اولويات الموقف الروسي من الأزمة السورية
راغدة درغام
مهما كان الفرد الرفيع المستوى أو الصلاحيات التي ستوكل اليه «كاملة» في العملية السياسية الانتقالية في سورية، ان الرئيس السوري بشار الأسد سيبقى وفق رأي روسيا رئيساً بصلاحيات كاملة كـ «رئيس حرب». قد يكون هذا موضع خلاف أو موضع تفهم في العلاقة الأميركية – الروسية التي يتولى ادارتها كل من وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف آملين تمهيد الأرضية لقمة ناجحة بين رئيسيهما باراك أوباما وفلاديمير بوتين الشهر المقبل. انصبابهما الآن هو على عقد المؤتمر الدولي الذي بات أولوية بالغة الأهمية لروسيا بالدرجة الأولى. موسكو راغبة جداً، وبشدة، أن تكون ايران على طاولة جنيف – 2 في مؤتمر دولي يضم أيضاً المملكة العربية السعودية وأطرافاً اقليمية أخرى الى جانب الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وموسكو بالقدر نفسه من الإصرار على إبعاد قطر عن ملف سورية نتيجة عداء عميق معها بسبب صراعها على الغاز وعلى صعود الإسلاميين من «الاخوان المسلمين» الى السلطة. وقد تردد أن الديبلوماسية الروسية نجحت في اقناع الديبلوماسية الأميركية بالموافقة على استبعاد القيادة القطرية للمسألة السورية. فالديبلوماسية الروسية تتصرف في هذه المرحلة بثقة بالغة وعلى أساس ان الرئيس السوري باقٍ في السلطة الى حين الانتخابات الرئاسية بعد سنة. انها واثقة ان المعارضة في سورية ستزداد تشرذماً وسيتعمق الشرخ داخلها وان المعارضة نفسها هي التي ستُفشل ذاتها. وعليه، ترى الديبلوماسية الروسية ان بقاء النظام في دمشق شبه مؤكد وأن بقاء بشار الأسد رئيساً بعد انتخابات 2014 وارد جداً. وأبرز مساهم في ارتفاع أسهم ثقة روسيا بنفسها وبانتصار حلف الممانعة الذي يضمها والنظام في دمشق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية و «حزب الله» والصين الى درجة أقل – هو الإدارة الأميركية. والكلام بالذات عن الرئيس أوباما الذي يقرأه الرئيس بوتين بأنه إما غير راغب بالمواجهة مع حلف الممانعة أو أنه عاجز عن تحدي هذا الحلف العازم على الانتصار على الولايات المتحدة عبر حرب سورية.
لافت ذلك المقدار من الكراهية والعداء للغرب لدى القوميين الروس الجدد الذين ترتفع أسهمهم في صنع السياسة الروسية في السنوات الأخيرة. فالشموخ والكبرياء والعنفوان باتت صفات الوطنية الروسية التي تتمثل بقومية مفرطة وإصرار على الانتصار والتفوق على الغرب حتى وإن كانت الوسيلة صعود الاستبدادية والسلطوية لمحاربة الغرب. وكلمة الغرب، في القاموس الروسي، تعني الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. فموسكو ما زالت مصرّة على استعادة دورها كإحدى الدولتين العظميين وهي عازمة على إلغاء عهد القطب الواحد مهما كلفها الأمر.
احدى وسائل الإلغاء، في نظر القومية الروسية المتطرفة، يكمن في دعم «النهضة الدينية» بكل أنواعها وأطيافها وكذلك في تنمية الأنظمة السلطوية والاستبدادية – كلاهما رداً على الغرب. الهدف هو تلقين الولايات المتحدة درساً وزج الغرب – والمقصود حلف شمال الأطلسي (ناتو) في زاوية الاضطرار للدفاع عن نفسه بقوة السلاح. فالمعركة هي حول القيم الغربية والهدف هو الإطاحة بها بأي سبيل كان.
هذا لا يعني أبداً أن كامل الفكر الروسي من لون واحد. فهناك أطياف من الآراء حول العلاقة الروسية مع الغرب كما في شأن الأولويات الروسية في منطقة الشرق الأوسط وكذلك في ما يخص كيفية التعاطي مع الـ «لا» الروسية للصعود الإسلامي الى السلطة ووسائل التعاطي مع خطر التطرف الإسلامي على روسيا.
