بروبغاندا الحرب الوحشيّة التي لا تعرف كيف تتجمّل/ يارا بدر
قبل زمن ليس ببعيد، أثارت صورة جثمان الطفل حمزة الخطيب هيجاناً في الشارع السوري الثائر، كان طفلاً برّر بعض المؤيدين العنف الوحشي الذي تعرّض له، من تعذيب وقتل وبتر لأحد أعضائه، بأنّ هذا الفتى، الذي لم يبلغ سن الرشد آنذاك، كان في طريقه لاغتصاب نساء من زوجات مقاتلي القوات الحكومية.
أثارت الصورة يومها في أواخر صيف عام 2011 استنكاراً عالمياً مشابهاً في مداه لذاك الذي أثارته صورة الطفل إيلان، الذي لفظ البحر جثمانه وأرساه على أحد الشواطئ المهجورة أواخر صيف هذا العام.
«عنف الصورة» أو استغلال وسائل الإعلام، كسلاح حربي يتجاوز حتى ما عرفناه من أهداف «البروبغاندا الحربية» التقليدية دفع بالكثير من الباحثين والصحافيين للكتابة حول هذه القضية، والبحث مُجدداً في السؤال الأخلاقي الإشكالي: هل يحق لنا عرض آلام الآخرين؟ لحظات ضعفهم أو انهيارهم؟ أم أنّ هذه ضرورة تبيحها قسوة الواقع الذي تعرّى في كثير من دول العالم وعبر سنوات من إنسانيته؟
«داعش» بدورها طوّرت مفهوم «عنف الصورة» لتصل به إلى مراحل من «الإرهاب البصري»، متعمدّة تقنيات عالية، وفنيين اختصاصيين وخبراء في عالم التصوير والمونتاج وقطع الرؤوس، فمن ينسى فيديو إعدام الجنود المصريين على شاطئ البحر في ليبيا، الذي صوّر الإعدام الوحشي لرجال تنتظرهم عائلاتهم وزوجاتهم وأمهاتهم أن يعودوا لتعود إليهم الحياة التي عرفوها وحلموا بها وبنوها يوماً بعد يوم، صوّره كأنّهم حلم سُريالي يمتزج فيه أحمر دماء الرجال المسلوبة حيواتهم بموج بحر يتهادى على رمل بلا ذاكرة. أرادت «داعش» أن ترهب العالم فكريّاً وأن تخلق هذا الأثر العميق للرعب، الذي يمكن له أن يتفوّق ربما حتى على واقع عتادها وتعدادها، ولم يتوانَ فضول ماكينة العالم الإعلامية عن فتح صندوق «بندورا» الداعشي، فيديو إثر الآخر، وصورة عقب صورة تناقل العالم صور الرؤوس المقطوعة، وعرضتها «التايمز» على غلاف أحد أعدادها، وكأننا أمام وحشية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً! في الوقت الذي رفضت فيه هذه الماكينة على سبيل المثال الرضوخ لقوّة عشرات آلاف الجثث لشباب ونساء ورجال قضوا حياتهم ليس بضربة وحشيّة واحدة، بل بلحظات متواصلة من الألم واجترار الذكريات، وهم يدركون تماماً أنهّم يموتون، وفي وسط ضربات التعذيب المستمرة ليلاً وفجراً وألم لا يتوقف وصراخ لا يهدأ وجوع يقرّح الأمعاء حتى تنزف دماً، يحلمون بلحظة سكينة، قد لا تكون سوى في القبر.
هل يعني هذا أنّ ما يقوم به «داعش» غير وحشي؟ أو أنه فعل لا ينتهك الكرامة الإنسانيّة ويحوّلها إلى سلعة للعرض وسط بروبغاندا حربية سياسية لا تعرف مفردات الأخلاق الإنسانيّة، بالطبع لا. الأزمة التي نواجهها اليوم هي تسييس العمليّة الإعلاميّة حتى غدت كلّ الأطراف مشاركة بدرجة أو بأخرى في هذه المسؤوليّة عن استمرار وانتشار انتهاك الكرامة الإنسانيّة المستمرة، وكأنّنا ضحايا نتوسل مزيداً من العنف.
