. وهذا ما يمكن أن يفسر دور كل من برنارد لويس وصمويل هنتنغتون في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير.
فإذا نظرنا إلى ما قدمه الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، في دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه، فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة الاستشراقية حول العالمين العربي والإسلامي.
وبغض النظر عن نقد الاستشراق، الذي مارسه مفكرون مثل عبد اللطيف الطيباوي وأنور عبد الملك وإدوارد سعيد وسيد العطاس وطلال أسد، وغيرهم، فإن الاستشراق الكلاسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها.
سطحية الاستشراق الراهن
أما ما سميته “الاستشراق الجديد”، أو بالأحرى “الاستشراق الراهن”، ممثلاً في كتب برنارد لويس الدعويَّة الأخيرة، وتنظيرات صمويل هنتنغتون، وسياحة الكاتب الترينيدادي الأصل، والبريطاني الجنسية والثقافة، في. إس. نايبول، في العالم الإسلامي، فهو يتسم بالسطحية، وتغلب عليه الصور النمطية، والتحليلات المستمدة من مصادر ثانوية. إنه “استشراق” ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة.
فإذا كان الاستشراق الكلاسيكي واقعاً في شرك العلاقة المعقدة القائمة بين المعرفة والخطاب والسلطة (مدركاً ذلك أو غير واعٍ بهذه العلاقة)، كما يرى إدوارد سعيد، فإنه سعى، في عمل المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس غولدتسيهر أو الألماني كارل بروكلمان، إلى دراسة الميراث الإسلامي العظيم، وقراءة هذا الميراث في تاريخيَّته.
أما النسل الجديد من المستشرقين (ومما يؤسف له أن برنارد لويس واحدٌ من هؤلاء، رغم ميراثه البحثي الضخم حول تاريخ الإسلام) فهو يسعى إلى بيع معرفته وخبرته للسلطة، لوزارة الخارجية الأمريكية، للسي آي إيه، لمراكز صنع القرار في أمريكا والغرب، لتوفير معرفة نظرية (؟) يمكن، من خلال الاستعانة بها، اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة.
لا شك أن بعض الاستشراق القديم كان في خدمة الإمبراطورية، لكنه لم يكن كذلك في معظمه، أما ما كتبه برنارد لويس وتلامذته، الأقل منه شأناً ومعرفة دون أي شك، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلا قيمة معرفية له، بل هو دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة.
إنها مجرد مواد إعلامية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأمريكا لغايات استراتيجية، وكذلك هويَّاتيَّة في مواجهة الآخر، المسلم الذي يعتقد هؤلاء أنه يهدد هوية الغرب المسيحي – العلماني – الديموقراطي. ويمكننا أن نرى الآن هذا الجنون القومي – الهوياتي – المعادي للأجانب (وهم في الغالب: المسلمون)، الذي يجتاح أمريكا وأوروبا، لنفهم إلى أي حد أساء هؤلاء المستشرقون الجدد إلى أمريكا والغرب قبل أن يسيئوا إلى العرب والمسلمين.
كراهية الإسلام جزء من صناعة القرار السياسي الأمريكي
إننا مقبلون على كارثة، بعد أن أصبحت كراهية الإسلام سياسة يعتنقها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب ومساعدوه في البيت الأبيض. ولا شك أن ذلك ينسحب على أوروبا التي ستعاني كثيراً بسبب السياسة الأمريكية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة، الإنجليزية الثقافة، وهو ما نظَّر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه “من نحن؟” (2004)، وهو الذي نبه من قبل إلى خطر المسلمين، ثم أضاف في كتابه الأخير المهاجرين من أمريكا اللاتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أمريكا في بدايات القرن الحادي العشرين.
هذه الرؤى النظرية، إذا تمَّ اعتناقها، قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية، وربما حروب عالمية. وها نحن نرى دونالد ترامب يحاول جاهداً إقناع المشرعين الأمريكان بضرورة إقامة جدار بين المكسيك والولايات المتحدة، ويمنع دخول المسلمين إلى أمريكا لأنهم في نظره إرهابيون.
ومع أنني لا أومن أن الأفكار وحدها يمكن أن تقود إلى صناعة السياسات، فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو- استراتيجية وثقافية تقيم في صلب هذه السياسات، إلا أن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد، إضافة إلى صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة الأمريكية، قد صنعت رأياً عاماً في الأوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب ريس أمريكي شعبوي، معادٍ للثقافة، معادٍ للتجربة الديموقراطية الأمريكية، كاره للأجانب، محتقر للنساء، قد يجرُّ العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.