هذا الأسبوع، عقد في مراكش ملتقى نادي «فالداي» Valdai تحت عنوان «الإسلام في السياسة: بين العقيدة والمصلحة» وضم الخبراء الروس والأجانب البارزين للبحث في هذه المسألة المهمة لروسيا. هذا النادي الذي تم تأسيسه قبل 9 سنوات أنشأ عام 2009 قسم حوار الشرق الأوسط بهدف تحليل القضايا الأساسية للمنطقة وتقويم الدور الذي تلعبه روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالإضافة الى صوغ توصيات وإعداد استراتيجيات لحكومات البلدان المعنية. ويحظى أعضاء نادي «فالداي» بلقاءات مع رئيس روسيا ورئيس الحكومة الروسية ووزارة الخارجية والكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية الفاعلة في روسيا.
اجتماع مراكش كان لافتاً لأسباب عدة من بينها العنوان الذي اختاره النادي الروسي للمتلقى والشخصيات التي شاركت فيه وضمت ممثلين عن «حزب الله»، و «حماس»، و «الجماعة الإسلامية» في مصر، وحزب «النور» في مصر، هذا الى جانب عدد من الحداثيين أو المدنيين أو العلمانيين من المنطقة العربية وخبراء من ايران وآسيا الوسطى. وبالطبع، كانت الأكثرية من الخبراء الروس، وعلى رأسهم المنظمان فيتالي نعومكين، مدير معهد الاستشراق وعضو المجلس العلمي في مجلس الأمن الروسي ورئيس مركز الدراسات السياسية، وبافيل اندرييف، المدير التنفيذي للتعاون الدولي في وكالة الأنباء الروسية، «نوفوستي».
كان لافتاً جداً الاستماع الى الآراء الروسية داخل الجلسات وخارجها، بتنوعها وتعددها واختلافها. قطب الداعين الى الاعتدال مع الغرب بدلاً من التعصب التلقائي ضده الذي يلوّن السياسات الروسية الخارجية في مجملها بدا قطباً ضعيفاً. رأي الأكثرية كان له لون كبرياء القومية الوطنية والإصرار على الحق الروسي بمنع تكرار «الخدعة» الغربية في ليبيا – اشارة الى العمل العسكري هناك. أما الموقف من الدور الروسي في سورية، فإنه كان متطابقاً عند مختلف أطياف الآراء الروسية، وهو، باختصار، الدعم التام للدور الروسي بأبعاده السياسية والعسكرية والديبلوماسية.
يحرص البعض على الإسراع الى القول – كما فعلوا قبل شهور عبر موفدين الى نيويورك – أن لا حب يربط الديبلوماسية الروسية التي يديرها فلاديمير بوتين مع بشار الأسد، وأن المسألة مسألة نظام بديل من النظام. رأيهم، باختصار، ان «عقدة» الأسد ليست عقدة روسية وأن بقاءه أو ذهابه ليس مسؤولية روسيا.
انما عند التدقيق عميقاً في الموقف الروسي الاستراتيجي من سورية يتبين ان التحالف مع ايران و «حزب الله» تحالف جدي وعازم على الانتصار المتمثل في بقاء النظام في دمشق.
روسيا تختلف مع القيادة الإيرانية ومع «حزب الله» في مسألة فتح جبهة الجولان للمقاومة ضد اسرائيل. موسكو تعارض فتح جبهة الجولان أمام المقاومة. انها تعارضها كمبدأ لأن علاقاتها مع اسرائيل تبقى مميزة ولا تريد التفريط بها. وهي تعارض تفعيل جبهة الجولان أيضاً لأنها تعتقد ان ذلك سيقوّض المؤتمر الدولي الذي توليه الآن الأولوية. فالمؤتمر عنوان مهم في العلاقة الروسية – الأميركية التي يحرص بوتين على استخدام شعرة معاوية فيها. جنيف – 2، كما يسمى المؤتمر، قد يكون الفرصة لقيادة روسيا لملفات المنطقة إذا استمرت الإدارة الأميركية بالإيحاء لموسكو انها في حاجة الى القيادة الروسية وإذا استمرت في التراجع عن مواقفها نحو الرئيس السوري والمعارضة السورية على السواء.
الرأي الروسي هو ان التغيير لم يطرأ على مواقف موسكو وإنما طرأ على مواقف واشنطن التي تخلّت عن الشرط المسبق بتنحي بشار الأسد فيما لم تتراجع روسيا عن موقفها ببقاء الأسد في السلطة. فحتى إذا أوكل الأسد كامل الصلاحيات – كما سبق وقال المبعوث الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي – الى السلطة السياسية الانتقالية، فإنه يبقى «رئيس حرب» كامل الصلاحيات وفق قول مسؤول روسي رفيع لم يكن مشاركاً في ملتقى «فالداي». هذا التعبير الجديد للصلاحيات في الفترة الانتقالية يضمن استمرارية الرئيس السوري بصلاحيات كاملة تحت عنوان صلاحيات رئيس الحرب.
التمسك ببقاء الأسد في السلطة موقف روسي وإيراني قاطع مهما تردد بأن هناك بقعة رمادية هنا أو هناك. قد تتم المقايضات لاحقاً مع الولايات المتحدة أو غيرها بما يؤدي الى «بديل» يضمن استمرار النظام ويستبعد كلياً استيلاء «الاخوان المسلمين» أو السلفيين عليه. انما الآن، لا مؤشر على الإطلاق لجهة أي تخلٍّ عن الأسد. ووفق مصادر رفيعة، ان «حزب الله» واثق تماماً بأن حلف الممانعة منتصر بالتأكيد في سورية عسكرياً واستراتيجياً وسياسياً على السواء.
حلف الممانعة الذي تلتحق به الصين له دلالات مذهبية بقدر ما له ركائز استراتيجية. فالمسلمون في روسيا هم من السُنّة وعددهم يقارب العشرين مليوناً. الجمهوريات الإسلامية الخمس المجاورة لروسيا أيضاً من السُنّة. اقليم الشيشان الذي تخوض روسيا حرباً مستمرة داخله هو من السُنّة. ولذلك، ترى القيادة الروسية ان مصلحتها القومية تقتضي التحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي عقدت العزم على قيادة الشيعة في المواجهة مع السُنّة. كلاهما يريد نظاماً عالمياً جديداً لا يقوم على هيمنة القطبية الواحدة الأميركية. والصين توافقهما الرأي. وهكذا فيما حلف الممانعة يرى أنه يزداد وزناً أفقياًَ بعلاقاته وتحالفاته المتقاطعة ضمن «البركس» الذي يضم الصين وروسيا الى جانب الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
كي لا تبدو روسيا انها تخوض حرباً ضد السُنّة أجمع، حرص نادي «فالداي» على عقد هذا المنتدى الفريد في مراكش وأوصى بعض المشاركين فيه من الروس بأن هناك رغبة بالتواصل مع السُنّة من «الاخوان المسلمين» والسلفيين. أحدهم اعتبر لقاء الرئيس الروسي مع الرئيس المصري عبارة عن تطبيع مع «الاخوان»، علماً أنهم حزب محظور في روسيا. رأيه وجد معارضة من رأي روسي آخر. انما العنوان الواسع بدا وكأن روسيا تفتح صفحة تخفف ظاهرياً من لهجة «اللا» لصعود الإسلاميين الى السلطة مع الإصرار عملياً على رفض توليهم السلطة في دمشق رفضاً قاطعاً. ولعل أهم ما أراده منظمو المؤتمر هو الطمأنة بأن روسيا الجديدة لا تتمسك بعلمانية متشددة تثير الاستياء في العالم الإسلامي، وهي في الوقت ذاته تصر على قيادتها لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط.
ما زالت السياسة الروسية متشددة قومياً واستراتيجياً. حربها على الإرهاب الإسلامي جعلتها تجدد دعوتها أخيراً لحلف شمال الأطلسي للعمل معاً في الشرق الأوسط من أجل القضاء عليه. ساحة الحرب حالياً هي سورية، وموسكو جاهزة لأي ثمن يدفعه السوريون من أجل منع توجه التطرف الإسلامي الى داخلها وجوارها. هذه هي مصلحتها وهي جاهزة لخوض الحرب السورية بأكثر مما تخوضه إذا اقتضت الحاجة. أما اليوم، فإنها تنظر الى المعارضة السورية المشتتة والموزعة بين تطرف عسكري لأمثال «جبهة النصرة» وبين صراع بين المدنيين في المعارضة وتجد في ذلك أفضل ذريعة لها لإلقاء اللوم على المعارضة وللتمسك بالنظام.
حتى اللاجئون السوريون، في نظر أحد الخبراء الروس، عليهم دفع ثمن الانتظار لسنة وفق البرنامج الانتخابي والإطالة لأكثر وفق البرنامج الزمني العسكري. هكذا هي متطلبات المصالح التي تحمل اليوم عنوان مؤتمر دولي قد يُعقد أو لا يُعقَد. فالصفقات لم تنضج باتجاه إنهاء الحرب السورية. وصراع القوميات كما صراع المذاهب وجد لنفسه بيئة في سورية. و «العترة» على الأطفال السوريين وهم العشب في ساحة صراع الفيلة.
الحياة