بغداد ودمشق: تعاكس الولاءات!
رشيد الخيّون
تحفظت بغداد على ما اتخذته أغلبية دول الجامعة العربية بحق دمشق، وقد برر الرئيس جلال طالباني، هذا الموقف قائلاً: “لا أخفي أننا قلقون من البديل في سوريا. نخاف إذا جاءت قوى متطرفة تعادي الديمقراطية، وتعادي العراق الديمقراطي” (الفضائية العراقية). كذلك صرح الطالباني: أن العراق ضد التدخل الخارجي في حل الأزمة السورية. وهنا الآية الكريمة تُغني عن المقال: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ” (يس: 78). فالمعارضة العراقية السابقة بذلت كل جهدها من أجل الحصول على العون ضد من كانت تعارضه. فسيقول السوريون: لماذا عليكم التدخل الخارجي حلال وعلينا حرام!
حقاً يستغرب مثل هذا الموقف، وأقل ما يقال: من المفروض أن معارضة الأمس، وسلطة اليوم، هي الأكثر شعوراً بما يعانيه الشعب السوري، وتدرك قيمة هذا التضامن قبل غيرها، لأنها طرقت الأبواب كافة، عندما كانت تنافح ضد النظام ببغداد، وكم كان يؤلمها خذلان الآخرين. يضاف إلى ذلك ما علت به الأصوات العراقية، قبل سنتين، شاكيةً من أن دمشق الرسمية تستضيف أعداءها اللدودين، وتُسهل تحركاتهم ضدها وهي في السلطة.
ومع أن السلطتين، ببغداد ودمشق، كانتا بيد حزب واحد انفلق إلى جناحين: سوري وعراقي، فالأدوات والآيديولوجية واحدة، وانعكاساً للخصومة بين سلطتي الجناحين تخاصمت معارضتاهما، فـ”الإخوان المسلمون” السوريون الذين آوتهم بغداد ظلوا يعدون إسقاط نظامها مؤامرةً وخسارةً، وهذا الرأي ليس فقط لـ”الإخوان” السوريين، بل إن فروعاً لـ”الإخوان” أقامت مجالس عزاء بمقتل الزرقاوي (يونيو 2006)، مع مسؤوليته، المعلنة من قبله، عن مذابح بحق العراقيين.
وبالمقابل فإن المعارضة العراقية السابقة، حصلت على امتيازات من دمشق: جوازات دبلوماسية ومقرات أحزاب، ومراكز تدريب، إلى غير ذلك، وهذا أوجب التعاطف بشتى السبل مع دمشق ضد بغداد لثلاثة عقود ويزيد. لكل هذا قد تتردد معارضة الأمس في تبني عقوبات ضد دمشق. صحيح أن الأمر يطرحه العِراقيون بأعذار كمحاولة سد الطريق على القوى المتطرفة في الوصول إلى السلطة بدمشق، لكن هناك شيئاً كثيراً مما ذكرنا، وهو الارتهان للولاءات السابقة.
هذا ليس موقف الرئيس طالباني إنما هو موقف الحكومة العراقية أيضاً، وعندما نقول الحكومة نعني كتلة “دولة القانون”. أما بقية الكتل، فتراها “العراقية” مغازلةً لطهران والارتهان لفضلها السابق مع المعارضة الإسلامية بالذات، والمخالفون في كتلة الطالباني (الاتحاد الكردستاني) يرونه غير منسجم مع ساسة دول أسقطت لهم النظام في تدخل عسكري يرفضه الرئيس وآخرون في التعامل مع سوريا.
لا يخفى أن السياسة العراقية تلعب فيها الأهواء، ففي العديد من المواقف ما يقوله وزير الخارجية ينسفه وزير النقل مثلا. ولا نقول وزير الداخلية أو وزير الدفاع، فها هي الانتخابات أُعلنت نتائجها (مارس 2010) وسيأتي (مارس 2012) والعراق مازال بلا وزارتي دفاع وأمن، وتلك إشارة كافية إلى هشاشة المشهد السياسي ببغداد.
