بعد الثورة ـ هل سيكون السوريون شعبا واحدا/ محمد إقبال بلّو
تختلف السيناريوهات المتوقعة حول نهاية الثورة السورية نصراً أو هزيمة، وتتباين من حيث التكهنات الزمنية لذلك، بل تتعدد الرؤى والأفكار حول إمكانية بقاء سورية كياناً جغرافياً واحداً، أو إمكانية أن تتقسم إلى دويلات صغيرة أو إلى أقاليم مستقلة، ورغم كل ما نراه يومياً من آراء وتوجهات، يتجاهل معظمنا أمراً قد تم حدوثه أو يتم حالياً، بتدرج مخيف وسريع الوتيرة، وهو توجه البلاد نحو تقسيم سكاني مبني على أسس متعددة، أهمل أهميتها معظم الكتاب والمفكرين السوريين وأسرفوا في دراسة إمكانية التقسيم الطائفي أو القومي.
يتكون الشعب السوري من عدة طوائف وإثنيات وتوجهات فكرية عرفها السوريون قبل بدء الثورة السورية، وكان لها تأثيرها الطفيف على علاقاتهم الاجتماعية، وهو تأثير لا يمكن نكرانه مهما كان ضئيلاً أو غير واضح المعالم، ومع بدء الثورة السورية ومع استمراريتها على مدى أعوام وإيغال النظام السوري في سفك الدماء وتفريق المواطنين بأساليبه المخابراتية والجاسوسية حيناً، وببراميله وصواريخ طائراته وقذائف دباباته في أحيان أخرى، نشأت تقسيمات جديدة عرفها السوريون وأهمها، تلك التي تكونت بحسب الموقف من ثورة الشعب السوري ضد جلاده، أو الموقف من الجلاد نفسه إزاء سلوكياته الإجرامية اليومية.
نجد عبارات يرددها المواطنون السوريون بشكل يومي تعبر عن أهم مظاهر التقسيم السكاني في ظل الثورة السورية ومنها: (المؤيد ويقابله المعارض) و(المنحبكجي ويقابله الثائر) و(الشبيح ويقابله المقاتل) و(أعوان النظام من كبار التجار ويقابلهم داعمو الثورة) والعديد من التقسيمات التي تتعلق بالموقف مما يجري على الأرض السورية، ولو قارنا بين تلك الصفات التي ابتكرت بعد الثورة، لوجدنا أن هناك قسما من السوريين لا يستهان به من الذين يقفون إلى جانب النظام كالمؤيد والشبيح والمنحبكجي وداعم الشبيحة، وقسما آخر من الذين يقفون إلى جانب الثورة ضد النظام ومنهم، المعارض والثائر والمقاتل وداعم الثورة، والأهم هو القسم الثالث الذي يمثل فئة كبيرة من السوريين وهم (الحياديون) الذين يرون ألا ناقة لهم ولا جمل في ما يحدث على الأرض السورية، رغم تأثر جميع الأطراف سلباً من مجريات الأحداث الدامية التي تحدث فوق التراب السوري منذ قرابة ثلاثة أعوام.