العنف المُمارس في سوريا من جميع أطراف الصراع المحليّة والدوليّة، ويُعرض للعالم ليس مرتبطاً بالنظرة الكلاسيكية للدماء، وصور القصف ودمار المنازل، هذه الصور التي أشبعت منها الذكرة البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد رواندا والبوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا والحرب الأهليّة في لبنان والصومال وتطول القائمة. يتبارى أطراف الصراع في عرض وحشيتهم، في الوقت ذاته الذي يحاولون فيه ترتيب خطاب دبلوماسي يسوّقهم سياسياً كمشاريع قادة مستقبليين، ففي 1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2015 عرض فصيل «جيش الإسلام» العسكري صوراً لأسرى وضعهم في أقفاصٍ وكأنّهم حيوانات للعرض وليسوا بشراً، وتناقلت القنوات الإعلاميّة الفيديو الذي نشرته شبكة «شام» الإخباريّة المعارضة، حتى أنّ قناة مثل «أورينت» تناست القيم المهنيّة بشكلٍ كُليّ وتحوّلت إلى قناة تسوّق للعسكرة والعنف والطائفيّة تحت مسمّى «الثورة» لم تتوانَ عن تسميّة عناصر هذا الفصيل وما يقومون به باسم «ثوّار»!
يُسيطر فصيل «جيش الإسلام» الذي يقوده مُقاتل سوري سابق في العراق يُدعى «زهران علوش» على منطقة «دوما» في الغوطة الشرقية شمال شرق العاصمة، وهي ليست المرّة الأوّلى التي يقوم فيها هذا الفصيل بانتهاكات لحقوق الإنسان، إذ أنّ خطف ناشطي «مركز توثيق الانتهاكات- VDC « وقع في منطقة سيطرته قبل أكثر من عامين وحتى اليوم لم يعترف الفصيل بمسؤوليته حتى عن إجراء تحقيقات فعليّة أو السماح لخبراء دوليين بدخول المنطقة وإجراء التحقيقات اللازمة للكشف عن مصير الحقوقية رزان زيتونة وزوجها الناشط السلمي وائل حمادة وزميلهما في العمل الشاعر والمحامي ناظم حمادي، والمعتقلة السياسية السابقة سميرة الخليل.
بحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان» فإنّ الرجال الذين ظهروا في الفيديو هم ضباط في الجيش السوري المقاتل، وأنّ الغاية من أسرهم هي استخدامهم كدروع بشريّة ضدّ الضربات الجويّة التي ينفذها الطيران الحكومي، الأمر الذي يخالف اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 الخاص بحماية الأسرى ومنع استخدامهم كدروع بشريّة، لكن الأسوأ هو اعتقال النساء اللواتي ظهرنّ- أُجبرنّ على الظهور- في الفيديو بلباس طويل وغطاء رأسٍ أبيض، حتى أنّ مصوّري الفيديو لم يمانعوا من عرض طفلٍ صغير يدافع عن هذا الاعتقال وعن تصوير الإنسان في هذه الصورة ليكون جزءاً من عمليّة إخباريّة يتناقلها العالم.
لكن هل حقاً يمكن لنا الاعتراض على وحشيّة تصوير الإنسان بهذه الطريقة، بعد أن استغلت الماكينة الإعلامية صور الديكتاتور صدام حسين رئيس العراق سابقاً وهو في قفص الاتهام؟ وبعد أن تناقل العالم حتى الملل صور الرئيس المصري السابق حسني مبارك بنظارته الشمسيّة خلف قفص الاتهام؟ سيقول البعض أنّ تلك الصور هي لمحاكمة قانونيّة ونقل إجراءاتها وحيثياتها، في حين أنّ صور علوش ليست سوــى للعرض العــــنفي الذي ينتهك الكرامـــــة الإنسانيّة بدون محاكمـــــة وبدون أخلاقيات، وقد لا أملك القدرة على أن أقول: لا.
لكن كلانا سيعلم ضمناً أنّ فنيّة التصوير وطريقته هي المحوريّة، وأنّه يبقى في جميع الأحوال الإنسان هو هدفنا، وبالتالي تحتم علينا أخلاقنا عدم الخضوع لأيّ مبررات أو مسوّغاتٍ تعرض الإنسان في صورة حاربت وتحارب لمنعها عن الحيوانات جميعات حماية الحيوان. فمن في القفص، أيّاً كان اسمه، هو حياة بأكملها، إمّا نحترمها ونرفض عرضها بهذه الوحشيّة أو نقبل. فإلى متى سنستمر في القبول؟
٭ كاتبة سورية
القدس العربي