براون يروي ملحمة التعامل مع الأبناء المعاقين/ هيثم حسين
يرتحل الكاتب والصحافي الكندي إين براون في كتابه “الصبي في وجه القمر” في مجاهل النفس البشرية، حيث يكشف عن المشاعر الكامنة في نفس الأب تجاه ابنه المعاق، وعن نظرته للأبوة والبنوة، وعن العلاقات والروابط الإنسانية التي تربط الناس ببعضهم بعضا، وتلك التي تفصل بينهم على أساس الإعاقة أو المرض أو التشوه.
يتحدث براون عن معاناة ابنه المريض ووكر الذي ولد بطفرة وراثية شديدة الندرة تسمى “متلازمة القلب والوجه والجلد”، وهو اسم فني لخليط من الأعراض.
وكان ابنه يعاني من تأخر عام ولا يستطيع الكلام، ولم يعرف هو ما المشكلة التي يعاني منها، إلى أن تبين أن هناك فقط ما يزيد بقليل عن المائة شخص في العالم يعانون من هذه المتلازمة.
متلازمة يتيمة
يختار براون لكتابه عنوانا فرعيا هو رحلة اكتشاف أب لحياة ابنه المعاق، والكتاب من منشورات مؤسسة هنداوي في القاهرة بترجمة مجاهد أبو الفضل (2015)، ويشير فيه إلى أن هذا الاضطراب يظهر ظهورا عشوائيا، وهو خلل بلا سبب أو أصل محدد، ويطلق عليه الأطباء متلازمة يتيمة، لأنه يبدو غير معلوم المصدر أو السبب.
ويشير الكاتب إلى أن تربية ابن معاق تعد مثل طرح علامة استفهام، وأنه كثيرا ما كان يريد أن يخبر أحد الأشخاص بقصة المغامرة التي خاضها في هذا الشأن وما هي تفاصيلها، وما لاحظه حين لم يكن يتحرك في الظلام، ويتساءل عمن يمكن أن يتفهم مثل هذه الحالة الإنسانية الشاذة، وما يصفه بالجانب الغريب والنادر من الوجود الذي وجد نفسه فيه.
ويلفت الكاتب إلى أنه لا يقدم قائمة بشكاواه إذ لا جدوى للشكوى، ويحكي ما قالته له ذات مرة أم طفل آخر يعاني من المتلازمة نفسها، إنه يقوم بما يجب عليه القيام به. ويقول إن هذا يمثل الجزء السهل من الموضوع، ويتمثل الجزء الصعب في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها ابنه ووكر في ذهنه كلما حمله. يتساءل عن قيمة حياة مثل حياته، حياة تعاش في الظل، وغالبا في ألم. وما قيمة حياته عند من حوله؟
يذكر براون ما قالته له إحدى الطبيبات من أنهم ينفقون مليون دولار لإنقاذ الأطفال المصابين بهذا النوع من المرض، ولكن بعد خروجهم من المستشفى يتجاهلونهم. وقال إن الطبيبة تخبره بذلك وهي تبكي وتأسف لأنها ترى الأمر يحدث باستمرار.
يشبّه براون مشاهدة ابنه ووكر بالنظر إلى القمر، فيقول في ذلك أنك ترى وجه رجل في القمر، ولكنك تدرك أنه لا يوجد أي شخص بالفعل هناك.
ثم تراه يستدرك مسائلا نفسه “إذا كان ووكر لا قيمة له، فلم يحمل هذا القدر من الأهمية بالنسبة إليه؟ وما الذي يحاول أن يريه إياه؟”. ويؤكد أن كل ما يريد معرفته حقا هو ما يدور في رأسه الغريب الشكل وقلبه المتعالي، ويقول إنه كل مرة يتساءل فيها عن هذا يقنعه على نحو ما أن ينشغل بنفسه.
يستذكر براون الأيام الأولى من حياة ابنه ووكر، والسؤال الذي سأله إياه الطبيب ساوندرز “نريد لهذا الولد بالتأكيد أن يعيش، أليس كذلك؟”. واستنتج أن ذاك السؤال كان سؤالا بلاغيا تضمن سؤالا آخر لم يقله “لا يمكن لهذا الولد أن يعيش دون بذل مجهود غير عادي، هل تقبلون أن تبذلوا هذا المجهود غير العادي وأن تتكيفوا مع العواقب؟”.