لن يقع السوريون فريسة لحرب طائفية فقد اعتادوا ذاك التنوع وتأقلموا معه عبر سنين طويلة، لكنهم سيقعون فريسة لهذه التقسيمات الجديدة التي يتوعد كل طرف فيها بإفناء الطرف الآخر، لسنا هنا بصدد الاعتراف بحق طرف على الآخر أو بتجريم طرف ضد الآخر، فالعالم كله يعرف حيثيات القضية ويدرك بما لا يقبل مجالاً للشك أن النظام السوري قد ارتكب جرائم لم تشهد لها الإنسانية مثيلاً بحق شعبه، إلا أننا نجد أن على كل عاقل أن يفكر ويخطط ويجهز برنامجاً ما للعمل به بعد انتهاء الثورة لحل معضلة كهذه، ترى إن انتصرت الثورة هل سيقوم المنتصرون بقتل أو تهجير أو تهميش كل من لم يقف في صفوفها، وإن لم تنتصر ترى هل سيتم قتل وتهجير وتهميش كل من وقف في صفوفها؟
يجد البعض أن الفئة الحيادية هي التي كسبت حتى اللحظة، فمازال عدد كبير من أولئك يستطيع التعامل مع الفريقين ويمسك العصا من الوسط، رغم تفاقم الأحداث فأبو أحمد مثلاً وهو مواطن من ريف حلب الشمالي يتنقل من الأراضي المحررة إلى مناطق النظام بشكل مستمر، ويقوم بتأدية الكثير من الخدمات التي تخص سكان المناطق المحررة الذين يصعب وصولهم إلى مناطق النظام لأسباب مختلفة، يقول أبو أحمد، وهو كهل في الخمسين من عمره: لم أعاد أي طرف ولم أظهر أي موقف وهذا ما تتطلبه حياتي الشخصية، فأنا رجل فقير موظف في إحدى الدوائر الحكومية الخدمية التي لازال النظام يسيطر عليها، وأحتاج إلى راتبي الذي لا املك سواه ولا أتخلى عنه أبداً ما استطعت، فأطفالي بحاجة إلى من يطعمهم وأنا تجاوزت السن التي قد أقدم فيها أي شيء لكلا الطرفين على الصعيد العملي، لكنني أحاول أن أقوم بتلبية بعض الاحتياجات والخدمات لمن هم شبه محاصرين في عدة مناطق محررة أو غير محررة، يحترمني الثوار عندما أمر على حواجزهم ويدركون ما أقدم من خدمات، كما أنني أمر على حواجز النظام بدون عوائق تذكر غالباً ، وأعتقد أن عمري هو السبب فقد تجاوزت الخمسين ، لي موقف معين أحتفظ به في قلبي فقط ولن أصرح به مطلقاً. وبالفعل إن الفئة التي ينضم إليها أبو أحمد هي الفئة التي تعرضت لأقل ما يمكن من خسائر بالنسبة لباقي الفئات، وهذه الفئة يعتقد أنها تشكل أكثر من نصف الشعب السوري، ونراها الفئة الناجية بعد الثورة، حيث ستبقى في نفس الوضع تقريباً ولن يتغير بالنسبة لأفرادها أي شيء مهما تغيرت الأنظمة فتفاصيل حياتهم اليومية تبعدهم كل البعد عن كل ما يحدث أو سيحدث.
تكمن المعضلة في الفئتين الرئيسيتين المتضادتين اللتين ستبقيان على نزاع لسنين طويلة، إن لم يتم الفصل بينهما، هذا الفصل الذي سيؤدي بشكل حتمي إلى تقسيم جغرافي معين، لأن عدم الفصل سيعني بالضرورة التخلي عن 25 بالمئة من المواطنين السوريين (من المتبقين) في الداخل السوري بعد الثورة.
هنالك بعض الحلول التي قد يراها البعض حلولاً رومانسية في ظرف كهذا وهي، ثقافة الانتصار التي تعلمناها عبر التاريخ، خاصة الفتوحات الإسلامية وأخلاق المسلمين عند انتصارهم في المعارك وفتح البلدان والدول وكيفية تعاملهم مع أهلها الذين كانوا بالضرورة مؤيدين لحكامهم ضد الفتح الإسلامي، فالإسلام لم ينتشر في الأصقاع والبلدان قبل فتحها، بل كان يصل للسكان بعد ذلك.
هذه الثقافة التي نرى أن لون الدماء السورية غطاها من كل جانب ولم يعد لها مكان يذكر إلا لدى بعض السوريين الذين همشوا من قبل الطرفين لاعتبارهم حالات شاذة، ومسرحية ‘نهر الجنون’ لتوفيق الحكيم أكبر معبر لما سبق ذكره.
يرى عمر وهو أحد شباب الحراك المدني السلمي، الذي أشعل الثورة السورية، أنه بات من الضرورة تهيئة منظمات مدنية متعددة تغطي جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وتنشر الثقافة الوطنية التي يحتاجها السوريون اليوم ويقول: ‘علينا نحن كشباب ثائر أن نؤسس مئات بل وآلاف المنظمات المدنية التي تكوّن شبكات حامية للمجتمع لتقود مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، ويجب أن ندعو كل الشباب السوريين إلى الانضمام لهذه المنظمات حتى نملأ الفراغ الذي بدأت آثاره السلبية بالتراكم وتشكيل طبقات سوداء ربما تطمس الهوية السورية في ما بعد لو تم إهمالها.
‘ كاتب سوري
القدس العربي