سيرد سوريون على موقف بغداد، أو بعضه، بأن الدرس العراقي لا يسمح بالتخوف من مجيء متطرفين -حسب طالباني- إلى سدة الحكم بدمشق، فكم متطرفون صعدوا إلى السلطة بالعراق، ومنهم غدوا رؤساء وحدات إدارية ووزراء وقادة ميليشيات، فمنعوا الموسيقى، وأدخلوا إلى المدارس رؤاهم الدينية والمذهبية المتزمتة، وفسدوا بالمال العام أيما فساد، وتجد منهم مسؤولين عن مقاتل علماء وخبراء. لكن أهل السُّلطة، مع تردي الحال، يرون أنه لا وجه للمقابلة بين تعسف النظام السابق والحريات الحالية. بالمقابل هذا ما تفكر به المعارضة السورية أيضاً، إنه مهما كان التوقع من فوضى وهيمنة متطرفين هو أفضل حالا من النظام القائم.
أقول: ما بين العراق وسوريا غير ما بين العراق وسواه من البلدان، علاقات متشابكة على مدى العصور. أكثر من تجاور على الأرض وشراكة في الماء، إنه تاريخ طويل مِن التخالط السكاني، وكم من شاميي الأصول غدوا أصحاب مراكز بالعراق والعكس صحيح. قبل أن يعرف المكان بسوريا، وإن ذكر هذا الاسم فيقصد قديماً مكان بين خُناصرة وسَلَمية، فحسب إطلاعنا، لم تُذكر كبلدة قبل ياقوت الحموي (ت 626 هـ) صاحب “معجم البلدان”. إنما كان الشَّأم، مِن الشَّؤمى “على مشأمة القبلة”، أي يسارها (الفيروزآبادي، القاموس المحيط)، لا من التَّشاؤم. فللمتلمس جرير بن عبد المسيح (ت 580 ميلادية): “أمي شأميةُ إذ لا عِراق لنا.. قوماً نودهم إذ قومنا شوسُ” (شيخو، شعراء النصرانية).
كانت المواجهات قائمة ولقرون بين العراق والشام، وأهل العراق كانوا علويين، سُنتهم وشيعتهم، قبل الانفلاق في الأصول والفروع، بينما أهل الشام كانوا أمويين، ومن قبل كانت الحرب سجالاً بين الغساسنة (220 -638 ميلادية)، العرب من أهل الشام، والمناذرة (266-633 ميلادية)، العرب من أهل العراق، وهما كانا فرعي الصراع الطويل بين البيزنطينيين والساسانيين. حتى قيل: “أما سمعت قول الناس: ليس الشامي للعراقي بصاحب” (التَّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة). على أية حال، من يقرأ التاريخ سيضحك من تجدد الحوادث وتبادل الأدوار بين الأضداد، مع أن الجغرافيا ظلت ثابتة، لكن الدول تبدلت والولاءات تعاكست، فدمشق الأموية لبست الرداء العلوي.
ضيقاً بالعراق، ووداً للشام، عزم الخليفة جعفر المتوكل، سنة 243 هـ، على هجرعاصمة أجداده وآبائه إلى دمشق عاصمة خصومهم، “ونقل دواوين الملك إليها، فأمر بالبناء بها (لولا) استوبأ البلد، وذلك أن الهواء فيها بارد ندي والماء ثقيل… وهي كثيرة البراغيث، ثم غلت الأسعار، وحالت الثلوج بين السابلة والميرة، فأقام شهرين وأياماً، ورجع إلى سامراء” (ابن الجوزي، المنتظم). مع تحفظنا على وصف دمشق بهذا الوصف من قبل عراقي عباسي الهوى! ويُظن رده بيتا الشاعر البصري يزيد المهلبي (ت 259 هـ): “أظُنّ الشام تشمتُ بالعراق.. إذا عزم الإمامُ على انطلاق.. فإن يدع العراق وساكنيه.. فقد تُبلى المليحة بالطـلاق” (المسعودي، مروج الذَّهب).
تجد في التاريخ السوري العراقي القريب الخصومة الطويلة بين الأنظمة والمعارضات، فيصعب طلب موقف عراقي واضح ضد دمشق الرسمية، ذلك لعدم التمكن من خلع رداء المعارضة! لا ألوم المعارضة، عراقية كانت أم سورية، فـ”ليس يلام هاربٌ من حتْفهِ” (الميداني، مجمع الأمثال). إنما هي جدلية السلطة والمعارضة، فلولا خلق كل سلطة لمعارضتها، وبمواصفاتها، لكان اللقاء بين المعارضتين هو الحالة الطبيعية، فما يحصل هو الشذوذ عن منطق الأشياء.
الاتحاد