بشار الأسد والحل العراقي/ غازي دحمان
لا يمكن النظر الى حالة استبعاد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق من السلطة، كحالة منفصلة عن السياق العام الذي تجري فيه حوادث المنطقة والترتيبات المستقبلية بخصوصها، بل يمكن تفسيرها باعتبارها نمطاً جديداً من التفكير والتقدير فرضته المتغيرات الدراماتيكية في المنطقة، والتي لم يكن من الممكن الاستمرار معها بذات المقاربات السابقة التي أدت الى كارثة باتت تدق ابواب الجميع، بمن فيهم من كان يعتقد أنه سيستفيد من تعميم الفوضى والخراب ويسعى الى إمكانية توظيفهما في إدارة مفاوضاته مع البيئة الدولية.
تتبنى أميركا معادلة تدخلية جديدة في المنطقة، تشترط هذه المعادلة إحداث ترتيبات سياسية كمقدمة لإعادة الاستقرار في الإقليم، ويأتي هذا الاشتراط على خلفية متغيرين هامين: الأول ظاهرة الفوضى المنفلتة والتي بات من الصعب ضبطها أو تقدير مدياتها والحدود التي يمكن أن تصل اليها. والثاني، العجز الواضح لدى الأنظمة السياسية في المنطقة على معالجة هذه الظاهرة أو التصدي لها، وخاصة في ظل الضعف الشديد الذي ظهر به الجيشان العراقي والسوري وانهيارهما المذل على مساحة جغرافية تمتد من الرقة الى الأنبار.
من الواضح أن تطبيق تلك السياسة واحتمالات نجاحها يستدعى بالدرجة الأولى إعادة تموضع إيراني جديد تجاه قضايا المنطقة، وتحديداً في العراق وسورية، وكانت الإدارة الأميركية، التي طلبت من إيران مساعدتها بإلحاح ووضعت حزمة من الشروط، بعضها علني وكثير منها سري، غير أن ما كشفه اللقاء الصحافي للرئيس باراك أوباما مع توماس فريدمان، تركز على ضرورة أن تكون السياسة الإيرانية أكثر مرونة وواقعية تجاه ملفات المنطقة وتخفف من حدة انخراطها السلبي الذي أوصل الى هذه الدرجة من الفوضى والخراب.
الغالب أن التوجه الأميركي بات يلاقي رغبة إيرانية في الخروج من الأوضاع المأزقية التي وجدت طهران نفسها فيها بعد انخراط عنيف ومستنزف في المنطقة، ولا شك أن الأميركيين الذين يتفاوضون منذ مدة مع الإيرانيين بشأن ملفهم النووي باتوا يملكون خريطة طريق كاملة بنقاط الضعف الإيرانية وهم يتفحصونها واحدة تلو الأخرى ويبنون عليها خياراتهم وسياساتهم تجاه إيران، وفي الوقت الذي كانت طواقم الدبلوماسية الإيرانية تمارس مناورات مجهدة ومكشوفة كان نظراؤهم الأميركيون ينهمكون في تفحص الواقع الايراني لمعرفة مدى تطابقه مع المزاعم السياسية الإيرانية، ولعل التكتيك الذي استخدمته إدارة أوباما، وكانت نتائجه واضحة للعيان حتى صار نمطاً تفاوضياً، يقوم على عدم التأثر بالمناورات الإيرانية أو التعامل بشكل جدي مع المعطيات التي كانت القيادة الإيرانية تحاول التفاوض عليها، بل على العكس كان القرار الأميركي بترك تلك المعطيات تتفاعل في بيئتها لتتحول الى طاقة سلبية تنهك إيران وتضعف قدراتها، وهو ما حصل في حالتي محاولة ترسيخ نوري المالكي وبشار الاسد كمعطيات نهائية تجاوزتهما إمكانيات التفاوض.