لقد بحث الغرب، ممثلاً في أمريكا وأوروبا الغربية، عن تماسكه فوجده، بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، في التحريض ضد الاتحاد السوفييتي؛ العالمُ الغربيُّ الديموقراطي، بقيادة الولايات المتحدة، في مواجهة الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية التي تدور في فلكه.
كان ذلك ضرورياً من أجل تعريف الغرب الديموقراطي لنفسه، وابتناء هوية وكتلة ووحدة داخلية في مواجهة الزحف الشيوعي. لكن الاتحاد السوفييتي انهار عام 1991. زال الخطر الشيوعي الذي يوحّد الغرب، فبدأ البحث عن عدو جديد يتمثَّل الآن في الإسلام الذي يسعى إلى تدمير الغرب وقيمه الديموقراطية العلمانية! ويمكننا أن نعثر على التعبير الواضح عن هذا التصور في ما يحدث الآن، وما تقوله الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وقبل ذلك كله فيما يقوله ويفعله ترامب وفريقه في البيت الأبيض.
لقد آتت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، والمحافظين الجدد الذين ترعرعوا في حقبة إدارة جورج بوش الابن، أُكلها. ها نحن نرى واحداً مثل دونالد ترامب، يعتنق أفكاراً متطرفة وعنصرية وجنسوية، يحكم أقوى دولة في العالم، ويعبر في أقواله وأفعاله عمَّا يشعر به تجاه المسلمين، وغيرهم من الأغيار.
لقد اتهم المكسيكيين بأنهم مغتصبو نساء، والمسلمين بأنهم إرهابيون بالطبيعة، لأنهم يحملون مورِّثات تجعلهم كذلك. تلك هي العنصرية في أعلى تجلياتها. لقد جاءت الحملات الاستعمارية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى الشرق العربي والإسلامي، وإلى إفريقيا، بدعوى تحضير الشرق المتخلف، ونقل رسالة التنوير الأوروبي إليه. أما الآن فإننا نشهد جدراناً ترتفع بين الدول والشعوب، ورغبةً في الانعزال والتقوقع، ونشهد أعلام الكراهية ترتفع في كل مكان.
طوفان الكراهية يجتاح المجتمعات الإسلامية من الداخل
لكنَّ من الضروري، في هذا السياق، أن نوجه إلى أنفسنا، إلى العالمين العربي والإسلامي، اللوم أولاً لأن طوفان الكراهية يجتاحنا من الداخل ثم يفيض إلى الخارج. نحن نرى أعلام الكراهية الدينية والمذهبية، والهويَّاتية، تُرفع في كل مكان من العالمين العربي والإسلامي، بدرجة أو أخرى.
إن انفجار الهويات يوشك أن يغرقنا قبل أن يغرق الآخرين. ولا شك أن العرب والمسلمين بحاجة إلى مراجعة تجارب مجتمعاتهم للخروج من هذه الحروب الطائفية والمذهبية والقومية التي تستعر في بلدانهم. فذلك وحده يمكن أن يخفف من التوتر الذي يجتاحهم ويجتاح العالم لأن التطرف يمسك بخناق العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يعطي أناساً مثل ترامب، والأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب، الذريعة للتحذير من خطر الإسلام والمسلمين على الغرب.
ثمة حقائق سياسية واستراتيجية لا يمكننا تجاوزها. لقد هاجمت القاعدة أمريكا عام 2001 بطائرات محملة بالركاب استخدمت لتدمير برجي التجارة العالمي وقتل أكثر من ثلاثة آلاف مواطن أمريكي.
لكن اليمين المتطرف في أمريكا استطاع توظيف هذا الحدث الرهيب لاحتلال أفغانستان والعراق في حينه. وكان لكتابات برنارد لويس وهنتنغتون أثر واضح في توفير مبررات تاريخية، نظرية، أنثروبولوجية، ثقافية (!)، لاندفاعة الإمبراطورية الأمريكية في اتجاه العالمين العربي والإسلامي.
*من مقدمة الطبعة الجديدة المزيدة والمنقحة لكتاب “كراهية الإسلام” التي ستصدر قريباً.
فخري صالح، كاتب وأكاديمي أردني، حاصل على الماجستير في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأردنية. كاتب وناقد ومترجم معروف عمل في الصحافة الأردنية والعربية مراسلاً وكاتباً، ثم محرراً أدبياً لعدد من الصحف والمجلات المرموقة. يكتب بصورة منتظمة في الصحف والمجلات الفصلية والشهرية العربية. عضو رابطة الكتاب الأردنيين، له عدة دراسات ومؤلفات، منها: “دفاعا عن إدوار سعيد” (2000)، و”قبل نجيب محفوظ وبعده” (2010)، و” كتاب الثورات العربية” (2013).