اوجلان اسير في تركيا و’شبيحة الكرد’ طلقاء في سورية!
صبحي حديدي
أحد أبطال ‘الريش’، رواية الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات، يعابث والده بمنطق الكوميديا السوداء، قائلاً: ‘أهو يدبّر انقلاباً على الحكومات من الأناضول إلى أرمينية ليسترجعني بعد ذلك إلى إمبراطوريته الحرة؟ ألا يعرف أن الحكومات هذه، التي تقاسمت قلبه الكردي ذا المصبات التي تنتهي أنهارها إلى البحر الجنوبي المفضي إلى الخليج وإلى قزوين، لا تقبل تسليم جثث الكرد إلى ذويهم إلاّ بعد دفع نفقات الإعدام’؟ ثم يتابع، ناطقاً بحكمة صائبة: ‘أمراؤك يا أبي يدخلون الحرب الكبيرة ضد البارثتيين والآشوريين وحتى الباب العالي، كلما ملك أمير مائة محارب. أليس عليهم أن ينتظروا بلوغ جيوشهم مائتي نفر’؟
المرء يستعيد هذا النصّ في مناسبتين: الذكرى الثالثة عشرة لاعتقال عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ’حزب العمال الكردستاني’، الـPKKd في اختصاراته الشهيرة، والذي اختُطف يوم 15/2/1999 من كينيا، ضمن عملية مشتركة نفّذتها الاستخبارات المركزية الأمريكية والاستخبارات الوطنية التركية، اقتيد بعدها إلى زنزانة في جزيرة إمرالي، في بحر مرمرة، حيث يتواصل اعتقاله منذئذ؛ والمناسبة الثانية هي أعمال العنف التي مارسها ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’، الجناح السوري للـPKK، ضدّ المتظاهرين الكرد في منطقة عفرين، شمال حلب، وكذلك في بعض مناطق محافظة الحسكة، وكوباني، وحيّ ركن الدين في دمشق. وإلى جانب الصلة التنظيمية والحزبية المباشرة بين المناسبتين، ثمة تلك الصلة الأخرى التي تخصّ علاقة الحزبين بالنظام السوري: الحزب الأمّ، طيلة سنوات حكم حافظ الأسد، وحتى رضوخه للضغوط التركية وطرد أوجلان من سورية والبقاع اللبناني، سنة 1998؛ والحزب الفرع، خلال الأشهر الأخيرة المنصرمة حين تدهورت علاقات بشار الاسد مع الحليف التركي، واختار أن يناور مع أنقرة عن طريق تنشيط ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’.
والحقّ أنّ الصور الفوتوغرافية للحاجز ‘الأمني’ الذي أقامه الحزب على مدخل ناحية راجو، منطقة عفرين، مذهلة في ثلاثة جوانب على الأقلّ: أنّ الحاجز بدائي تماماً، ويقطع الطريق بشريط قماشي فقط، ولكنه يمارس التفتيش في وضح النهار، ويوقف العابرين والسيارات المارّة؛ ولكنه، من جانب ثانٍ، يقيم متاريس من أكياس الرمل على التلة المحاذية، وعناصره يرتدون قمصان حمراء خاصة، على مرأى ومسمع من سلطات النظام، كما للمرء أن يفترض؛ والحاجز، ثالثاً، لا يرفع العلم السوري، ولا العلم الكردي ذا الألوان الأربعة، بل يرفع علماً حزبياً ثلاثي الألوان. وهو ذهول يقترن، مباشرة، بواقعة تصدّي عناصر الحزب للمتظاهرين الكرد في عفرين، حيث أفادت مواقع كردية عديدة أنّ مفرّقي التظاهرة كانوا ‘مسلحين بشتى أنواع الأسلحة البيضاء والعصي الكهربائية وبعض المسدسات’، وأنهم ‘قاموا بالهجوم على المتظاهرين السلميين بطريقة همجية عنيفة ليمنعوهم من التظاهر’، كما طاردوهم حتى المستشفى الوطني، فحاصروه. قبلها، لم تتردد بعض التنسيقيات الكردية في اتهام ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’ باغتيال ثلاثة شبان أكراد من عائلة واحدة، في القامشلي؛ وكذلك اعتقال ابراهيم برو، القيادي في حزب ‘يكيتي’ الكردي، ‘لتمرير أجندة سياسية’ كما عبّر عضو في اللجنة التنفيذية للمجلس الوطني الكردي.