وحدها إيران كانت على علم دقيق ومفصل بحجم الاستنزاف الذي وصلت اليه، وقد انعكس هذا الأمر الى انقسام سياسي بات من السهل ملاحظته بين تيار حسن روحاني وتيار المتشددين من الحرس الثوري، ذلك أن روحاني الذي جرى تكليفه فتح نوافذ وأفق جديدة في علاقات طهران الإقليمية والدولية بات يطالب بصلاحيات أوسع لتحقيق هذا الأمر وإلا فإن هذا التكليف سيغدو غير واقعي وأشبه بنوع من التذاكي فات أوانه، ولعل من مؤشرات ذلك الانقسام الكلام الصادر عن السفير الإيراني السابق بدمشق، حسين شيخ الإسلام، والذي يشغل منصب مستشار لدى رئيس مجمّع تشخيص مصلحة النظام، هاشمي رفسنجاني، والذي اتهم فيه بشار الأسد بالقاتل وبأن إيران لا توافقه سياساته تجاه الشعب السوري، وبكل الأحوال حتى لو أريد من هذا الكلام إدراجه ضمن سياق المناورة السياسية إلا أن قيمته تأتي من كون شيخ الإسلام شاهد عيان حقيقي وعلى مدار ثلاث سنوات من التنكيل الذي مارسه نظام الأسد ضد الشعب السوري.
في كل الأحوال، تتزامن إرهاصات التحول الإيراني مع وقائع ليست سارة بالنسبة لحليفها السوري، دع عنك حجم الانهيار الكبير في صفوف قواته وقوات حلفائه، ثمة ظاهرة خطيرة باتت تسيطر على مشهد جبهة بشار الأسد تتمثل بحالة من التذرر والانقسام داخل المكون المؤيد له، حيث باتت تنتشر ظاهرة تشكيل الميليشيات العائلية ويجري تمويلها إما من قبل أشخاص سابقين في النظام، أو عن طريق عمليات السطو والنهب حتى من البيئة التي ينتمون إليها مباشرة، ما يعني أن جبهة الأسد مقبلة على تشظيات وانهيارات في مختلف بناها بما يجعل من الصعب الاعتماد عليها في أي مهمة قادمة.
لا شك أن هذا الأمر، والذي تعرفه إيران جيداً ، جعلها تدرك أن نظام الأسد لم تعد تنفع معه عمليات الحقن، بل إنه صار وصفة لنفاد المجاهيد، ولا يمكن لسياسة عاقلة الاستمرار في الرهان عليه، كما أن إيران باتت تدرك أن ذراعها في المنطقة« حزب الله« يسير حثيثاً الى عتبة الانهيار، وقد وصل به الأمر الى حد بيع الحشيش بالجملة والمفرق ليمول نشاطه، في الوقت الذي تترسخ فيه القناعة لدى طهران أن تقديراتها كانت خاطئة ومتحمسة بل ومضللة كثيراً.
المخرج العراقي الذي قدمته أميركا لإيران في العراق، لن يتأخر كثيراً قبل أن يدق أبواب قصر المهاجرين، وإيران المشغوفة جداً بمسألة التقارب مع واشنطن لا بد أنها قد هيأت ملف الأسد، التحولات الداخلية لديها والاستحقاقات التي تنتظرها تدفعها الى الجري وراء هذا الخيار، وهي في الواقع أمام فرصة تمنحها واشنطن لها لتصحيح أخطائها والخروج من كومة الخراب، الذي سيبدأ بالتبرؤ من كل مفاعيله، وتصريح الشيخ حسين بداية لهذا المسار الذي يختمر في طهران ويعمل حسن روحاني على تدعيمه عبر بناء مسار سياسي موازٍ وداعم له في بنية صناعة القرار الإيراني.
سيرفض بشار الأسد عملية بيعه أو استبداله، لكن من المؤكد أن طهران تملك خيارات كثيرة داخل النظام، وسوف تقنعه بأن فرص نجاته كبيرة في حال خرج في إطار هذه الصفقة، في حين سيأتي زمن لا هو يستطيع أن ينجو ولا إيران تستفيد من بيعه.
المستقبل