ويؤكد الكاتب الكندي أن إجابته ما كانت لتتغير، وأنه مستعد لتحمل الجهد والتعب، إذ يجزم أنه لا يمكن لكل النظريات الأخلاقية في العالم أن تغير من ضغوط اللحظة، حالة الطفل الذي يصرخ على منضدة الفحص وبطنه المنتفخة، وقلق الطبيب الواضح، ووالده يقف في هذا المشهد لا يفعل شيئا سوى سماع نداء الطفل وحاجته، وينقل ما اعترك في قرارته من أسئلة حيال مصير ابنه لو ترك من غير عناية، أو تم اللجوء إلى حالة الموت الرحيم، لكنه يتحفظ على أفكاره، ويؤكد أن ما حصل هو ما كان ينبغي أن يحصل.
فضاء أسود
يجد براون أنه غالبا ما كان يتساءل إذا ما كان التقدم الذي يحرزه ابنه هو نتاج خيالهم فقط، وأن الروابط التي كانوا يرون أنه يقوم بها هي محض اختراعهم، هل كان يقول فعلا بعض الكلمات أم كان يتنفس، وهل كان يشعر بأي شيء؟
ويؤكد الكاتب أن ابنه كان يجعله يعيش في الحاضر، فهو لا يترك له خيارا إلا ذلك، لكنه نتاج الماضي مثل أي شخص آخر. ويعتبر أن تاريخ رعاية المتأخرين عقليا هو قصة معاناة مع اللامعقول، صراع الإنسان مع ما يخيفه، سعيه للتغلب على ما يواجهه، ويشير إلى أن هناك دليلا أثريا على أن إنسان “النايندرتال” كان يرعى أفراد قبيلته من المعاقين بدنيا، ويجد تلك اللحظات نادرة بلا ريب في مسار الإنسان المتحضر.
يستذكر براون كذلك أفلاطون وأرسطو اللذين أشارا، لأسباب مختلفة، إلى ضرورة قتل المشوهين بعد ولادتهم مباشرة، وكيف كان من حق الأب في إسبرطة أن ينهي حياة طفله الضعيف، وكان المعاقون عقليا يربون في الظلام في روما، إذ كانوا يعتقدون أن هذا علاج لهم، حتى اعترض على تلك الممارسات الجراح الروماني سورانوس الذي يوصف بأنه الأب الروحي لطب أمراض النساء وطب الأطفال.
يقول بروان إنه يواصل الحديث إلى الفضاء الأسود الذي به نقط بيض، وإنه يواصل الحديث إلى ووكر، وبالطبع ليس ووكر وحده من بحاجة إلى مواصلة السماع إليه وهو يتكلم، فهو نفسه الذي يحتاج إلى مواصلة الحديث إلى ووكر، ويخشى ما سيحدث إذا توقف عن ذلك.
ويؤكد الكاتب أن ابنه ووكر أراه ما لم يكن يريد أن يراه، وأيضا ما لم يكن ليراه لولاه، كقدرته على جعل أية لحظة تمر بالمرء ذكرى لا تنسى، وقدرته على تقدير أهميتها. ويؤكد أنه “لا أحد منا يريد أن يكون مجنونا، ولكن هناك أهداف عديدة لوجود حالات الجنون في حياتنا، بوصفها طريقا للتأمل الذاتي الصعب”.
كما يجد أنه في عالم ما قبل العلم، عصر شكسبير وسرفانتس، حين كان لكل من الفن والخيمياء والمنطق والوحي السماوي والخبرة نفس المكانة، كان الجنون كرمح مباشر في ظلام الوجود الإنساني. الإنسان الذي ولد للألم والحزن فقط ليواجه الموت.
يشار إلى أن الكتاب كان الأكثر مبيعا في كندا، وحاز على جائزة تشارلز تايلور للأعمال الأدبية غير القصصية، وجائزة مؤسسة بريتيش كولومبيا اليومية للأعمال الكندية غير القصصية، وحصل على لقب أفضل كتاب بحسب تصنيف عدة صحف كندية.
الجزيرة نت