وهذه الحال أفسحت المجال، المنطقي تماماً في الواقع، لاستيلاد المصطلح المحزن: ‘شبيحة الكرد’، والذي بادر النشطاء الكرد أنفسهم إلى استخدامه قبل سواهم، وسط مناخ من النقد والنقد الذاتي والشفافية، جدير بالإعجاب والتحية، وذلك رغم ما تنطوي عليه الممارسة من مفارقة مؤسفة. فالكرد السوريون، غنيّ عن التذكير، انخرطوا في الانتفاضة منذ أيامها الأولى؛ وكان حضورهم قوياً ومميزاً ودالاً، لا سيما بعد أن سعى النظام إلى تحييدهم عن طريق تقديم ‘رشوة’ بائسة ومفضوحة، هي إعادة الجنسية إلى البعض منهم. وأن تتطوّر الخلافات بين أحزاب الكرد (13 حزباً، في التقدير المتفائل!)، وهي في نهاية المطاف تباينات طفيفة طبيعية ومشروعة وصحية أحياناً، إلى اقتتال داخلي؛ ثمّ التلاقي، على أي نحو وفي أية صيغة، مع مخططات النظام في تفرقة الصفّ الكردي، والصفّ الوطني السوري عموماً، إلى درجة تفريق التظاهرات أو خطف المعارضين الكرد أو إقامة الحواجز… أمر لا يصيب الحركة الكردية بنكسة موجعة فحسب، بل يضرّ بالانتفاضة، ولا يخدم إلا النظام في الحساب الأخير.
وفي مناسبة سابقة، تخصّ ابتداء تنشيط العلاقة بين الـ PKK والنظام السوري في الشهر السابع من عمر الانتفاضة، توقفتُ عند بعض حيثيات التاريخ التي واصلت تأكيد سرديتين متكرّرتين، لم يغب عن عناصرهما طراز من التكامل الجدلي، حتى حين يلوح أنّ التناقض بينهما هو السمة الأعمّ. السردية الأولى تشير إلى أهوال ما لاقاه الكرد من صنوف الاضطهاد، الإثني والسياسي والثقافي، الذي مارسته ضدهم شعوب وقوى وأحلاف، محلية وأقليمية ودولية. السردية الثانية، وهي ليست أقلّ مأساوية، تشير إلى تلك الخيانات المزدوجة: واحدة من أولئك الذين احتسبهم الكرد في عداد الأصدقاء والحلفاء، وأخرى ارتكبتها بعض القيادات السياسية الكردية ذاتها، لأسباب شتى مناطقية أو حزبية. مفيد، هنا، استرجاع خلاصة بسيطة، برهنت وقائع التاريخ على صحتها، وهي أنّ علاقة الـ PKK النظام السوري كانت موشراً معيارياً على علاقة التنظيمات الكردية بالجوار، بالقوى المحلية والإقليمية، وكذلك القوى العظمى.
بدايات العلاقة تعود إلى أيلول (سبتمبر) 1980، حين تضافر عاملان إقليميان على توطيدها: الانقلاب العسكري الذي جاء بالضباط المتشددين إلى الحكم في تركيا، واندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية التي وضعت الشأن العراقي في قلب الملفات الإقليمية. وبصدد الحالتين الطارئتين كان الأسد الأب مهتماً باحتضان أوجلان، ودعمه عسكرياً ولوجستياً ومالياً، الأمر الذي توطد أكثر فأكثر عام 1982 حين انهارت العلاقات السورية ـ العراقية، وحققت إيران بعض الانتصارات العسكرية. وآنذاك، أيضاً، كان الصراع الخفي على أشده بين الفصائل الكردية العراقية (‘الحزب الديمقراطي الكردستاني’ بزعامة مسعود البارزاني، و’حزب الاتحاد الوطني الكردستاني’ بزعامة جلال الطالباني، بالإضافة إلى المجموعات الكردية الأخرى المتواجدة في سورية).
وحين عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الأول عام 1981، ومؤتمره الثاني بعد عام، في ‘مكان ما على الحدود السورية اللبنانية’ دائماً، كان التواجد على الأرض السورية هوالفارق الوحيد، ولكن البليغ للغاية، عن الاجتماع التأسيسي الذي يعود إلى عام 1974، والذي ضمّ عشرة رجال وامرأة واحدة، وعُقد في إحدى الضواحي الفقيرة، قرب أنقرة. ذاك لقاء دعا إليه عبد الله أوجلان، الطالب الجامعي الذي هجر كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة، ليتفرغ للحلم الكردي بدولة مستقلة في تركيا، على طريق تحقيق كردستان الكبرى؛ والذي سوف يتزعم الحركة، ويحمل لقب الـ ‘آبو’، أو العمّ في اللغة الكردية (ولن يجد الحزب غضاضة في تسمية أنصاره بالـ’آبوجيين’).
لقد تميّز حزب أوجلان بأنه الوحيد الذي خرج، بوضوح وصخب وعنف، عن الصيغة السياسية الكردية التقليدية، التي جعلت الأسرة والقبيلة والطريقة الصوفية هي محرّك التنظيم السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي (على سبيل المثال: أسرة البرزنجي والطريقة القادرية، وأسرة البرزاني والطريقة النقشبندية). وكان الحزب الوحيد الذي ينتمي أعضاؤه إلى الفئات الشعبية الفقيرة والمسحوقة، الفلاحية أو شبه الفلاحية، التي ذاقت طعم الاضطهادين الطبقي والقومي، وسعت إلى الممارسة الصائبة، قبل أن تهيمن الجعجعة الإيديولوجية والمحاكم الثورية الدموية. وهذا ما يشخصه، بعمق وإحاطة، الأنثروبولوجي الهولندي مارتن فان برونسين، في كتابه ‘الآغا والشيخ والدولة: حول التنظيم الاجتماعي والسياسي في كردستان’، 1992، وهو على الأرجح الكتاب الأهم عن الأكراد في أية لغة حتى الساعة.
وفي مطلع السبعينيات كان ‘العمّ’ أوجلان هو صاحب البرنامج السياسي الشهير ‘درب الثورة الكردية’، والذي تضمن سلسلة مقولات راديكالية بينها واحدة رأت أن كردستان المبعثرة والغائبة هي نتاج سياسات آثمة نفذتها أربع دول (إيران والعراق وتركيا وسورية)، وأن إحياء كردستان يمرّ عبر درب وحيد هو الثورة الكردية الشاملة في هذه الدول، في صيغة تفوح منها رائحة المفهوم التروتسكي عن الثورة المتواصلة. أمّا ‘العمّ’ نفسه، ولكن في مطلع الثمانينيات، فهو القائل بخوض حرب التحرير على ثلاث مراحل: الدفاع الستراتيجي، وتوازن القوى، والهجوم الستراتيجي. وتلك اللعثمة التقنية، في توصيف أغراض كانت أكثر وضوحاً قبل سنوات قليلة، إنما نبعت من حقائق الأرض وحسابات المضيف السوري.
ورغم أن معسكرات الـPKK في مناطق الشمال الشرقي من سورية (مثل الدرباسية وعامودا وجرنكي)، ومنطقة البقاع اللبنانية، بقيت مفتوحة ونشطة، إلا أن النظام السوري وقّع في عام 1986 بروتوكولاً أمنياً مع تركيا يقضي، صراحة هذه المرة، بوضع حد لمعونة فصائل الحزب. كانت هذه هي الخطوة الأولى، ربما، على طريق مرحلة الدفاع الستراتيجي، لأن الحزب أقام أولى قواعده في معسكر لولان الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية من تقاطع الحدود الإيرانية ـ التركية، وسبق ذلك بتأسيس فصائل ‘وحدة الحرية الكردستانية’، أو الذراع العسكري الضارب في الحزب، المكلف بتنفيذ حرب العصابات والتوغل في عمق الأراضي التركية وصولاً إلى ديار بكر. ومسلسل المواجهات اللاحق يبدأ من إغارة طائرات الفانتوم التركية على معسكرات الحزب في كيشان وهيات وهفتانين وهيكاري، بتوقيت مناسب مع التسويات الواسعة التي كانت تجري على قدم وساق في بغداد وأنقرة ودمشق وطهران…
وإذا كانت بعض الإحصائيات تشير إلى أنّ ثلث أعضاء الـPKK هم من الكرد السوريين، المقاتلين في جبال قنديل وكهوف كردستان وغاباتها، فإنّ إحصائيات أخرى تشير إلى أنّ الفرع السوري، ‘حزب الاتحاد الديمقراطي’، لا يمثّل إلا أقلية ضئيلة داخل الحركة السياسية الكردية السورية. وبالتالي فإنّ احتمال انزلاقه إلى صيغة ارتهان مع النظام، أياً كان محتواها، لن تقتصر عواقبه الوخيمة على جسم الحزب وحده، بل ستُلحق الأذى بالكرد السوريين عموماً، وخاصة في هذه المرحلة الحاسمة من عمر الانتفاضة، وترنّح النظام. وللمرء أن يتفاءل بأنّ تصريحات النأي عن النظام، التي تصدر بين الحين والآخر على لسان صالح مسلم نفسه (زعيم الحزب، والعضو في قيادة ‘هيئة التنسيق’!) يمكن أن تتحلى بمصداقية الحدّ الأدنى، وتكذّب كابوس ‘شبيحة الكرد’.
لكنّ الصور الفوتوغرافية لحاجز راجو تعيدنا، من جانبها، إلى ما ردّده بطل رواية سليم بركات، عن ميليشيا تأنس في نفسها البأس ولم تبلغ المائتين بعد؛ كما أنها، في المفارقة الموازية، تذكّرنا بأنّ أوجلان حبيس زنزانة في بحر مرمرة، وأنصار فرعه السوري يقطعون الطرقات في عفرين!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس